تسجيلات البغدادي... أحاديث متكررة عن العودة

لجأ إليها لتفادي الخفوت عبر الإعلان عن «تمدد وهمي»

حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)
حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)
TT

تسجيلات البغدادي... أحاديث متكررة عن العودة

حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)
حرض البغدادي في تسجيل نهاية سبتمبر الماضي عناصره بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق (أ.ف. ب)

تسجيلان صوتيان لزعيم تنظيم داعش، أبي بكر البغدادي، كشفا عن طبيعة التنظيم التي باتت «خافتة»، كمحاولة أخيرة منه لتفادي خسائر الهزائم، عبر الإعلان عن «تمدد وهمي» في بعض الدول. فما بين التسجيل الأول والثاني (الأخير) 5 أشهر، لم يقم فيها التنظيم بأي حراك يُذكر، كما كان من قبل في عامي 2015 و2016، رغم ما جاء على لسان البغدادي من أن تنظيمه ما يزال قوياً، ويمتلك خيوطاً للتمدد في مناطق جديدة، كمحاولة لجذب عناصر جُدد، ووقف مسلسل هروب مقاتلي التنظيم.
أقوال البغدادي تأتي في وقت انحسر فيه التنظيم وتقهقر في العراق وسوريا، واعتمد عناصره على الهجمات الخاطفة، باستهداف الكمائن في المناطق النائية، دون السيطرة المكانية على أي منطقة، فضلاً عن ضعف العمليات الانتحارية نتيجة لنقص الأموال، وفقاً لمراقبين.
يقول مختصون في الشأن الأصولي بمصر إن «البغدادي سعى في التسجيلات الأخيرة إلى رفع الروح المعنوية لبقايا عناصر التنظيم، بهدف مواجهة سيل الانشقاقات، ومقاومة حملات (نقض البيعة)، التي تكررت بشكل متزايد في الآونة الأخيرة».
وأضاف المختصون لـ«الشرق الأوسط» أن «أحاديث البغدادي عن (استمرار العمليات) في دول أخرى ينم عن فشل التنظيم، ويؤكد حجم الخسائر التي مُني بها التنظيم في سوريا والعراق»، لافتين إلى أن «تسجيلات زعيم (داعش) تلمح إلى تبني استراتيجيات بديلة، بالانتقال إلى مناطق صحراوية، والانطلاق منها لشن (حرب عصابات)، بهدف استنزاف الدول وإضعافها».

جُمل زائفة
ففي أبريل (نيسان) الماضي، نشر «داعش» شريط فيديو وزعته مؤسسة «الفرقان»، مدته 18 دقيقة، ظهر فيه البغدادي، وتوعد بالثأر لقتلى التنظيم وأسراه، وكان هذا هو الظهور الأول له بعد 5 سنوات من الاختفاء. وشدد البغدادي حينها على أن «الله أمرنا بالجهاد، ولم يأمرنا بالنصر... وأن الاعتداءات التي استهدفت سريلانكا في عيد الفصح، وتبناها التنظيم، جاءت (ثأراً) للباغوز».
وواصل البغدادي قوله إن «مقاتلي التنظيم الذي مُني بهزائم عسكرية متتالية على مدى السنتين الماضيتين (سيأخذون بثأرهم)»، على حد زعمه.
وأعلن البغدادي قبوله بيعة جاءته من بوركينا فاسو ومالي، مسمياً تحديداً أبو الوليد الصحراوي، ومشيداً به، وبالهجمات التي يشنها ضد القوات الفرنسية، والقوات المتحالفة معها في منطقة الساحل الأفريقي.
وفي تسجيل آخر نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي، حرض البغدادي عناصره بشكل مُباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق لإنقاذ من عدهم «مقاتلي التنظيم، وعائلاتهم المحتجزين والمحتجزات في السجون والمخيمات». ودعا في التسجيل، الذي لم يظهر فيه بشكله، مثلما حدث في تسجيل أبريل (نيسان)، ومدته 30 دقيقة، وبثته مؤسسة «الفرقان»، الذراع الإعلامية لـ«داعش»، المحتجزات والمحتجزين إلى «الصبر»، على حد قوله. وأكد في موضع آخر أن «عمليات التنظيم مستمرة على قدم وساق في مالي وبلاد الشام».
وقال البغدادي في حديثه إن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، عاداً ذلك «اختباراً من الله»، على حد زعمه. وتحدث البغدادي أيضاً عن خطط تنظيمه اللاحقة، داعياً عناصره إلى «الجهاد»، على حد زعمه، مشيراً إلى ما وصفها بـ«مبايعات جديدة» لـ«خلافته» المزعومة. ودعا أيضاً إلى «استهداف رجال الأمن والمحققين والقضاة الذين يحققون مع عناصر تنظيمه في السجون».

سيل انشقاقات
فيما قال الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي مصر، إن «البغدادي سعى في التسجيلات الأخيرة إلى رفع الروح المعنوية لبقايا عناصر التنظيم، بهدف مواجهة سيل الانشقاقات والهروب من صفوفه، ومقاومة حملات (نقض البيعة) التي تكررت بشكل متزايد في الآونة الأخيرة، لكنه نسي أن تنظيمه فقد الأرض والانتشار الإعلامي، ولم يعد قادراً على عمل شيء يُذكر، بفضل جهود الدول في التصدي له».
وفي مارس (آذار) الماضي، ظهر تنظيم «ولاية سيناء... أنصار بيت المقدس سابقاً»، الموالي لـ«داعش» بمصر، في إصدار مرئي، بعد أشهر طويلة من الاختفاء، عرض فيه عدد من عناصر التنظيم مشاهد إعادة البيعة للبغدادي.
وأكد المراقبون أن «التنظيم يسعى من حلال كلمات البغدادي لمواجهة سيل (نقض البيعة)، وانقلاب كثير من العناصر على منهج وفكر زعيم (داعش)، وانتقال البعض الآخر نحو تنظيم (القاعدة)، فضلاً عن قيام عدد كبير من عناصر التنظيم بتسليم أنفسهم للسلطات المحلية في الدول، والإدلاء بمعلومات حول خطط التنظيم وخلاياه النائمة».
وقال عبد الله محمد، الباحث في شؤون الحركات المتطرفة، إن «أحاديث البغدادي عن (استمرار العمليات) في دول أخرى ينم عن فشل التنظيم، عبر الحديث عن انتصارات و(تمدد وهمي)، ويشير لحجم الخسائر التي مُني بها التنظيم في سوريا والعراق»، مضيفاً: «يتضح من تسجيلات البغدادي إدراكه للخسائر التي تعرض لها تنظيمه منذ عام 2017، وفقدانه القدرة الكاملة على استعادة نشاطه، ومن ثم التفكير في التركيز على شن هجمات في مناطق متنوعة، بعيداً عن محاولات السيطرة على الأرض، فضلاً عن إدراك البغدادي حجم الصراعات والانشقاقات، وتراجع أعداده وأنصاره، وكذلك تراجع قدراته المادية والبشرية، ومن ثم يسعى لبث روح الثبات والصبر في نفس فلوله المتبقية، بالحديث عن انتصارات مستقبلية».

«حرب عصابات»
ومن جهته، قال خالد الزعفراني، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «هناك ملمحاً مهماً في تسجيلات زعيم (داعش)، وهو تبني استراتيجيات بديلة بالانتقال إلى مناطق صحراوية، والانطلاق منها لشن (حرب عصابات)، بهدف استنزاف الدول وإضعافها، في محاولة لإعادة السيطرة على المدن ثانية، وإقامة (الخلافة) المزعومة»، مضيفاً: «من المؤكد أن استراتيجيات التنظيم الجديدة، بعد خسارته مناطق السيطرة، اتجهت نحو توسيع النفوذ في المناطق (الهشة) أمنياً»، موضحاً أن «(داعش) يمتلك قدرات على التحرك ليلاً بمجموعات صغيرة في بعض المناطق لشن هجمات».
يشار إلى أن هناك تبايناً الآن حول أعداد مقاتلي التنظيم، حيث تم تقدير عددهم في السابق بنحو 30 ألفاً، وهو السقف الأعلى لأعداد التنظيم، لكن غينادي كوزمين، نائب مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، أكد خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي حول قضايا الإرهاب في أغسطس (آب) الماضي أن «العدد العام من عناصر (داعش) وأنصاره في سوريا الآن قرابة 3 آلاف شخص». وترجح تقديرات أخرى عدد عناصر «داعش» الذين ما زالوا يعملون في العراق بين نحو ألف وثلاثة آلاف.
وبالرجوع لتسجيلات سابقة للبغدادي قبل عام 2019، وجد أنها لم تخلو أيضاً من دعوة عناصره للثبات. ففي أغسطس (آب) عام 2018، بثت مواقع تابعة لـ«داعش» تسجيلاً صوتياً، انتقد فيه زعيم «داعش» روسيا والولايات المتحدة، ودعا أنصاره إلى عدم الاستسلام، بعد الهزائم التي تلقاها التنظيم في العراق وسوريا. وقبله في سبتمبر عام 2017، دعا البغدادي في تسجيل صوتي آخر أنصاره إلى «الصبر والثبات» في وجه المتحالفين ضد التنظيم بسوريا والعراق.
وأضاف عبد الله محمد أن «البغدادي يُدرك تماماً فقدان تنظيمه لبوصلة استقطاب عناصر جديدة، ومن ثم لجأ إلى استخدام الحديث المتكرر عن مواجهة أميركا واستنزافها في مناطق مختلفة من دول العالم، وهو خطاب لا يختلف عن خطاب أيمن الظواهري، زعيم تنظيم (القاعدة)، المعتاد. كذلك لجأ البغدادي في أحاديثه إلى محاولة ترشيد الانحرافات الأخلاقية، بكثرة الحديث عن المبادئ والوصايا الأخلاقية والدينية التي دعا أنصاره للالتزام بها لاستعادة نشاطه مرة أخرى».

توسل ويأس
المراقبون قالوا إن «تسجيلات البغدادي تثبت أنه في حالة مُزرية، ولعل هذا ما دفعه إلى تلاوته مفردات الصبر، حيث استعان بنصوص مترادفة عن الصبر والقتال، فيها محاكاة واضحة لحالة التوسل واليأس من أتباعه من جهة، ومحاولة تحريضهم واستنهاضهم لمواصلة القتال من جهة أخرى».
وخسر البغدادي (47 عاماً)، المدرج على رأس قائمة كبار «الإرهابيين» المطلوبين في العالم، دولته «مزعومة» التي أقامها لأكثر من 3 سنوات، حين ظهر وأعلن عن «دولته» المزعومة في الموصل عام 2014، لكنه بات اليوم يختبئ في كهوف الصحراء السورية، حسبما نقلت وكالة «الصحافة الفرنسية» أخيراً، فضلاً عما يتردد من وقت لآخر من شكوك حول بقائه حياً على قيد الحياة.
محللون أكدوا أنه «رغم هزيمة (داعش) عسكرياً في العراق وسوريا، وخسارته جميع مناطق سيطرته، فإن تهديداته لا تزال قائمة في سوريا والعراق، وفي دول أفريقية وآسيوية»، موضحين أنه «رغم أن الحرب على (داعش) خلال السنوات الماضية قد أدت إلى خسارته معظم قيادات الصف الأول والثاني، فإنه شهد انتعاشاً لخلاياه النائمة في العراق».
ونفذ تنظيم داعش في الأسبوع الأخير من سبتمبر (أيلول) الماضي ثلاث عمليات في سوريا، ومثلها في العراق، حيث لا يزال يعاني العراق من خلايا «داعش» النائمة، إذ يهاجم التنظيم المناطق النائية التي تنتشر وسط الصحراء، وزاد نشاطه مرة أخرى في المناطق الحدودية بين سوريا والعراق، وقام بعدة عمليات إرهابية استهدفت مدنيين وقوات أمن، بحسب المحللين.
وأكد خالد الزعفراني أن «(داعش) يفتقر في المرحلة الراهنة إلى ما يؤهله من قدرات، سواء على مستوى العنصر البشري أو على مستوى الآليات، لإعادة السيطرة على مدن ومناطق في العراق أو سوريا، يمكن له خلالها إعادة هيكلة عناصره القتالية، وتوفير ما يلزم من معدات وأسلحة».


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».