رفيف الظل: باتجاه سجادة الجمر

رفيف الظل: باتجاه سجادة الجمر
TT

رفيف الظل: باتجاه سجادة الجمر

رفيف الظل: باتجاه سجادة الجمر

السفرُ عصارة الليل المبهْرج بالشمس،
تسكبه على أهدابك، فترتدّ بصيرا.
لنبدأ بجناح المسافة حرفا حرفا،
جنة بيضاءُ هو الصمت،
نارٌ باكية هو الفراق،
أملٌ مستفيضٌ هي الورقة،
وحرية حية في زوال الراء.
جنى البحّة الخجولة، نسقُ الكلمة التي بلغتْ حد الصوت، أروقة السجود لهيبة الصدى، حريقُ الصوْر، إذ نُفِخَ به على حين نعاس.
ثم من قال شيئا عن السلام؟
هل البارود يبرد؟
لا ينطفئُ الفتيل إلا بقتيل، ولا ينتحر الجلاد إلا مسحولا بشعبه،
والنهاية المجنونة،
ولدت من فكرة الضرب في الحرب.
ضرب الشرق في الغرب،
وضرب الناس في السرب،
ثم إذا انهارت الفراديس قالوا طردنا منها،
واتهموا الشيطان، وهو صنيع لسانهم.
الإنسان أخ الشيطان،
أبوهما الألف،
وأمهما النون.
أيها المستمر،
وجدناك وحدك في سماحة العفو،
وطاب لنا الاتكاء على امتنانك،
وهذا الكلف الذي يلفُّ اندفاعنا، هو سيرة اللافعل، مجرد دوران في المتاهة، ونبش في بوق مثقوب.
نتقاسم سَعْدَ الأيام، وهي شحيحة الظلِّ، ويرفعنا رفيفها في سماء لاهية، وكأن الصوت هو أول المعنى، وكأن الماءَ وجهٌ ثالث، ونحن في الرمق البعيد.
هذي ثياب الليل، فأين ذَهَب؟
وهذا قمرٌ يكتمل غدا، فمن الذي جاء؟
واحدا واحدا وقفوا والباب مفتوح،
كانوا يهابون العتبة لأنهم حفاة، ويرعبهم الكرسي.
وفي مشهد الطفولة، إنهم نُهروا من الخروج، وأمروا للاحتماء بالجدار، فكانت النار تلسع نواياهم. وربما اعترف الكلام بشيء من حواشيه، وتأكد للصخرة أن القطرة أول الطوفان، وأن الهلاك يبدأ.
تزحف الظهيرة على مرجل الوقت البطيء، باتجاه سجادة الجمر،
ترفع عينيها باكية:
- يا رب، سئمتُ هذا الفضاء.
هذا ليس ليلا، وغدا ليس يوم السبت. والفيزياء التي نزعم بها حضورا جثمانيا
تتلاعب بنا، وتسلط علينا سماء غير عادلة، والهلاك الذي يوشك أن يفتك بنا
يتذرع بالأديان والمذاهب والملل لأجل يثبت أن الخطيئة فينا منذ الجينات.
كيف أراك وأنت كفيف تتلاطمه كثبان الظلام وأعاصيرُ الجوع؟
أكون موجودا كلما رأيتني.
أنا لا أراك إلا حين تتشظى القصيدة، وحين تطلق ساقيك باتجاه بحيرة قرابينها.
أنا لا أراكَ إلا حين تختلس الفضة نكهة المرايا، وتستجير الوجوهُ العابرة بمعاطف الريح.
وحدها الريح تجعل الرسائل ممكنة.
الرسالة أريجُ السر المتبختر بالخجل،
هدهدة التحفّز،
ما تبقى من بصمات الرمل على سِمة الماء.
لا تنزلقْ إلى شمسها، إن لم تكن قافلة بياضكَ قد اسمرّتْ.
وحدها الرسالة، تمخرُ عُبابَ الهوادج عارية.



«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.