الرسائل الكاملة للبريطانية لوسي دوف جوردون بالعربية

ترجمها إبراهيم عبد المجيد وتحكي ذكريات عاشتها في مصر

الرسائل الكاملة للبريطانية لوسي دوف جوردون بالعربية
TT

الرسائل الكاملة للبريطانية لوسي دوف جوردون بالعربية

الرسائل الكاملة للبريطانية لوسي دوف جوردون بالعربية

يتضمن كتاب «رسائل من مصر»، للكاتبة البريطانية لوسي دوف جوردون، الذي صدر حديثاً عن «دار الياسمين»، وقام بترجمته الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد، مائة وثلاثين رسالة كتبتها الأديبة البريطانية في أثناء وجودها في مصر للشفاء من مرض السل، بين عامي 1862 و1869، الذي توفيت متأثرة به، ودفنت في القاهرة.
في مقدمته للكتاب، يتحدث عبد المجيد عن ليدي لوسي دوف جوردون ليس بوصفها كاتبة ومترجمة كبيرة في تاريخ الأدب الإنجليزي، ولا عن إنجازها العظيم من الكتب رغم سنوات عمرها القليلة (1821 - 1869)، لكنه يركز على الرسائل التي تجاوز عددها مائة وثلاثين رسالة، والتي بعثتها جوردون إلى زوجها ووالدتها وبناتها وابنها. وقد تم نشر جزء منها في حياتها في كتاب بعنوان «رسائل من مصر»، في مايو (أيار) عام 1865، بمقدمة لأمها السيدة أوستِن التي قامت بمراجعته، وكانت مجبرة على حذف ما يشير إلى ضيق ابنتها، وينغص حياتها في مصر. وقد حظيت الرسائل باهتمام ورواج كبير، مما جعل الناشر (دار ماكميلان) يقوم بطباعة الكتاب قبل نهاية العام 3 طبعات. وفي عام 1875، قامت ابنتها جانيت روس، وكانت تعمل مراسلة لصحيفة «التايمز» في القاهرة، بإصدار كتاب يحتوي على «الرسائل الأخيرة من مصر»، وأضافت إليه «رسائل من رأس الرجاء الصالح» التي طُبعت من قبل عام 1864، وقالت روث إنها أرفقت بهذه الطبعة ما سمته «ذكرياتي» التي تحكي فيها عن أمها. ومن هذا الكتاب، ظهرت الطبعة الثانية عام 1876، التي تضمنت رسائل دوف جوردن كما كُتبت، لكن حذفت روس ما يختص بالأمور العائلية التي لا تفيد الجمهور.
ويرصد عبد المجيد حياة لوسي دوف جوردون في مصر، وإقامتها في مدينة الأقصر (جنوب مصر) في «بيت فرنسا»، التابع للسفارة الفرنسية، وحكاياتها عمن التقت بهم، ومن قاموا على خدمتها، ممن تحدثت عنهم في رسائلها، كما يشير إلى أنها كانت تتنقل بين القاهرة والإسكندرية، وإلى لندن أيضاً، فضلاً عن رحلاتها إلى أسوان والنوبة وعودتها.
وخلال فترة وجودها القصيرة في مصر، لاحظت دوف أن الأمراض متفشية بين الأهالي، والطاعون البَقَري ينتشر بين الحيوانات، فقامت بدور الحكيمة للمصريين من أمراض مثل الدوسنتاريا والربو، وغيرهما، وكان علاجها إياهم بالأعشاب. قامت دوف بكل ذلك، رغم وجود أطباء في مصر، لأن المصريين آنذاك كانوا لا يثقون بـ«طبيب الحكومة»؛ الحقيقة أنهم كانوا لا يثقون بأي شيء من قبل الحكومة، وهكذا صارت هي المنقذ الوحيد لهم في الأقصر، وغيرها من البلاد التي كانت تحيط بها، وذاع صيتها فيها.
ولم يواجه أهل الأقصر ما كانت تقوم به دوف تجاه مرضاهم بالدعاء لها بالصحة والسلامة فقط، لكنهم قدموا لها الهدايا من كل شيء، لحم وزبد وخضراوات وفاكهة وبيض وفطير، وكل ما كانوا يملكونه أو يستطيعون فعله... ولم يكن ذلك كل شيء، فقد التقت شخصيات نادرة بينهم، مثل الشيخ يوسف (واعظ مسجد أبو الحجاج)، والدكتور عثمان إبراهيم، والحكيمباشي علي أفندي، وجمع من شيوخ البلد وشيوخ قبائل العبابدة، وهكيكيان بيك الأرمني، الذي يقول عنه الدكتور محمد خاكي إنه وراء دخول زراعة اليوسفي في مصر، وذلك في كتابه «رسائل من مصر - حياة لوسي دوف جوردون في مصر 1862 - 1869» الذي أصدرته هيئة الكتاب المصرية قبل 53 عاماً.
وتتحدث جوردون في رسائلها عن خدمها، ويأتي عمر أبو الحلاوة على رأسهم، وقد كتبت عن علاقتها بالصِبية من العبيد الذين أحبتهم وأحبوها إلى درجة مذهلة، فضلاً عن بحارتها الذين يعملون على «دهبيتها»، بعد أن امتلكت «دهبية - مركب صغيرة». وتحتفي جوردون في رسائلها بالطبيعة المصرية، وتقدمها بوصف فني عالٍ، بتفاصيلها الصغيرة وظواهرها الكبيرة، من زراعة أو عمارة أو غيرهما.
ويشير عبد المجيد إلى أن دوف جوردون ترد في الكتاب على من يقولون إن الشعب المصري لا يدار إلا بالعصا، وتقول إنه ليس هو وحده، لكن أي شعب يمكن أن يدار بالعصا ما دام من يستخدمون العصا لا تتم محاسبتهم، كما ترد على من يقولون إن المسلمين لا يحبون الأقباط بأن هذا لا وجود له، ولم تشاهده.
وتقدم دوف في الرسائل الأدلة الحقيقية والروحية من حكايات واقعية أو أسطورية، كما تجسد قضايا غابت عن كثيرين، وهي أن المصريين هم من دفعوا ثمن التطور الذي قاده الخديوي إسماعيل في البلاد، بعد أن فرض ضرائب باهظة على الرجال والنساء والخفر والأولاد والحمير والأحصنة والجمال والبيع والشراء، في عاصمته الخديوية ذات الطراز الفرنسي، وهو ما جعل الفلاحين يهجرون الأراضي ويعم الخراب البلاد.
وترد الرسائل على من قالوا إن بداية الحياة الديمقراطية كانت بإقامة مجلس للنواب أو دستور للبلاد، بما يفعله الخديوي إسماعيل وجنوده في الناس من سرقة ونهب وضرب وتعذيب يصل إلى حمل الرجال على العمل سُخرة في القناة وغيرها، فضلاً عن الخدمة العسكرية والديون الخارجية، إذ لم يكن أرخص من الإنسان المصري في عهده.
وتقول جوردون في رسائلها إن هذا الحاكم الذي تراه أوروبا مستنيراً خرب البلاد، ولم تتوقع له مستقبلاً جيداً. كما تشير إلى أن المصريين طلبوا منها أن تكون صوتهم في الصحافة الأوروبية، وأن تتدخل إنجلترا وتحكم مصر، وتُخلِّص الشعب من ظلم الأتراك، كما تتحدث عن تمرد قاده درويش اسمه أحمد الطيب، انتهى بخراب لا مثيل له قاده بشكل مباشر الخديوي إسماعيل، وقتل المئات، وبقر جنوده بطون النساء الحوامل، وباعوا الفتيات في أسواق النخاسة، وزجوا بالرجال الذين لم يتم قتلهم إلى العمل سخرة أو المنفي في «فازوغلي» بالسودان، وقد خربوا قُرى كاملة ذكرتها دوف بالاسم، وأشارت إلى عدد الضحايا، وطريقة قتلهم التي كانت أشبه بالتسلية لرجال الباشا.
#وتأخذ دراسة الشرق والغرب مساحة كبيرة من حديث دوف جوردون، فضلاً عن العبادات والأديان والأساطير والحكايات، كما تنتقد من كتبوا عن الشرق عامة، ومصر خاصة، من الرحالة والمكتشفين، وترى أنهم سطحوا الأمور، وتعصبوا ضد المصريين، ولا تستثني أحداً تقريباً غير إدوارد وليم لين. كما يأتي الحديث كثيراً عن بعثات اكتشاف الآثار في ذلك الوقت، وأثريين أجانب مشاهير، مثل بيلزوني ومارييت باشا، وكيف كانت تتم سرقة الآثار أيضاً.
وفي الكتاب كثير من الحكايات عن العبيد الصغار والنساء، كما تحتل المرأة المصرية مكانة تكاد تصل إلى درجة القداسة عندها، في وصفها لسلوكها أو ملابسها أو حفلات زواجها أو جسدها أو رقصها في الحفلات، وقد كتبت ذلك بلغة بسيطة، كما لو كانت تتحدث، حسب وصف جورج ميريديث للرسائل والحكايات التي يبدو كل شيء مجسداً فيها.
وتقدم جوردون في الرسائل صورة إنسانية للحياة الحقيقية لمصر وللمصريين، وتسميهم «العرب»، لكن عبد المجيد حرص على أن يترجم كلمة عربي بكلمة مصري، إلا في فقرات قليلة كانت تتحدث فيها عن البدو، وأثر العرب عليهم منذ دخلوا مصر. ولا يخلو الكتاب من خفة الدم وروح الدعابة التي يتمتع به المصريون، وتمتعت بها هي أيضاً، كما لا يخلو من تصوير الجانب الأسطوري والخيالي من فهم المصريين للحياة.



فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.