إردوغان مهووس باستعادة الأمجاد الغابرة

عبد الرحمن صلاح يكتب عن تجربته {سفيراً لدى السلطان»

إردوغان مهووس باستعادة الأمجاد الغابرة
TT

إردوغان مهووس باستعادة الأمجاد الغابرة

إردوغان مهووس باستعادة الأمجاد الغابرة

شغل عبد الرحمن صلاح منصب آخر سفير مصري في تركيا بين عامي 2010 و2013. وشهدت مرحلة توليه المنصب كثيراً من التداعيات في علاقات البلدين اللذين يمثل كل منهما قطباً إقليمياً فاعلاً ومؤثراً على مستوى المنطقة. وكان لتلك التداعيات أن جعلت مهمة السفير صعبة، لكنها أمدت الكاتب الكامن في داخله بالمادة الأولية الضرورية لإنجاز كتابه. هكذا، قرر السفير الذي عانى الإقصاء، وصولاً إلى التهميش، في كثير من مفاصل مهمته، أن يتحول شاهداً، ولاحقاً راوياً.
منح صلاح لكتابه الأول، الصادر عن دار «نهضة مصر»، عنواناً موحياً غير محايد «كنتُ سفيراً لدى السلطان». ومنذ البداية، يميل الكاتب إلى مقاربة جوهر الخلل: ثمة رئيس في تركيا، هو رجب طيب إردوغان، يبدي حرصاً، يكاد يكون مرضياً، على استعادة حلم الخلافة، يوم كان سلاطين بني عثمان يمارسون سطوة وهيمنة بلا حدود على مناطق شاسعة من العالم وشعوبه. الصورة التي اختارها السفير غلافاً لكتابه تطابق العنوان، وتنسجم مع دلالاته: صورة السلطان المعاصر محاطاً بعناصر حرسه المرتدين لثياب العسس في قصور الخلافة... الأمر يكاد يحيل إلى حلم من أحلام اليقظة.
يتألف الكتاب من أربعة عشر فصلاً، ألحقت بها ستة محاور، تشمل المقابلات الصحافية التي أجريت مع الكاتب، وهي تهدف إلى محاولة استيعاب خفايا العلاقات بين مصر وتركيا، وصولاً إلى الأزمة التي عصفت بينهما، فدفعتهما إلى تخفيض مستوى علاقتهما الدبلوماسية لدرجة القائم بالأعمال عام 2013، وهي الحادثة التي منحت عبد الرحمن صلاح لقباً متميزاً: «آخر سفير للقاهرة في إسطنبول». وقد بدأ السفير عمله في تركيا في أواخر عهد الرئيس حسني مبارك، واستمر في الفترة الانتقالية التي تسلم السلطة فيها المجلس العسكري، برئاسة المشير حسين طنطاوي، ليعاصر مرحلة تولي الرئيس محمد مرسي منصب الرئاسة، وليستمر في الفترة الانتقالية الثانية، تحت سلطة المستشار عدلي منصور، قبل أن يغادر السفارة عائداً إلى مصر بعد نشوب الأزمة بين البلدين، في عهد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي. وفي خضم هذه التحولات المتسارعة، أمكن للسنوات الثلاث التي أمضاها عبد الرحمن صلاح سفيراً لبلاده في تركيا أن تكون زاخرة بالأحداث الدالة التي يسعها أن تضيء على كثير من الزوايا المظلمة في العلاقة بين دولتين محوريتين.
يقدم صلاح في كتابه رؤية مراقب للواقع السياسي والشعبي في تركيا: ثمة تناقض لا تخطئه العين، يتجلى في نفور واضح من الغرب «الذي يحيك الدسائس لتركيا»، يقابله انجذاب صارخ نحو العادات والسلوكيات الغربية في كثير من تفاصيل العيش: التدين المجاور للعلمانية المتجذرة، والتعصب للقومية التركية يسير بالتوازي مع حالة انبهار بأنماط الحياة السائدة غرباً.
وفي مجتمع على هذا القدر من التناقض، يقوم حكم سياسي مهجوس باستعادة أمجاد غابرة، ويتكرس حاكم تراوده أحلام السلطنة، فتصير مصر، بما تمثله من مكانة رائدة على مستوى العالم العربي، محط استهداف مفصلي من قبل الحكم التركي، خصوصاً بعد تولي الإخوان المسلمين، بزعامة محمد مرسي، مقاليد السلطة فيها، لتكريس حالة تبعية مصرية لتركيا، وإن كانت مضمرة، أي سيطرة غير مباشرة لإردوغان على محيط عربي شاسع، وهي نقطة انطلاق ملائمة لبعث السلطنة وإحياء مجد السلطان.
يؤرخ الكاتب، بدءاً من السنة الأخيرة من عهد الرئيس مبارك، للعلاقة بين مصر وتركيا، ويكشف أن معبر رفح الذي يفصل بين غزة ومصر كان يشكل محور التناظر. كان مبارك يحرص على تخفيض مستوى المساعدات العينية للقطاع عبر المعبر، حتى لا يتهم من قبل إسرائيل بتسريب الأسلحة، في حين شهدت المدن التركية مظاهرات حاشدة تدعو مصر لفتح المعبر على مصراعيه. وعندما سأل السفير المصري الذي سبق صلاح في تركيا أحد المسؤولين الأتراك ما إذا كانت حكومته تقف خلف تلك المظاهرات، لم يجد الرجل ما يدعوه للتمويه في رده: «يجدر بك أن تحمد الله على أننا لم نقتحم سفارتك»!
في عام 2011، بعد تنحي مبارك عن سدة الرئاسة، وتولي المجلس العسكري، بقيادة المشير حسين طنطاوي، مقاليد السلطة، رأت تركيا أن الفرصة أصبحت سانحة لتحقيق حلم الهيمنة على مصر. فسارع مسؤولون أتراك للتوافد إلى القاهرة، مقدمين أنفسهم كأوصياء على سلطة مرتبكة، وشهد شهر مارس (آذار) من العام نفسه زيارة قام بها الرئيس التركي آنذاك (عبد الله غول) لمصر، مترئساً وفداً تركياً رفيع المستوى، ضم وزير خارجيته أحمد داود أوغلو وآخرين، ليكون بذلك أول رئيس جمهورية يزور القاهرة بعد التحولات المستجدة فيها.
وفي وقت لاحق (سبتمبر | أيلول 2011)، قدم إردوغان إلى مصر، وكان في سلوكه كثير مما يثير الريبة، فقد طرح على طنطاوي مشروع إقامة «مجلس استراتيجي مشترك» بين البلدين، وإقرار حرية تنقل المواطنين من دون تأشيرة. ولم يجد المشير صعوبة في رفض الاقتراح الأول، معللاً موقفه بأنه يتولى سلطات انتقالية لا تتيح له فرض الأمر على الرئيس الذي سيتولى الحكم بعده. أما مسألة التأشيرات، فأحيلت إلى جهاز المخابرات العامة الذي رفضها لدواعٍ أمنية.
الأداء اللوجيستي لإردوغان وفريقه في تلك الزيارة كان باعثاً على الدهشة أيضاً، حيث تم السماح بنشر آليات عسكرية تركية مدرعة للحماية، وهي سابقة لم تشهدها زيارة رسمية من قبل. كذلك تولى الأمن التركي مهمة تفتيش صالة الاستقبال في المطار، حيث منعوا المصريين من الدخول، وتكرر الأمر مع وزير الاتصالات الذي كان عليه أن يرفع صوته حتى أمكنه الدخول إلى دار الأوبرا، حيث كان الرئيس التركي سيلقي كلمة. وفي اليوم التالي، منع الجنود الأتراك وزيرة التعاون الدولي فايزة أبو النجا من دخول صالون اجتماعات مجلس الوزراء المصري، حيث كان إردوغان يعقد لقاء مع رئيس الوزراء المصري عصام شرف، فأبدت الوزيرة غضبها، وطالبت الضيف التركي بالاعتذار، لكنه اكتفى بأن دعا مضيفيه المصريين إلى تفهم حرص مرافقيه على حياته. ثمة حادثة مماثلة حصلت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، حيث كان وفد تركي برئاسة إردوغان يزور مصر. وبعد عشاء أعقب جلسة مباحثات، توجه رئيس الوزراء المصري حينها (هشام قنديل) إلى الحمام، حيث كان إردوغان قد سبقه، ففوجئ قنديل حينها بعناصر الأمن التركي يحملونه من ذراعيه ويلقون به خارجاً... وكان كل ما حصل عليه بعد ذلك الموقف المسيء عناقاً من إردوغان، مشفوعاً بكلمة «عفواً» باللغة العربية!
واعتماداً على ثقافته الدبلوماسية، يرصد الكاتب سوء أداء الطاقم السياسي المصري المحيط بالرئيس السابق محمد مرسي، حيث كانوا يحرصون في زياراتهم المتكررة لتركيا على تخطي القواعد المعتمدة في العمل الدبلوماسي، فيتعمدون إقصاء سفير بلادهم عن لقاءاتهم مع المسؤولين الأتراك. وكانوا يصرون على ذلك، رغم سيل البرقيات التي كانت ترسلها السفارة إلى القاهرة، مذكرة بضرورة اعتماد الأصول. لكن زوار إسطنبول من المصريين كانوا يضربون عرض الحائط بكل تلك الأعراف والنواظم، مصرين على عقد لقاءاتهم بصورة منفردة، بعيداً عن السفير والسفارة.



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.