مارتين فيزكارّا... رئيس بيرو المعتدل في «صراع صلاحيات» مع شعبويي البرلمان

مارتين فيزكارّا... رئيس بيرو المعتدل في «صراع صلاحيات» مع شعبويي البرلمان
TT

مارتين فيزكارّا... رئيس بيرو المعتدل في «صراع صلاحيات» مع شعبويي البرلمان

مارتين فيزكارّا... رئيس بيرو المعتدل في «صراع صلاحيات» مع شعبويي البرلمان

في خطوة متقدمة من الصراع الدائر منذ 3 سنوات بين السلطتين الإجرائية والاشتراعية في بيرو، أقدم رئيس الجمهورية مارتين فيزكارّا مطلع هذا الأسبوع على حل البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة اليمينية، بقيادة حزب «القوة الشعبية» الذي تتزعمه ابنة الرئيس الأسبق ألبرتو فوجيموري (المتحدر من أصول يابانية)، وقرّر الدعوة لإجراء انتخابات عامة مبكّرة مطلع العام المقبل.
فيزكارّا، وهو سياسي ومهندس مستقل معتدل محسوب على يمين الوسط والليبراليين، استند في قراره إلى المادة 134 من الدستور، التي اعتبر أنها تجيز له حلّ البرلمان بعد رفضه للمرة الثانية على التوالي اقتراحاً رئاسياً لتعديل إجراءات تعيين أعضاء المجلس الدستوري.

مدريد: شوقي الريّس
الأزمة التي تفجرّت أخيراً في بيرو بين رئيس الجمهورية والبرلمان لها خلفيات سياسية لا تنفصل عن مشاكل عدد من دول أميركا اللاتينية، لا سيما إساءة استخدام السلطة والفساد وطراوة عود الديمقراطية في ظل خطر التدخلات العسكرية.
في بيرو، كانت المعارضة، بقيادة كيكو فوجيموري (44 سنة)، التي تمضي حالياً عقوبة بالسجن الاحترازي لفترة 18 شهراً رهن التحقيق والمحاكمة بتهمة غسل الأموال، تناور منذ أسابيع من أجل تعيين قضاة موالين لها في المحكمة الدستورية.
وقال فيزكارّا (56 سنة) عند إعلانه قراره: «فليكن الشعب هو صاحب القرار النهائي لمعرفة من هو على حق: الغالبية البرلمانية التي أقرر اليوم حلّها لمنعها السلطة التنفيذية من القيام بعملها، أو الحكومة التي تحتاج لأغلبية جديدة للقيام بواجباتها الدستورية».
وكان البرلمان قد رفض يوم الاثنين الماضي مناقشة اقتراح تقدم به رئيس الجمهورية، عن طريق الحكومة، لتعديل النظام الأساسي للمحكمة الدستورية. وقرر انتخاب أحد الأعضاء المحسوبين على المعارضة التي رجحت كفتها داخل المجلس الدستوري الذي يُنتظر أن يبتّ قريباً في مجموعة من قضايا الفساد الحسـّاسة التي تطال سياسيين، من بينها الطعن المقدّم في قرار المحكمة الذي قضى بسجن فوجيموري.

الإنذار بحل البرلمان
في نهاية الأسبوع الماضي، وجّه فيزكارّا تحذيراً إلى البرلمان بأنه سيُقدم على حل المجلس النيابي والدعوة لانتخابات جديدة إذا أصرّت المعارضة على رفضها مناقشة اقتراح تعديل إجراءات تعيين قضاة المجلس الدستوري لاعتماد غالبية الثلثين من أعضاء البرلمان لاختيارهم. لكن المعارضة اليمينية أصرّت على موقفها وقرّرت اختيار أحد القضاة الموالين لها وفقاً للنظام الداخلي المعمول به حالياً في المحكمة. وقال فيزكارّا إن قراره حل البرلمان هو ثمرة «سياسة التعنّت والعرقلة المتعمّدة التي تمارسها المعارضة باستمرار لشلّ عمل الحكومة ومنعها من إجراء الإصلاحات اللازمة، ولتعذّر التوصّل إلى حل في الظروف الراهنة». وبعد ساعات من إعلان الرئيس عن قراره، ردّت المعارضة البرلمانية باتخاذ قرار يقضي بتعليق رئاسته مؤقتاً وتعيين نائبته مرسيدس آراوز في منصبه، خلال جلسة لم يشارك فيها سوى نواب المعارضة.
وشهدت العاصمة ليما ومعظم المدن الكبرى في بيرو مظاهرات مؤيدة لقرار فيزكارّا بينما كان البرلمان يصوّت لتكليف نائبته ويدعوها إلى أداء القسم الدستوري بعد إعلان «العجز الأخلاقي المؤقت» للرئيس. وفي حين أكدت أوساط قانونية أن دستور بيرو لا يلحظ مثل هذه الصلاحيّة للبرلمان، صدر عن قيادة القوات المسلحة بيان يؤيد شرعيّة رئاسة فيزكارّا، وعقبه بيان مماثل صدر عن قيادة الشرطة.

الفضائح المالية
وتجدر الإشارة إلى أن المساعي الحثيثة التي تبذلها المعارضة منذ فترة من أجل «السيطرة» على المحكمة الدستورية، تتزامن مع اقتراب موعد مثول أحد الشهود الرئيسيين في قضية «لافا جاتو» أمام المحكمة، حيث ينتظر أن يدلي باعترافات موثّقة حول دفع مبالغ مالية ضخمة لعدد من أقطاب المعارضة السياسية ومساعدات لتمويل حملاتهم الانتخابية.
يذكر أن هذه القضية التي كشفت عن حالات كثيرة من الفساد المالي طالت سياسيين في عدد من بلدان أميركا اللاتينية، انطلقت منذ 4 سنوات من البرازيل، وكان من أبرز ضحاياها الرئيس البرازيلي الأسبق لويس إيغناسيو لولا الذي ما زال يقضي عقوبة بالسجن لمدة 12 سنة.
جدير بالذكر، أن اللجنة الأميركية لحقوق الإنسان كانت قد نظرت خلال اجتماعها الأخير في الشكاوى التي قدمتها حكومة بيرو وهيئات حقوقية ضد المعارضة البرلمانية، وذلك لمحاولة المعارضة تغيير ميزان القوى داخل المحكمة الدستورية بهدف التأثير على قراراتها حيال الطعون التي قدّمها محامو الدفاع عن عدد من السياسيين والرؤساء السابقين الذين يخضعون للتحقيق في قضايا الفساد وغسل الأموال.

مواجهة مفتوحة
تشكّل هذه الأزمة ذروة المواجهة المفتوحة بين الحكومة والبرلمان منذ الانتخابات البيروفية العامة التي أجريت في عام 2016 وأسفرت عن فوز ساحق لحزب «القوة الشعبية» وانتخاب بيدرو بابلو كوزينسكي (البولندي الأصل) رئيساً للجمهورية. لكن مع اندلاع فضيحة «لافا جاتو» عن طريق شركة «اوديبريخت» البرازيلية الضخمة للمقاولات التي كانت تدفع مبالغ ضخمة لرشوة سياسيين في عدد من بلدان أميركا اللاتينية، من بينها بيرو، اضطر كوزينسكي للاستقالة بعد ثبوت ضلوعه في عمليات الفساد وصدور حكم بإيداعه السجن. وعلى الأثر، تولى الرئاسة مارتين فيزكارّا، نائب كوزينسكي، الذي جعل من مكافحة الفساد المستشري العنوان الرئيسي لولايته، وسعى إلى إقرار مجموعة من القوانين والإصلاحات التي اصطدمت بمعارضة شديدة في البرلمان الذي يخضع 17 في المائة من أعضائه لملاحقات قانونية. وفي المقابل، سعى حزب «القوة الشعبية» منذ ذلك الوقت إلى استخدام سيطرته على الغالبية في البرلمان للضغط على الحكومة ومحاولة الإمساك بزمام المبادرة في إدارة البلاد انطلاقاً من السلطة التشريعية، ما أثار موجة واسعة من الاستياء في الأوساط الشعبية، ودفع الرئيس إلى استخدام الصلاحيات الاستثنائية التي منحها الدستور له لحل البرلمان، ودعا إلى إجراء انتخابات مسبقة في 26 يناير (كانون الثاني) المقبل.
وفي الرسالة التي وجّهها فيزكارّا إلى مواطنيه عند إعلانه حلّ البرلمان، دافع الرئيس عن قراره قائلاً إن «بناء نظام ديمقراطي وطيد يقتضي تعزيز المؤسسات وليس استغلالها لأغراض مشبوهة.
مؤسسات الدولة هي ملك لكل المواطنين وليس لجماعات معيّنة، مهما بلغ شأن تمثيلها السياسي في البرلمان». وما يستحق الذكر هنا، أن فيزكارّا كان قد طرح مطلع الصيف الماضي إجراء استفتاء شعبي لتعديل الدستور وتقديم موعد الانتخابات لمنتصف العام المقبل كمخرج من الأزمة المستعصية الناشئة عن الصدام بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، غير أنه اصطدم برفض قاطع من المعارضة البرلمانية لاقتراحه. وتفيد استطلاعات الرأي الأخيرة بأن 70 في المائة من المواطنين يؤيدون قرار الرئيس بحل البرلمان، وأن 84 في المائة يعترضون على أداء المجلس النيابي وممارساته التعطيلية.
ويرى مراقبون أن هذا الصدام يدفع بيرو نحو أزمة عميقة مفتوحة على احتمالات خطيرة ليس مستبعداً أن يكون للقوات المسلحة دور فيها. فالرئيس، من ناحيته، يعتبر أن خطوته هي السبيل الوحيدة لإخراج البلاد من حال الشلل السياسي الذي تعاني منه منذ وصوله إلى الحكم، في حين تعتبر المعارضة قراره بمثابة انقلاب على المؤسسات وعلى الإرادة الشعبية.

أين يقف الجيش؟

ورغم أن القيادات العسكرية والأمنية العليا سارعت إلى تأكيد ولائها التام لفيزكارّا بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلّحة، ما يوحي في الظاهر بسقوط احتمالات تدخل الجيش في الأزمة خارج الأطر المرسومة ضمن الدستور، فإن أوساطاً دبلوماسية تعتقد أن موقف القيادات العسكرية العليا قد لا يعكس بالضرورة ما يعتمل فعلاً في الصفوف المتوسطة بين الضبّاط الذين يميل كثير منهم إلى قوى المعارضة.
منظمة الدول الأميركية، في أوّل موقف لها من الأزمة، عدّت أن «الدعوة لإجراء الانتخابات خطوة بنّاءة ضمن أحكام الدستور، وأن القرار النهائي يعود للشعب البيروفي، الذي هو مصدر السلطة، وبالتالي، صاحب الكلمة الفصل في حسم الأزمة عن طريق الاقتراع». لكن المنظمة دعت في المقابل، المحكمة الدستورية إلى النظر في «شرعيّة القرارات الصادرة عن المؤسسات، وفي التباين المحتمل بين التأويلات الدستورية».
من جهة ثانية، وبينما كان فيزكارّا يعلن عن تكليفه وزير العدل فيسنتي سيبايّوس بتشكيل حكومة جديدة، عُلم أن وزيري الخارجية والاقتصاد الحاليين لن يشاركا فيها لاعتراضهما على قراره حل البرلمان وقربهما من الغالبية البرلمانية المعارضة، حصل تطوّر مفاجئ أدّى إلى تخفيف الاحتقان السياسي الذي تعيشه بيرو منذ مطلع هذا الأسبوع.
إذ أعلنت نائبة رئيس الحكومة مرسيدس آراوز، اعتذارها عن قبول قرار البرلمان بتكليفها القيام بأعمال رئيس الجمهورية، معدّة «أن الظروف ليست متوافرة راهناً لتولّيها المنصب»، وأن الجلسة البرلمانية التي جرى فيها التصويت على القرار غير مستوفاة الشروط القانونية الكافية.
وللعلم، فإن أسباب الاضطرابات السياسية التي تشهدها بيرو منذ سنوات، على غرار كثير من بلدان أميركا اللاتينية، تعود بنسبة كبيرة إلى الفساد المالي والسياسي المستشري، وأيضاً إلى الدور النشط الذي تقوم به الأجهزة القضائية في كشف حالات الفساد وملاحقة مرتكبيها.
ومن اللافت أن جميع الرؤساء الذين تعاقبوا على بيرو منذ عام 2001 وحتى اليوم جارٍ التحقيق معهم ضمن ملاحقات قضائية بتهم الفساد المالي وسوء استخدام السلطة.
وكانت السلطات الأميركية قد ألقت القبض في يونيو (حزيران) الماضي على الرئيس البيروفي اليميني الأسبق آليخاندرو توليدو في ولاية كاليفورنيا، تنفيذاً لطلب استرداد صادر في حقه بعدما فرّ من بيرو في أعقاب صدور قرار من المحكمة بسجنه 18 شهراً بتهمة قبوله رشوة مالية ضخمة من شركة المقاولات البرازيلية لتسهيل حصولها على عقود ضخمة في بيرو إبان ولايته. وكانت النيابة العامة البيروفية قد طلبت إنزال عقوبة السجن لمدة 16 سنة بالرئيس السابق أويانتا أومالا (يسار الوسط) و26 سنة بزوجته لضلوعهما في فضائح مالية واختلاس الأموال العامة. يذكر أنه عندما داهمت الشرطة والنيابة العامة منزل الرئيس الأسبق آلان غارسيّا تنفيذاً لمذكرة جلب في حقّه بتهمة غسل الأموال والرشوة، أقدم على الانتحار بإطلاقه النار على نفسه داخل منزله بالعاصمة ليما.



إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)
TT

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ، بل وإخفاقات وانتكاسات، في خضم صراعات جيوسياسية متحركة وأجواء شديدة التأزم في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. ماذا، إذن، حلّ بالسياسة الخارجية الفرنسية التي كانت مشاركتها الفاعلة داخل المجتمع الدولي تعبيراً عن صوت «حر» غير منحاز حتى تتراجع بهذا الشكل؟

جرى الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن «تقليد للدبلوماسية الفرنسية» هو النهج الذي اختاره قادة فرنسا لإدارة علاقاتهم الخارجية مع دول العالم، ولقد اتسمّ هذا النهج بـ«الاتزان» و«التميز»، وكان بالفعل حاضراً بقوة في المحافل الدولية، وبالأخص، في قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي.

نهجا ديغول وميتران

ذلك ما عُرف فيما بعد بـ«سياسة فرنسا العربية» التي رسم الرئيس التاريخي الأسبق الجنرال شارل ديغول ملامحها في خطاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 في أعقاب نكسة يونيو (حزيران) 1967، ومعها اعتمد ديغول أساساً الانفتاح على العالم العربي وتوطيد العلاقات بينه وبين فرنسا على مختلف الصعد.

في المقابل، منذ تلك الفترة طغى على العلاقات الفرنسية - الإسرائيلية جو من البرود إلى غاية وصول اليسار إلى الحكم في حقبة الثمانينات، فيومذاك أعاد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران «تفعيل العلاقات» عام 1982، منتهجاً سياسة أكثر انحيازاً لإسرائيل حتى لُقّب بـ«صديق إسرائيل الكبير».

ولاحقاً، كانت حادثة رشق الطلاب الفلسطينيين لرئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان بالحجارة عام 2000، بعد مشاهد الاستقبال الحار الذي لقيه الرئيس الراحل جاك شيراك في شوارع رام الله عام 1996، تجسيداً قوياً للاعتقاد السائد بأن اليمين الفرنسي أكثر مساندة وتأييد للمواقف العربية من اليسار.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

ضعف الإرادة السياسية

هنا يوضح باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (إيريس) ومؤلف كتاب «هل يسُمح بانتقاد إسرائيل؟» الأمر، فيقول: «على الرغم مما قيل عن اليسار وزعيمه ميتران، الحقيقة هي أن الإرادة السياسية للتأثير في الأوضاع كانت قوية في تلك الفترة من تاريخ فرنسا». ويضيف: «علينا ألا ننسى أن زعيم الاشتراكيين كان أول من ذكّر في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1982 بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، بالإضافة إلى استقباله الزعيم الراحل ياسر عرفات في باريس عام 1989».

وزيرة الخارجية الأسبق كاترين كولونا

لا فوارق ظاهرة اليوم

بونيفاس يتابع من ثم «اليوم لا نكاد نرى فارقاً بين اليمين التقليدي (الجمهوري أو الديغولي) واليسار الاشتراكي، علاوة على أن ديناميكية السياسة الداخلية تغيّرت بظهور حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يضم عناصر من اليمين واليسار والمجتمع المدني، ومعظمهم يفتقر إلى الخبرة السياسية، ناهيك عن ضعف الروح النقدية، بما في ذلك عند الجهات الفاعلة في الدبلوماسية... التي لم تعد تعبّر كما كان الوضع في الماضي عن مواقف فرنسا باعتبارها امتداداً لقيم التنوير وحقوق الإنسان والحريات».

جدير بالذكر، أن الإعلام الفرنسي كان قد عّلق مطوّلاً على «تواضع الخبرة السياسة» لوزراء خارجية ماكرون، مثل ستيفان سيجورنيه، الذي فضح الإعلام أخطاءه اللغوية الكثيرة وقلة إتقانه اللغة الإنجليزية. وما يتّضح اليوم من خلال تداعيات العدوان على غزة ولبنان هو أن الأصوات التي تناهض العدوان على غزة ولبنان لا تنتمي إلى اليمين الجمهوري، بل إلى أقصى اليسار الذي نظّم حركات احتجاج واسعة في البرلمان والشارع للضغط على الرئيس ماكرون من أجل التدخل.

وزير الخارجية السابق ستيفان سيجورنيه

هذا الأمر أكدّه رونو جيرار، الإعلامي المختص في السياسة الخارجية، الذي ذكّر أن السياسة الخارجية الفرنسية «فقدت استقلاليتها وفرادتها مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي - وهو آخر من مثّل اليمين الجمهوري في السلطة –». ويشرح: «حصل هذا حين قرّر ساركوزي إعادة فرنسا إلى المنظمة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 2009، ثم المشاركة في التدخل العسكري في ليبيا. وكانت هاتان الخطوتان خطيئتين كبريين لأنهما وضعتا حداً للتقليد الديغولي الجمهوري الذي يقضي بأن تحترم فرنسا جميع التحالفات، لكن من دون التماهي مع الولايات المتحدة، ذلك ملخصه في العبارة الشهيرة (حليفة... ولكن غير منحازة)...».

وهنا يضيف الباحث توماس غومارت، مدير معهد العلاقات الدولية (إيفري): «لنكن واقعيين، صوتنا ما عاد مسموعاً كما كان الحال في السابق، والشعور بأن المجتمع الدولي عاجز أمام الهيمنة الأميركية ملأ النخب السياسة بالتشاؤم، وبالتالي غدت سبل الضغط المتاحة لدينا اليوم محدودة».

ماكرون: سياسة خارجية متناقضة...بالنسبة للرئيس ماكرون، فإنه فور وصوله إلى الحكم بدأ في تقديم الخطوط العريضة لسياسته الخارجية والتوجهات الجديدة للدبلوماسية الفرنسية، حين أجرى لقاءً صحافياً مع ثمانٍ من كبريات الجرائد والمجلات الأوروبية («لوفيغارو» الفرنسية، و«لوسوار» البلجيكية، و«لو تون» السويسرية، و«الغارديان» البريطانية، و«سودويتشه تسايتونغ» الألمانية، و«كورييري ديلا سيرا» الإيطالية، و«إل باييس» الإسبانية و«غازيتا فيبورتا» البولندية). وفي هذا اللقاء أكد ماكرون أن أولوية سياسته الخارجية محاربة «الإرهاب الإسلامي»، والتنسيق مع جميع القوى الكبرى من أجل ذلك.

وزير الخارجية الحالي جان نويل بارو

ثم، في جولته الأولى لأفريقيا أعلن في «خطاب واغادوغو» ببوركينا فاسو (مايو/أيار 2017) أن فرنسا ستسعى جاهدة للتعاون مع الدول الأفريقية في إطار شراكة متكافئة، كما ستكون حاضرة للمساهمة في السلام كـ«رمانة» لميزان القوى العالمية؛ ما رفع بعض الآمال في أن تكون الحقبة الرئاسية لماكرون أفضل من غيرها، لا سيما، وأن طبيعة الحكم (الرئاسي) في فرنسا تجعل من الرئيس المسؤول الأول والأخير عن السياسة الخارجية.

وحقاً، كثّف الرئيس الفرنسي من حراكه الدبلوماسي على مسارات عدة، كما ضاعف بكثير من الحماسة المبادرات والتصريحات الطموحة، لكنها بمعظمها كانت متناقضة، وتفتقد المنهجية والرؤية الواضحة... وفق بعض التقارير. جيرار جيرار (الإعلامي في «لوفيغارو») يعيد إلى الأذهان أن ماكرون كان متناقض المواقف في غير مناسبة، منها «حين حاول أولاً التفاوض مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين بخصوص الحرب في أوكرانيا، ثم تحوّل متبنياً لهجة عدائية صريحة إلى حد التهديد بإرسال قوات مسلّحة للدفاع عن أوكرانيا... ما أثار حفيظة الفرنسيين والشركاء الأوروبيين». وأردف جيرار: «وكأن هذا لم يكن كافياً، طلب الرئيس ماكرون المشاركة في قمة (بريكس) مع أن الكّل يعلم بأنها فكرة بوتين. فهل كان يعتقد فعلاً أن الدول التي تجمّعت في هذه المنظمة للتحّرر من الهيمنة الغربية تريد أن تلتقي به أو تصغي لما يقوله؟».

سياسة باريس الأفريقية

عودة إلى الشأن الأفريقي، بعد الآمال الكبيرة التي أثارها «خطاب واغادوغو» عام 2017 بتصحيح صورة «فرنسا الاستعمارية» والتعاون مع الأفارقة كشركاء، جاءت خيبات الأمل. ففي المغرب العربي، أولاً، فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر في سياق جيوسياسي كثير التقلبات. ثم مع باقي الدول فشلت أيضاً في التخلص من «صورة القوة الاستعمارية السابقة» بسبب أخطاء عدّة ارتكبها ماكرون، أولها احتكاره جميع ملفات السياسة الخارجية، وهو ما لخصّته مجلة الـ«موند أفريك» في مقال بعنوان «كاترين كولونا خيبة أمل أفريقية» بالعبارة التالية «للأسف السيدة كولونا ودبلوماسيوها لم يتمكنوا من التأثير بسبب قرارات الإليزيه العديمة المعنى...».

وهنا، كما ذكر أنطوان غلاسير، الباحث المختص في الشؤون الأفريقية، على موقعه على منّصة «يوتيوب»: «حين تولى ماكرون زمام السلطة، وعد الدول الأفريقية بقطيعة نهائية مع الماضي وبتوازن في العلاقات، لكن ما حدث وما قيل أكد استمرار الممارسات القديمة، بدايةً مع المماطلة في سحب الجيوش الفرنسية من مالي، ثم عبر التصريحات الاستفزازية بخصوص الانقلابات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وأكثر منها... التلويح باستعمال قوات «الإيكواس/ السيدياو» (المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا) للتدخل في النيجر، ثم التراجع عن تلك التصريحات».

وحسب غلاسير، كان على ماكرون أن يلتزم الصمت: «فبأي صفة يقرّ ما هو شرعي وما هو غير شرعي؟». وكل هذه الأخطاء السياسية كرَّست الانحدار السياسي لماكرون وانكماش الدور الفرنسي في أفريقيا.

الشرق الأوسط: حصيلة هزيلة...

أما في الشرق الأوسط، وخلال ولايتين رئاسيتين وسبع سنوات من تولي ماكرون السلطة، ثمة شبه إجماع على أن الإخفاق كان سيد الموقف في مساعي السلام التي حاولت فرنسا إطلاقها والإشراف عليها.

في لبنان، الذي تجمعه بفرنسا روابط تاريخية وثقافية قوية، لم تكن الإرادة ولا حسن النية هما المشكلة عند ماكرون. إذ كان أول المسؤولين العالميين تحركاً، حين زار لبنان بعد تفجير ميناء بيروت عام 2022، ووعد بإصلاحات سياسية داخلية لإخراج البلاد من الأزمة، لكن وعوده لم تتجسد على أرض الواقع. وفي موضوع بعنوان «ماكرون مسؤول عن تدهور الاوضاع في لبنان» نقلت صحيفة «كورييه أنترناتيول» عن نظيرتها الأميركية «الفورين بوليسي» تحليلاً يقول التالي إن «إحجام فرنسا عن محاسبة النخب السياسية (اللبنانية) بحزم، والاكتفاء بمطالبتهم باتخاذ إجراءات كان تصرفاً ساذجاً بشكل مربك. فبعد أشهر طويلة من التهديد بفرض عقوبات على الشخصيات المسؤولة عن الجمود السياسي، أعلنت باريس أنها ستفرض قيوداً على دخول الأراضي الفرنسية، لكنها كانت خفيفة جداً لدرجة انها لم تؤثر على أحد».

وبالفعل، لم تتمكّن فرنسا - السلطة الانتدابية السابقة في لبنان - من تحقيق أي اختراق على خط أزمات البلد الذي يعاني انقسامات سياسية وطائفية عميقة حالت حتى الآن دون انتخاب رئيس للجمهورية على الرغم من شغور المنصب منذ سنتين.

وللعلم، كانت تقارير إعلامية كثيرة قد نشرت شهادات لمقرّبين من محيط جان إيف لودريان، المبعوث الخاص للبنان، دافعوا فيها عن نشاطه وتنقلاته الستّة إلى بيروت، بحجة «أن الدبلوماسية تتطلب وقتاً»، وأن النتائج كانت ستظهر لولا ظروف الحرب في غزة التي خلطت كل الأوراق. والمصادر ذاتها لم تتردد في توجيه أصابع الاتهام إلى الأطراف اللبنانية، معتبرة أن «الجمود السياسي مسؤولية اللبنانيين».

أيضاً، انتقدت أنياس لوفالوا، الباحثة في معهد الأبحاث والدراسات حول دول المتوسط والشرق الأوسط، «عجز الدبلوماسية الفرنسية عن إسماع صوتها مقابل تنامي النفوذ الأميركي في بلاد الأرز». ورأت أن السبب يعود إلى المنهجية التي يتبعها ماكرون الذي احتكر منذ البداية كل الملفات، ثم ضاع في تفاصيلها بسبب نزعته إلى السيطرة على كل شيء ورفضه الاستعانة بخبرة الدبلوماسيين المحنّكين.

الموقف الفرنسي من العدوان على غزة أيضاً اتسم بالعديد من التناقضات. وبعدما ظّل في حالة جمود لأشهر طويلة رغم مشاهد القتل والدمار، تحرّك في الأسابيع الأخيرة بعد سلسلة من التصريحات أطلقها الرئيس ماكرون نتجت منها مشاحنات كلامية شديدة اللّهجة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتهت بتحميل ماكرون مسؤولية التصريحات لبعض الوزراء «الذين نقلوا تصريحات مزيفة...» و«لصحافيين كرّروها دون أن يتأكدوا من صحتّها...». هذا الموقف الذي اعتبره البعض تهرّباً من المواجهة يعكس العجز التي يميز حالياً الموقف الفرنسي. وهنا، تمنى السفير السابق جيرار آرو لو أن ماكرون «التزم الصمت... أو التكلم بالتنسيق مع الشركاء الأوربيين كي يكون لمبادرته تأثير أكبر».

«صورة فرنسا»... مشكلة!

في أي حال، يرى رونو جيرار أن صوت فرنسا ما عاد مسموعاً في المحافل الدولية «لأنها لم تعد تثير الإعجاب، ولم تعد ذلك النموذج الذي يعكس الإشعاع الثقافي والتطور الاقتصادي وحقوق الإنسان». ويشرح على صفحات مجلة «كونفلي جيو بوليتك» قائلاً: «عندما تكون فرنسا وراء فكرة معايير ماستريخت بينما تعُد أكثر من 3000 مليار يورو من الديون و5 ملايين عاطل عن العمل، فلن يكون لصوتها تأثير كبير... نحن البلد الأوروبي الذي فيه أعلى نسبة ضرائب حكوماته لم تعد قادرة على توفير الحّد الأدنى لمواطنيها». ثم يذكّر بأن شارل ديغول اهتم أولاً بأوضاع فرنسا الداخلية، وبالأخص الوضع الاقتصادي، قبل أن يبدأ جولته الأولى خارج البلد عام 1964.

أما السفيرة السابقة سيلفي بيرمان، فرأت خلال حوار مع «لو فيغارو»، تحت عنوان «هل ما زالت فرنسا تملك الأدوات لتحقيق طموحها؟»، أن التوتر السياسي الداخلي أثَّر سلباً على صورة فرنسا في العالم. وأعطت الاحتجاجات الشعبية والإضرابات المتواصلة العالم الانطباع بأننا فقدنا السيطرة على الأوضاع، فكيف نقنع غيرنا إن لم نعد نمثل القدوة الحسنة؟ في المغرب العربي فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر