آبي أحمد... المقاتل صانع السلام

وصفه الصادق المهدي بـ«زارع شجرة الزيتون» و«فخر أفريقيا»

آبي أحمد... المقاتل صانع السلام
TT

آبي أحمد... المقاتل صانع السلام

آبي أحمد... المقاتل صانع السلام

«إن سجلك مثير للإعجاب، ففي وطنك أطلقت سراح آلاف السجناء السياسيين، ورفعت الحظر عن الأحزاب السياسية، وجلبت بذلك آمالاً كبيرة للشعب الإثيوبي... وعلى المستوى الإقليمي، زرعت شجرة من أغصان الزيتون، خاصة السلام مع إريتريا، والوساطة الناجحة في السودان، إن نيلك جائزة السلام مثار فخر لأفريقيا، وسوف يعطي رافعة لإصلاحات ديمقراطية أكبر في إثيوبيا».
هذا مقتطف من رسالة وجهها السياسي السوداني المخضرم، ورئيس الوزراء السوداني الأسبق الصادق المهدي، لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بمناسبة فوزه بـ«جائزة نوبل للسلام»، مهنئا بجهوده الداخلية والخارجية في بسط السلام في القارة الأفريقية، ومطالباً إياه بلعب دور مشابه لحل معضلة «سد النهضة» بسلام.

ما المزايا التي أوصلت أبيي أحمد لقيادة إثيوبيا، وأهّلته بالأمس للفوز بـ«جائزة نوبل للسلام»، ونقلته من منصة «المحارب القديم» إلى منصة «صانع السلام» على المستوى الدولي؟
الذين يعرفون الرجل يشهدون بأنه فرض نفسه بقوة على منصّات التواصل القديمة والحديثة، وشغل العالم بإنجازاته خلال فترة وجيزة بعد تسلمه السلطة في بلاده.
البداية
ولد آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، يوم 15 أغسطس (آب) 1976، لعائلة فقيرة ورقيقة الحال، في منطقة غارو بمدينة جيما في إقليم أورومويا بجنوب غربي البلاد. إذ إن أباه مسلم من قومية الأورومو وأمه مسيحية من قومية الأمهرا.
وكانت حياة أحمد شاقة، إذ عاش في منزل يخلو من مستلزمات الحياة العصرية، كمياه شرب نظيفة وكهرباء. وتقول التقارير إنه كان ينام على حصير حتى كبُر، إلا أن اليافع الإثيوبي الطّموح لم يستسلم، بل واصل الكفاح حتى أصبح رئيسا لوزراء إحدى كبريات دول أفريقيا، وفي خلفية أحلامه تخليص الأجيال الجديدة من الفقر الذي يعده عدو إثيوبيا الأول.
الطموح العلمي
لم تَحُل النشأة الرقيقة دون طموح آبي أحمد العلمي والأكاديمي، ولم تكفِه المناصب العسكرية التي أوكلت له، فواصل جهوده من أجل التعلم، وتأهيل نفسه أكاديمياً. وبالفعل، حصل على درجة البكالوريوس في هندسة الكومبيوتر من كلية «ميكرولينك لتكنولوجيا المعلومات» بأديس أبابا عام 2001، ثم الدبلوم في تطبيقات تشفير المعلومات عام 2005 من جامعة بريتوريا بدولة جنوب أفريقيا. ثم حصل على ماجستير في التغيير والتحوّل من جامعة غرينيتش البريطانية 2011، وماجستير آخر في إدارة الأعمال 2013. وأخيراً، نال درجة الدكتوراه من معهد دراسات السلام والأمن بجامعة أديس أبابا 2017 عن أطروحة بعنوان «النزاعات المحلية في البلاد». ومن ثم، تأهل للعمل رئيسا لمجلس إدارة جامعة جيما، وبنك أروميا للتمويل الأصغر، وشبكة أوروميا للإذاعة.
منذ مرحلة المراهقة كان أحمد مهموماً بالأوضاع في بلاده. وهو ما دفعه للانخراط في الكفاح المسلح ضد ديكتاتور إثيوبيا الشهير منغستو هايلي ماريام. وبالفعل، انتمى لـ«الجبهة الديمقراطية لشعب الأورومو» وقاتل في صفوفها نظام منغستو، الذي اشتهرت قواته باسم «الديرغ»، حتى سقوط حكمه عام 1991، ضمن تحالف «الجبهة الثورية الديمقراطية الإثيوبية».
عام 2010 أصبح أحمد عضوا في اللجنة المركزية للتحالف الذي أسقط نظام «الديرغ» الذي قاده الراحل ملس زيناوي، مؤسّس الدولة الإثيوبية الحديثة وأول رئيس لوزرائها. وضم هذا التحالف المعروف بـ«الجبهة الديمقراطية الشعبية الثورية الإثيوبية» يومذاك، كتل «الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية» و«المنظمة الديمقراطية لشعوب الأورومو» و«جبهة تحرير التيغراي» و«حركة الأمهرا الوطنية الديمقراطية». كذلك، انخرط أحمد في الجهاز الأمني لـ«الجبهة». وبعد سقوط نظام «الديرغ» في1991 التحق رسمياً بالجيش الإثيوبي، وانضم بعدها إلى وحدة الاستخبارات والاتصالات العسكرية وأسهم في تأسيس هذه الوحدة المهمة فيه. ثم تدرّج فيها حتى وصل إلى رتبة عقيد عام 2007.
غادر أحمد الاستخبارات عام 2010، وبدأ عمله السياسي عضواً بحزب الأورومو الديمقراطي، ثم انتخب نائباً في البرلمان الإثيوبي عام 2010، وأعيد انتخابه 2015. وبعد ذلك، عيّن وزيرا للعلوم والتكنولوجيا بالحكومة الفيدرالية بين 2016 إلى 2017. كما كان مسؤولاً عن مكتب التنمية والتخطيط العمراني بإقليم أوروميا، وترقى لنائب رئيس إقليم أوروميا بنهاية 2016.
وفي العام نفسه استقال رئيس الوزراء هيلا مريام ديسالين من منصبه فجأة إثر الاحتجاجات المناهضة لحكومته في إقليم أمهرا، وقمعتها السلطات التابعة له بعنف، ووجد انتقاداً محلياً وإقليمياً واسعاً، اضطر التحالف الحاكم تبعاً له لتعيين آبي أحمد رئيسا للوزراء في 2 أبريل (نيسان) 2018.
اختياره رئيساً للوزراء
قدّم رئيس الوزراء السابق هايلي ماريام ديسالين استقالته من الوزارة ورئاسة الائتلاف الحاكم، وقال إن الهدف من الاستقالة تعزيز الجهود لوضع حلول لمشاكل بلاده، متحملا بشكل غير مباشر المسؤولية عن الاضطرابات التي شهدتها إثيوبيا وراح ضحيتها عدد من القتلى ونزوح آخرين.
وثار مواطنون من الأورومو، الذين يمثلون أكبر قوميات إثيوبيا تعداداً، على خطط لتوسيع العاصمة أديس أبابا باعتبارها على حساب إقليمهم الذي تقع فيه العاصمة، إضافة إلى ما وصفوه بالتلكؤ في إطلاق سراح معتقلين سياسيين ينتمون لقوميتهم. وبالفعل، أغلقوا الطرقات حول أديس أبابا وسدوا الطرقات البرية، وأوقفوا وسائط النقل العام عن العمل، وعندما واجهتهم الأجهزة الأمنية بعنف، سقطت أعداد من المحتجين قتلى.
استمر ديسالين في تأدية مهام منصبه لتسيير الأعمال منذ فبراير (شباط) 2018 حتى تعيين رئيس البرلمان والائتلاف الحاكم آبي أحمد رئيساً بديلاً في أبريل من العام ذاته. ويوم الخميس 29 مارس (آذار) 2018، صادق مجلس نواب الشعب الإثيوبي على تعيينه رئيساً للوزراء بغالبية مطلقة، ليجلس «الأربعيني» الإصلاحي منذ ذلك الوقت في موقع السياسي والتنفيذي الأول في البلاد المكتظة بالسكان والمتعددة القوميات، ويبلغ عدد سكانها نحو 100 مليون نسمة.
مصالحات داخلية
على صعيد ثانٍ، منذ يومه الأول في الحكم، شرع آبي أحمد في عقد مصالحات بينية بين شعوب وقوميات إثيوبيا، زار خلالها أقاليم إثيوبيا المتعددة. وكانت البداية في إقليم «الصومال الإثيوبي»، وأنهى نزاعا بين سكان الإقليم وسكان إقليم «أوروميا» المجاور قتل فيه المئات. ثم انتقل إلى معقل معارضة الأورومو وعمل على تهدئة الشباب الثائر، وبعد ذلك زار مدينة مقلي، حاضرة إقليم التيغراي، وطمأن السكان على حفظ مصالحهم القومية. ثم انتقل إلى مدينة غوندر، حاضرة إقليم الأمهرا، التي شهدت أعمال عنف ضد التيغراي، وأفلح في إطفاء فتيل التوتر المستمر منذ سنوات هناك. وأيضاً، أنهى رئيس الحكومة الشاب في زيارة لمدينة أواسا، العاصمة الإدارية لإقليم «أقوام الجنوب والقوميات والشعوب» أزمة قبلية في الإقليم الذي تقطنه أكثر من 56 قومية من أصل 80 قومية إثيوبية، وأنهت زيارته أعمال العنف المندلعة هناك.
وإثر نجاحه في المصالحات القبلية والسياسية، شرع أحمد في تهدئة الخلافات الدينية، بالتوفيق بين المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ولجنة تحكيم المسلمين بإثيوبيا، وتحقيق المصالحة بين الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية في أديس أبابا، والكنيسية الأرثوذكسية في الولايات المتحدة الأميركية، وعودة بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية في إثيوبيا إبونا مركوريوس إلى بلاده، بعد منفى دام 27 سنة.
المحارب... صانع السلام
في يونيو (حزيران) 2018 أعلن آبي أحمد، بعد أن أجرى سلسلة إصلاحات داخلية غير مسبوقة، رغبته في إنهاء النزاع الحدودي المتطاول والمستمر منذ عام 1998 مع جارته إريتريا، مؤكداً استعداد بلاده لتنفيذ اتفاق السلام الموقع بين البلدين في عام 2000، واستعدادها لقبول قرارات لجنة التحكيم الدولية بشأن الحدود المشتركة.
نشبت الحرب بين إثيوبيا وإريتريا في مايو (أيار) 1998، على خلفية نزاع حدودي على بضع مئات من الكيلومترات من الأراضي الصحراوية، بعد أن اتهمت إريتريا «جارتها» الكبرى إثيوبيا بتغيير خط الحدود البالغ طولها نحو ألف كيلومتر، والتي لم تخطط منذ استقلال إريتريا عن الإمبراطورية الإثيوبية تسعينات القرن الماضي، فيما اتهمت إثيوبيا إريتريا بأنها انتهكت أراضيها بغزوها للمنطقة المشهورة بـ«مثلث بادمي»، وبعد أن فشلت المفاوضات بين البلدين شنّت إثيوبيا هجوماً واسعاً اخترقت فيه الخطوط الإريترية.
لكن وساطة جزائرية أفلحت في إنهاء النزاع الدامي بين الطرفين، فوقّعا اتفاق سلام في يناير (كانون الثاني) 2000 بالعاصمة الجزائر، وتوقفت حرب أسفرت عن سقوط نحو ثمانين ألف قتيل. ونص «اتفاق الجزائر» على إقامة «منطقة أمنية» مؤقتة فاصلة بعرض 25 كيلومتراً على طول الحدود، تحت مراقبة من الأمم المتحدة، وقضت لجنة تحكيم دولية بأحقية إريتريا في المناطق المتنازعة، بيد أن إثيوبيا رغم اعترافها بالقرار، لكنها ماطلت في تنفيذ بنوده.
فجأة وفي 8 يوليو (تموز) 2018، عقد رئيس الوزراء الإثيوبي لقاء وصف بأنه تاريخي مع الرئيس الإريتري آسياس أفورقي، وقعا فيه إعلاناً مشتركاً ينهي حالة الحرب. وفور توقيع الإعلان قام أفورقي بزيارة كبيرة إلى إثيوبيا بعد مقاطعة طويلة، أعيد خلالها فتح سفارتي البلدين، وأعقبها استئناف الرحلات الجوية، أعادا في سبتمبر (أيلول) 2018 فتح مركزين حدوديين مغلقين منذ عشرين سنة، بعدما وقعتا اتفاقية سلام برعاية المملكة العربية السعودية.
ولم يكتف آبي أحمد بتطبيع العلاقات بين بلاده وإريتريا، بل سعى لبث روح التعاون وإنهاء الخلافات المعقدة بين «دول القرن الأفريقي»، وشهدت العاصمة الإريترية أسمرا في سبتمبر 2018 قمة ثلاثية بين آبي أحمد وأفورقي والرئيس الصومالي عبد الله فرماجو، بعد قطيعة إريترية صومالية طالت 15 سنة، على خلفية اتهامات لإريتريا بدعم إرهابيي «الشباب الصومالي» المرتبط بتنظيم «القاعدة».
وبالنسبة للسودان، في 17 أغسطس الماضي، مهر آبي أحمد بتوقيعه شاهداً على وثائق الانتقال السودانية وتشمل «الإعلان السياسي، والوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية في السودان»، معلنا نهاية فترة عصيبة في تاريخ السودان. ولفتت دموع مبعوث ووسيط آبي أحمد ومستشاره للسودان السفير محمود درير لحظة التوقيع المبدئي على اتفاقية الشراكة بين العسكر والثوار السودانيين، أنظار العالم وشغلت وسائل الإعلام.
وفي 7 يونيو 2019 زار الزعيم الإثيوبي السودان لحث الأطراف للعودة للتفاوض مجدداً ضمن جهوده للمصالحة في السودان، ليقنع «قوى الحرية والتغيير» و«المجلس العسكري الانتقالي» بالعودة للتفاوض بعد «صدمة فض الاعتصام»، وتكوين هياكل السلطة الانتقالية بشكلها الحالي باعتبارها جزءاً من المبادرة الإثيوبية للتوافق السوداني.
ومع توقيع الوثائق الحاكمة للفترة الانتقالية في السودان، نجح آبي أحمد في منع انزلاق البلد ذي الروابط القومية مع بلاده في الفوضى.
حكومة نصفها من النساء
وفي مجال المنجزات، أيضاً، تعد الوزارة الثانية التي شكلها آبي أحمد في أكتوبر (تشرين الأول) 2018، هي الأولى من نوعها في التاريخ الإثيوبي، التي «تشغل» النساء نصف حقائبها (10 حقائب وزارية من جملة الوزارات البالغة 20 وزارة للنساء). وقال أحمد في كلمته عن إعلان الحكومة «المرأة ستساعد في محاربة الفساد لأنها أكثر كفاءة، وأقل فساداً من الرجل».
وحقيقة الأمر، لم يكلف أحمد نساءه بـ«الوزارات الهامشية»، أو تلك المتعلقة بالمرأة والطفل كما جرت العادة في دول العالم الثالث، بل سجل في تاريخ إثيوبيا أن السيدة عائشة محمد دونت بصفتها أول وزيرة للدفاع في البلاد، كما عين السيدة موفريات كامي وزيرة للسلام بعدما كانت تشغل منصب رئيسة البرلمان، وتشمل مهمتها الإشراف على الاستخبارات وجهاز الأمن والشرطة، وهو منصب كان حكراً على الرجال في إثيوبيا. ومما قاله أحمد، وهو يقدم وزارته الجديدة عن الحصة غير المسبوقة التي حظيت بها المرأة الإثيوبية، «وزيراتنا سيحطمن المقولة القديمة إن النساء لا يصلحن للقيادة»، وفقا لما نقلته وكالة «أسوشييتد برس» وقتها.
وفيما يبدو أنه اتساق مع رؤية أحمد، انتخب البرلمان الإثيوبي 25 أكتوبر 2018، السيدة سهلي - ورق زودي رئيسة للدولة بغالبية ساحقة، لتتقلد هي الأخرى لأول مرة المنصب الرفيع في تاريخ إثيوبيا الحديث، خليفة للرئيس السابق مولاتو تشيومي الذي تقدم هو الآخر باستقالة مفاجئة.

جائزة نوبل للسلام
وأخيراً، خارج حدود إثيوبيا هذه المرة، جاء التقدير الدولي الأكبر لآبي أحمد في حياته، يوم 11 أكتوبر الحالي.
في ذلك اليوم قرّرت «لجنة جائزة نوبل النرويجية» منح آبي أحمد «جائزة نوبل للسلام» عن عام 2019؛ «تقديراً لجهوده في تحقيق السلام والتعاون الدولي»، لا سيما مبادرته لحل النزاع الحدودي مع «الجارة» إريتريا. ونقلت وكالة الأنباء الألمانية عن أحمد قوله بعد إبلاغه بفوزه بالجائزة الكبيرة ذات المردود الأدبي الضخم: «يغمرني شعور بالامتنان والسعادة... إنها جائزة لأفريقيا ولإثيوبيا».



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.