الإعلام و«الحرب الهجينة»

الإعلام و«الحرب الهجينة»
TT

الإعلام و«الحرب الهجينة»

الإعلام و«الحرب الهجينة»

حين حاول المفكر الأميركي الشهير جوزيف ناي أن يصوغ العلاقة بين الإعلام والرأي العام في كتابه المهم: «القوة الناعمة: سبل النجاح في عالم السياسة الدولية»، الذي صدر في العام 2004. قال إن «المعارك لا يمكن أن تُربَح فقط في ميادين القتال، وإن الكاسب في الحرب هو ذلك الذي تكسب قصته في الإعلام».
إنها صياغة لافتة بكل تأكيد؛ مرة لأنها تشير إلى أهمية قصوى لدور الإعلام في الحرب، ربما بما يوازي أهمية آلة القتال ذاتها، ومرة أخرى لأنها تعزز ارتباطاً بين هذين المجالين (الحرب والإعلام)، أدركه القادة وألحوا عليه منذ عقود طويلة.
فلم يكن غريباً أن يعتقد الزعيم السوفياتي خروتشوف أن الصحافة «سلاح» في المعارك التي تخوضها بلاده في بقاع العالم المختلفة، كما أن غوبلز، وزير دعاية هتلر الشهير، رأى أنها مثل «المدفعية» التي تقصف المجتمعات المستهدفة، فتوطئ للهجوم المادي، وتشل القدرة على المقاومة، وهو الأمر الذي أوضحه هتلر نفسه، حين قال في خطاب ألقاه في لورنمرغ، العام 1929: «لقد أوصلتني الدعاية إلى الحكم. وبالدعاية حافظنا على مراكزنا. وبها سوف نستطيع غزو العالم».
ولمثل هذه الأسباب، أنشأت الدول الديمقراطية أيضاً وسائل إعلام موجهة إلى دول العالم وأقاليمه، سواء للتمهيد لتدخلها، أو لصيانة وجودها، أو تعزيزاً لمصالحها، أو للتمركز في خرائط الوعي، لحين نشوء حاجة، أو فرصة، لممارسة النفوذ والتأثير.
لقد كان الإعلام ممهداً ومواكباً لعمليات القتال كافة؛ سواء وقعت في الشرق أو الغرب، وبموازاة تطور أساليب القتال وأدواته، حافظت صناعة الإعلام على تطور مماثل في الاتجاه الذي يخدم فكرة الحرب ويُمجدها.
لكن الحرب مفهوم يتطور باطراد؛ حتى إن فيلسوفها الأشهر كلاوزفيتز وصفها بأنها «تتلون كالحرباء»، وهو الأمر الذي انعكس في تصنيفها ضمن أنماط وأجيال؛ إذ سمعنا عن الحرب التقليدية، وحرب العصابات، والحرب اللامتماثلة؛ وغيرها، والآن برز مفهوم جديد يبدو أنه سيكون صرعة الحروب المقبلة... إنه مفهوم «الحرب الهجينة» Hybrid Warfare.
برز أول تعبير متماسك عن مفهوم «الحرب الهجينة» خلال دراسة أجراها سلاح البحرية الأميركية، في العام 2005، عن العمليات العسكرية التي خاضتها القوات الأميركية في العراق وأفغانستان في تلك الأثناء.
وبلور الخبير العسكري فرانك هوفمان، زميل جامعة الدفاع الوطنية الأميركية، تعريفاً أولياً معتبراً في هذا الصدد، نشره في مقال بمعهد «بوتوماك لدراسة السياسات»، في 2007، إذ اعتبر أن تلك الحرب ليست سوى: «مزيج معقد من الأسلحة التقليدية والحرب غير النظامية والإرهاب والسلوك الإجرامي في ساحة المعركة بغرض تحقيق أهداف سياسية».

«الحرب الهجينة» إذن هي مُجمع إرادات وأدوات وتكنيكات، تستهدف تدمير العدو أو إنهاكه، لغرض سياسي محدد، من دون استبعاد وسائل، أو تعيين للجبهة، أو تقدير للزمن. وفي تلك الحرب يمكن أن تتساوى الأدوار الدعائية مع أدوار سلاح الجو وأجهزة الاستخبارات وفرق الكوماندوز، أو ربما تتفوق عليها في الأهمية.
لا يحتاج الأمر إلى جهود كبيرة لإثبات دور الإعلام في تلك «الحرب الهجينة» والتأكيد على أهميته ومركزيته في بعض الأحيان، ففي محاضرة شهيرة ألقاها البروفسير الأميركي «ماكس مانوارينغ»، في العام 2012، نصح الرجل القادة العسكريين الغربيين مباشرة بتبني «أساليب قتالية حديثة»، يقع بعضها في المجال الإعلامي، معتبراً أن «تنفيذ تلك الأساليب بدأب، سيقود العدو إلى أن يستيقظ يوماً ما فيجد نفسه ميتاً، من دون أن نبذل الجهد في إطلاق النار عليه».
يوضح لنا هذا كيف سقط القذافي بعدما سقطت عاصمته «في الفضائيات»، وكيف وقعت الموصل في يد «داعش» بعدما تم قصفها بـ«التغريدات»، وكيف يشعر الجمهور بأن عاصمة ما تغلي والاحتجاجات تطوقها من كل جانب، في حين لا يزيد عدد المتظاهرين فيها عن مائة متظاهر في ثلاثة أزقة، وكيف تركز بعض دول المنطقة الصغيرة والحديثة جهدها الاستراتيجي الرئيسي في شبكة إعلامية.
يعتقد الكاتب الأميركي فيليب سيب أن الأساليب التقليدية لصنع السياسة الدولية «قد تم تجاوزها بفعل تأثير الإعلام الجديد والبث الفضائي وأدوات أخرى عالية التقنية». وقد رأى، في كتاب أصدره العام 2006، أن «وسائل الإعلام القوية يمكن أن تؤثر في صياغة الصراعات العسكرية والسياسية مثلما تؤثر عناصر القوة الصلبة المباشرة تماماً».
سيفسر لنا هذا التحليل الأسباب التي حولت بعض وسائل الإعلام الواعدة في المنطقة إلى بنادق وقاذفات قنابل، استطاعت تقويض دول وزعزعة أركان دول أخرى.



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.