تسجيلات البغدادي... أحاديث متكررة عن العودة

لجأ إليها لتفادي الخفوت عبر الإعلان عن «تمدد وهمي»

حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)
حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)
TT

تسجيلات البغدادي... أحاديث متكررة عن العودة

حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)
حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)

تسجيلان صوتيان لزعيم تنظيم داعش، أبي بكر البغدادي، كشفا عن طبيعة التنظيم التي باتت «خافتة»، كمحاولة أخيرة منه لتفادي خسائر الهزائم، عبر الإعلان عن «تمدد وهمي» في بعض الدول. فما بين التسجيل الأول والثاني (الأخير) 5 أشهر، لم يقم فيها التنظيم بأي حراك يُذكر، كما كان من قبل في عامي 2015 و2016، رغم ما جاء على لسان البغدادي من أن تنظيمه ما يزال قوياً، ويمتلك خيوطاً للتمدد في مناطق جديدة، كمحاولة لجذب عناصر جُدد، ووقف مسلسل هروب مقاتلي التنظيم.
أقوال البغدادي تأتي في وقت انحسر فيه التنظيم وتقهقر في العراق وسوريا، واعتمد عناصره على الهجمات الخاطفة، باستهداف الكمائن في المناطق النائية، دون السيطرة المكانية على أي منطقة، فضلاً عن ضعف العمليات الانتحارية نتيجة لنقص الأموال، وفقاً لمراقبين.
يقول مختصون في الشأن الأصولي بمصر إن «البغدادي سعى في التسجيلات الأخيرة إلى رفع الروح المعنوية لبقايا عناصر التنظيم، بهدف مواجهة سيل الانشقاقات، ومقاومة حملات (نقض البيعة)، التي تكررت بشكل متزايد في الآونة الأخيرة».
وأضاف المختصون لـ«الشرق الأوسط» أن «أحاديث البغدادي عن (استمرار العمليات) في دول أخرى ينم عن فشل التنظيم، ويؤكد حجم الخسائر التي مُني بها التنظيم في سوريا والعراق»، لافتين إلى أن «تسجيلات زعيم (داعش) تلمح إلى تبني استراتيجيات بديلة، بالانتقال إلى مناطق صحراوية، والانطلاق منها لشن (حرب عصابات)، بهدف استنزاف الدول وإضعافها».

جُمل زائفة
ففي أبريل (نيسان) الماضي، نشر «داعش» شريط فيديو وزعته مؤسسة «الفرقان»، مدته 18 دقيقة، ظهر فيه البغدادي، وتوعد بالثأر لقتلى التنظيم وأسراه، وكان هذا هو الظهور الأول له بعد 5 سنوات من الاختفاء. وشدد البغدادي حينها على أن «الله أمرنا بالجهاد، ولم يأمرنا بالنصر... وأن الاعتداءات التي استهدفت سريلانكا في عيد الفصح، وتبناها التنظيم، جاءت (ثأراً) للباغوز».
وواصل البغدادي قوله إن «مقاتلي التنظيم الذي مُني بهزائم عسكرية متتالية على مدى السنتين الماضيتين (سيأخذون بثأرهم)»، على حد زعمه.
وأعلن البغدادي قبوله بيعة جاءته من بوركينا فاسو ومالي، مسمياً تحديداً أبو الوليد الصحراوي، ومشيداً به، وبالهجمات التي يشنها ضد القوات الفرنسية، والقوات المتحالفة معها في منطقة الساحل الأفريقي.
وفي تسجيل آخر نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي، حرض البغدادي عناصره بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق لإنقاذ من عدهم «مقاتلي التنظيم، وعائلاتهم المحتجزين والمحتجزات في السجون والمخيمات». ودعا في التسجيل، الذي لم يظهر فيه بشكله، مثلما حدث في تسجيل أبريل (نيسان)، ومدته 30 دقيقة، وبثته مؤسسة «الفرقان»، الذراع الإعلامية لـ«داعش»، المحتجزات والمحتجزين إلى «الصبر»، على حد قوله. وأكد في موضع آخر أن «عمليات التنظيم مستمرة على قدم وساق في مالي وبلاد الشام».
وقال البغدادي في حديثه إن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، عاداً ذلك «اختباراً من الله»، على حد زعمه. وتحدث البغدادي أيضاً عن خطط تنظيمه اللاحقة، داعياً عناصره إلى «الجهاد»، على حد زعمه، مشيراً إلى ما وصفها بـ«مبايعات جديدة» لـ«خلافته» المزعومة. ودعا أيضاً إلى «استهداف رجال الأمن والمحققين والقضاة الذين يحققون مع عناصر تنظيمه في السجون».

سيل انشقاقات
فيما قال الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي مصر، إن «البغدادي سعى في التسجيلات الأخيرة إلى رفع الروح المعنوية لبقايا عناصر التنظيم، بهدف مواجهة سيل الانشقاقات والهروب من صفوفه، ومقاومة حملات (نقض البيعة) التي تكررت بشكل متزايد في الآونة الأخيرة، لكنه نسي أن تنظيمه فقد الأرض والانتشار الإعلامي، ولم يعد قادراً على عمل شيء يُذكر، بفضل جهود الدول في التصدي له».
وفي مارس (آذار) الماضي، ظهر تنظيم «ولاية سيناء... أنصار بيت المقدس سابقاً»، الموالي لـ«داعش» بمصر، في إصدار مرئي، بعد أشهر طويلة من الاختفاء، عرض فيه عدد من عناصر التنظيم مشاهد إعادة البيعة للبغدادي.
وأكد المراقبون أن «التنظيم يسعى من حلال كلمات البغدادي لمواجهة سيل (نقض البيعة)، وانقلاب كثير من العناصر على منهج وفكر زعيم (داعش)، وانتقال البعض الآخر نحو تنظيم (القاعدة)، فضلاً عن قيام عدد كبير من عناصر التنظيم بتسليم أنفسهم للسلطات المحلية في الدول، والإدلاء بمعلومات حول خطط التنظيم وخلاياه النائمة».
وقال عبد الله محمد، الباحث في شؤون الحركات المتطرفة، إن «أحاديث البغدادي عن (استمرار العمليات) في دول أخرى ينم عن فشل التنظيم، عبر الحديث عن انتصارات و(تمدد وهمي)، ويشير لحجم الخسائر التي مُني بها التنظيم في سوريا والعراق»، مضيفاً: «يتضح من تسجيلات البغدادي إدراكه للخسائر التي تعرض لها تنظيمه منذ عام 2017، وفقدانه القدرة الكاملة على استعادة نشاطه، ومن ثم التفكير في التركيز على شن هجمات في مناطق متنوعة، بعيداً عن محاولات السيطرة على الأرض، فضلاً عن إدراك البغدادي حجم الصراعات والانشقاقات، وتراجع أعداده وأنصاره، وكذلك تراجع قدراته المادية والبشرية، ومن ثم يسعى لبث روح الثبات والصبر في نفس فلوله المتبقية، بالحديث عن انتصارات مستقبلية».

«حرب عصابات»
ومن جهته، قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «هناك ملمحاً مهماً في تسجيلات زعيم (داعش)، وهو تبني استراتيجيات بديلة بالانتقال إلى مناطق صحراوية، والانطلاق منها لشن (حرب عصابات)، بهدف استنزاف الدول وإضعافها، في محاولة لإعادة السيطرة على المدن ثانية، وإقامة (الخلافة) المزعومة»، مضيفاً: «من المؤكد أن استراتيجيات التنظيم الجديدة، بعد خسارته مناطق السيطرة، اتجهت نحو توسيع النفوذ في المناطق (الهشة) أمنياً»، موضحاً أن «(داعش) يمتلك قدرات على التحرك ليلاً بمجموعات صغيرة في بعض المناطق لشن هجمات».
يشار إلى أن هناك تبايناً الآن حول أعداد مقاتلي التنظيم، حيث تم تقدير عددهم في السابق بنحو 30 ألفاً، وهو السقف الأعلى لأعداد التنظيم، لكن غينادي كوزمين، نائب مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، أكد خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي حول قضايا الإرهاب في أغسطس (آب) الماضي أن «العدد العام من عناصر (داعش) وأنصاره في سوريا الآن قرابة 3 آلاف شخص». وترجح تقديرات أخرى عدد عناصر «داعش» الذين ما زالوا يعملون في العراق بين نحو ألف وثلاثة آلاف.
وبالرجوع لتسجيلات سابقة للبغدادي قبل عام 2019، وجد أنها لم تخلو أيضاً من دعوة عناصره للثبات. ففي أغسطس (آب) عام 2018، بثت مواقع تابعة لـ«داعش» تسجيلاً صوتياً، انتقد فيه زعيم «داعش» روسيا والولايات المتحدة، ودعا أنصاره إلى عدم الاستسلام، بعد الهزائم التي تلقاها التنظيم في العراق وسوريا. وقبله في سبتمبر عام 2017، دعا البغدادي في تسجيل صوتي آخر أنصاره إلى «الصبر والثبات» في وجه المتحالفين ضد التنظيم بسوريا والعراق.
وأضاف عبد الله محمد أن «البغدادي يُدرك تماماً فقدان تنظيمه لبوصلة استقطاب عناصر جديدة، ومن ثم لجأ إلى استخدام الحديث المتكرر عن مواجهة أميركا واستنزافها في مناطق مختلفة من دول العالم، وهو خطاب لا يختلف عن خطاب أيمن الظواهري، زعيم تنظيم (القاعدة)، المعتاد. كذلك لجأ البغدادي في أحاديثه إلى محاولة ترشيد الانحرافات الأخلاقية، بكثرة الحديث عن المبادئ والوصايا الأخلاقية والدينية التي دعا أنصاره للالتزام بها لاستعادة نشاطه مرة أخرى».

توسل ويأس
المراقبون قالوا إن «تسجيلات البغدادي تثبت أنه في حالة مُزرية، ولعل هذا ما دفعه إلى تلاوته مفردات الصبر، حيث استعان بنصوص مترادفة عن الصبر والقتال، فيها محاكاة واضحة لحالة التوسل واليأس من أتباعه من جهة، ومحاولة تحريضهم واستنهاضهم لمواصلة القتال من جهة أخرى».
وخسر البغدادي (47 عاماً)، المدرج على رأس قائمة كبار «الإرهابيين» المطلوبين في العالم، دولته «مزعومة» التي أقامها لأكثر من 3 سنوات، حين ظهر وأعلن عن «دولته» المزعومة في الموصل عام 2014، لكنه بات اليوم يختبئ في كهوف الصحراء السورية، حسبما نقلت وكالة «الصحافة الفرنسية» أخيراً، فضلاً عما يتردد من وقت لآخر من شكوك حول بقائه حياً على قيد الحياة.
محللون أكدوا أنه «رغم هزيمة (داعش) عسكرياً في العراق وسوريا، وخسارته جميع مناطق سيطرته، فإن تهديداته لا تزال قائمة في سوريا والعراق، وفي دول أفريقية وآسيوية»، موضحين أنه «رغم أن الحرب على (داعش) خلال السنوات الماضية قد أدت إلى خسارته معظم قيادات الصف الأول والثاني، فإنه شهد انتعاشاً لخلاياه النائمة في العراق».
ونفذ تنظيم داعش في الأسبوع الأخير من سبتمبر (أيلول) الماضي ثلاث عمليات في سوريا، ومثلها في العراق، حيث لا يزال يعاني العراق من خلايا «داعش» النائمة، إذ يهاجم التنظيم المناطق النائية التي تنتشر وسط الصحراء، وزاد نشاطه مرة أخرى في المناطق الحدودية بين سوريا والعراق، وقام بعدة عمليات إرهابية استهدفت مدنيين وقوات أمن، بحسب المحللين.
وأكد خالد الزعفراني أن «(داعش) يفتقر في المرحلة الراهنة إلى ما يؤهله من قدرات، سواء على مستوى العنصر البشري أو على مستوى الآليات، لإعادة السيطرة على مدن ومناطق في العراق أو سوريا، يمكن له خلالها إعادة هيكلة عناصره القتالية، وتوفير ما يلزم من معدات وأسلحة».


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.