مشاهد من الشرق بعيون غربية... انطلاق معرض «مجموعة نجد» بلندن

في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، بدأ رجل أعمال وهاوٍ للفنون في شراء لوحات فنية لكبار فناني موجة الفن الاستشراقي، كان عشق هذا النوع من الفن هو الدافع، وكان هناك أيضاً خبير فني ومالك لغاليري شهير بلندن يساهم بخبرة وعين مدربة في ترشيح اللوحات. بريان مكديرموت صاحب غاليري «متحف» بلندن اقتنى اللوحات عبر مزادات مختلفة، وقام بعرضها وبيعها، لتتكون بها فيما بعد مجموعة من أهم لوحات ذلك الفن. شغف المقتني بالاطلاع على مشاهد الحياة في العالم الإسلامي، في أوقات لم تكن فيها الصور الفوتوغرافية موجودة، كان دافعاً وملهماً، ويعود لذلك الشغف والنهم الفضل في تكوين ما أطلق عليها «مجموعة نجد» للوحات الفن الاستشراقي، التي تتكون من 150 لوحة تم جمعها على مدى 10 سنوات. وفي لندن سيُطلق يوم الجمعة المقبل معرض علني يضم المجموعة كاملة في دار «سوذبيز» قبل أن تتفرق اللوحات عند بيع 40 منها في مزاد يحمل اسم المجموعة يوم 22 من الشهر الحالي.
أتحدث مع كلود بيننغ رئيس قسم الفن الاستشراقي بـ«سوذبيز»، حول المجموعة، وكالعادة الحديث معه شيق ومتنوع، فالخبير يغوص في تفاصيل كل عمل فني ويعود لنا بقصص وحكايات وخلفيات للعمل والفنان، وكأنما هو أحد هؤلاء الحراس في اللوحات حولنا؛ يفتح أمامنا باباً من الخشب المعتق على ماضٍ عاشه هؤلاء الفنانون القادمون من أوروبا وأميركا إلى بلدان المشرق، الذي سحرهم وغيَّر مسيرة بعضهم الفنية للأبد.
خلال جولة مع بيننغ، توقف أمام عدد من اللوحات التي عدها محطات مهمة في مزاد: «مجموعة نجد».

مشهد الركاب في الصحراء
يبدأ بلوحة للفرنسي جان ليون جيروم، بعنوان «فرسان يعبرون الصحراء»، التي تمثل مجموعة من الرجال يمخرون عباب الصحراء بخيولهم، تتنوع ملابس الركاب ما بين من يرتدي العمامة البيضاء وعباءة خضراء وثوب أصفر، يبدو كأنه قائدهم، وهناك الرجل الذي يرتدي ثوباً أحمر، ويضع على رأسه غطاءً أسود يلثم به وجهه أيضاً، هناك شخص آخر في الخلف يبدو كالنائم الجالس، لا نرى وجهه فهو متدثر بعباءة حمراء تغطي جسده ورأسه أيضاً، ثم هناك بعض الأشخاص المترجلين وقد يكونون الحراس. اللوحة رسمها الفنان في مصر عام 1870. تجذبنا تفاصيل المشهد هنا، الصحراء كما نعرفها برمالها والغبار الذي تثيره حركة الركاب، يرتفع ليلتقي عند الأفق مع سماء زرقاء صافية، نكاد نلمس فيها حرارة الشمس، «وكأنها صورة فوتوغرافية»، يعلق بيننغ، ويستطرد قائلاً: «رغم ذلك فالتفاصيل هنا تتجاوز اللحظة الفوتوغرافية التي تُلتقط في ثوانٍ، ربما قضى جيروم أشهراً في رسمها، مضيفاً لها عمقاً غنياً أكثر مما يمكن لصورة فوتوغرافية تقديمه في ذلك الزمن. انظري لكيفية تصويره للضوء ونقله للتعبيرات على وجوه الركاب، السماء الصافية والانتقال من الغبار المثار إلى السماء الزرقاء». يبدو من تعليق بيننغ تقديره الشديد لأسلوب جيروم، ولمهارته الفذة في الرسم، ولكنه يضيف عنصراً إضافياً لتميز اللوحة، في رأيه، وهي أنها من اللوحات القليلة التي تصور مشهداً طبيعياً من اللوحات المعروضة. بقية اللوحات تصور لحظات حياتية مثل الصلاة والقراءة وعزف الموسيقى والتجارة: «هذا الخط نراه في عدد كبير من اللوحات هنا، فرساموها يحاولون تصوير مناحي الحياة المختلفة أكثر من تصوير المشاهد الطبيعية».
يلفت بيننغ نظرنا إلى وجود لوحة ثانية لجيروم هنا، وهي تمثل عدداً من الأشخاص في مسجد، منهم من كان واقفاً يصلي، ومنهم من جلس مع آخرين، لا يبدو أن هناك صلاة جماعة هنا، فكل شخص يقوم بفعل مختلف، وهو ما أشير له خلال تأملي للوحة، ويجيب بيننغ: «قد يكون ذلك، ولكن يجب أن نتذكر هنا أن فناني الموجة كانوا يقعون في أخطاء لدى تصوير حركات المصلين. في حالة جيروم أعتقد أنه يحاول تصوير أكثر من وضع وحركة في مساحة اللوحة، وكأنه يريد أن ينقل للناظر مختلف الحالات والمشاهد التي قد يراها في المسجد في مختلف الأوقات». هنا نعود لنقطة معروفة عن عمل الفنانين المستشرقين، وهي أنهم كانوا يرسمون لوحاتهم في بلدانهم بعد عودتهم من الشرق، يوضح بيننغ قائلاً إن جيروم كان قد زار المساجد التي صورها لاحقاً، وقام بأخذ الملاحظات، وأعد الرسومات الأولية للمصلين، ولتفاصيل الأماكن، جامعاً كل ذلك ليصنع منه اللوحة النهائية التي سيرسمها لاحقاً في الاستديو الخاص به في باريس.
لودفيغ دويتش... ملك التفاصيل

من جيروم، ننتقل لرودلف إرنست ولودفيغ دويتش، وهما فنانان عاشا في الفترة نفسها، وانتقلا من النمسا إلى باريس، حيث مارسا الرسم، وهناك تعرفا على أعمال جيروم. بالنسبة لبيننغ، هناك فرق بين إرنست ودويتش، رغم أنهما يشتركان في الأسلوب، فالأخير يتمتع بدقة مذهلة في نقل التفاصيل الدقيقة، وكمثال يشير إلى لوحة أمامنا بعنوان «الحارس»، وتمثل حارساً ضخماً يقف حاملاً رمحه أمام بوابة مسجد أو مبنى عتيق، نغوص في التفاصيل الدقيقة التي صورها دويتش بأسلوب رفيع، فمن الحارس الذي يقف شامخاً مهاباً وتفاصيل ملابسه وسلاحه إلى تفاصيل الخوذة الحربية التي نستطيع رؤية حلقاتها المعدنية وتفاصيل النقوش على المبنى، وكأن الفنان استخدم عدسة مكبرة لرؤية كل تلك التفاصيل ليستطيع نقلها بتلك الدقة والحساسية.
الحارس النوبي من الأشخاص الذين صُوروا كثيراً في لوحات المستشرقين، ونجد مثالاً آخر هنا في لوحة لرودلف إرنست بعنوان «الحارس الغافي»؛ حارس يحمل سلاحاً أمام باب معدني منقوش، يبدو متعباً يغالب النوم لا ينظر للشخص الذي يخطو للداخل جانبه. يشير بيننغ إلى التفاصيل المدهشة هنا، من الباب البديع في زخرفته إلى الكتابات أو النقوش الإسلامية على الإطار الحجري للبوابة، إذا نظرنا طويلاً للوحة، فلن نتوقف عن ملاحظة كيف نجح الفنان في نقل العروق البيضاء في أعمدة الرخام الأحمر على الجانبين أو بيضات النعام المتدلية من شبكات حمراء أعلى البوابة، التي يقول لنا عنها الخبير أنها كانت تستخدم لطرد الحشرات.
اللوحات تشي بالكثير عن طريقة عمل الفنانين، ومثال على ذلك تكرار ظهور الأشخاص، ففي لوحات دويتش نرى الرجل نفسه مصوراً في أكثر من لوحة وبملابس وهيئة مختلفة، يقول بيننغ «كل فنان كان يفضل التعامل مع أشخاص معينين، ما يعرف بـ(الموديل) اليوم»، ويضيف معلومة أخرى لنا قائلاً: «ليس فقط الأشخاص، فالفنان كان أيضاً يستخدم بعض القطع التي أحضرها معه من الشرق، وكان يستخدمها في أكثر من لوحة مثل معطف مبطن من الفراء، نراه في أكثر من لوحة لجيروم أو سجادة نجدها متكررة في لوحات أخرى وهكذا».

عثمان حمدي بيه... الجسر بين الشرق والغرب
في الموسم الحالي، ظهرت في مزادات ومعارض لندنية أكثر من لوحة للفنان التركي عثمان حمدي بيه، فلوحته «القارئة» بيعت في مزاد لدار «بونامز»، الشهر الماضي، وظهرت بعد ذلك من خلال معرض «إلهام من الشرق» في المتحف البريطاني، الأسبوع الماضي. في مزاد «مجموعة نجد» نرى الفنان مرة أخرى من خلال لوحة «درس القرآن»، التي نرى فيها رسماً شخصياً للفنان جالساً يستمع للدرس. يقول بيننغ إن عثمان حمدي بيه تأثر بأسلوب جيروم خلال دراسته بفرنسا، ولدى عودته لبلاده نقل أسلوب الرسام الفرنسي، ليصور به المجتمع التركي. بالنسبة للفن الاستشراقي يشغل حمدي بيه مكاناً خاصاً، فهو فنان شرقي عاش في الغرب، واستخدم الأسلوب الغربي لينقل مظاهر الحياة في مجتمعه، باختصار تحول الفنان إلى جسر ما بين الشرق والغرب. يراه بيننغ «فناناً ثورياً»، إضافة إلى قائمة طويلة من الإنجازات، فهو دبلوماسي ومصور وأثري، كما أسس مدرسة الفنون بإسطنبول.
ورغم تميز أسلوبه ووقوفه على مستوى عمالقة في الفن الاستشراقي، إلا أنه حمدي بيه لم يكن غزير الإنتاج، يضيف بيننغ أن أعمال الفنان تعد إرثاً قومياً في تركيا، ومن الصعب إخراج أي لوحة له من البلاد: «ما عدا عدد ضئيل من اللوحات التي وجدت طريقها للخارج منذ فترة طويلة. لن تجدي لوحات لحمدي بيه في المزادات العالمية».