الوعي الإعلامي في ضوء تطور تقنية المعلومات

دورة جديدة من معرض غوتنبرغ للكتاب

جانب من المعرض
جانب من المعرض
TT

الوعي الإعلامي في ضوء تطور تقنية المعلومات

جانب من المعرض
جانب من المعرض

إلى جانب موضوعين رئيسيين، وهما الاحتفاء بأدب كوريا الجنوبية - وهذا تقليد دأب عليه معرض الكتاب في غوتنبرغ غرب السويد، سنوياً، باختيار أدب دولة من الدول ليكون ضيفاً رئيسياً في المعرض - إلى جانب موضوع المساواة، سلط معرض الكتاب في غوتنبرغ، هذا العام، في نسخته الخامسة والثلاثين التي انتهت قبل يومين، الضوء على «الوعي الإعلامي» الذي يعد واحداً من أهم المواضيع الشائكة التي تشهدها المجتمعات كافة، والصناعية منها على وجه الخصوص، والتي تتسارع فيها وتيرة التحولات نحو مجتمع المعلوماتية، أو المجتمع الرقمي، كما تسميه أدبيات هذا العالم الإلكتروني، الذي تتوازى أو تتشابك مساراته مع العالم المادي.
وخصص المعرض إحدى منصاته لمناقشة موضوع مدى إدراك الفرد للمتغيرات المتسارعة، الجارية في البنى المجتمعية، التي تتوغل من خلالها وسائل نشر المعلومات، وتحشر نفسها في حياة الإنسان، دونما استئذان، وبطريقة توحي بالقبول والتفاعل الإيجابي. فيجد المرء نفسه منخرطاً فيها دون تفكير متمعن، فتؤثر على حياته اليومية، وتغير من عاداته وسلوكه الاجتماعي.
وخلال المناقشات في هذه المسألة المهمة والضرورية، طرح مجموعة من تلامذة المدارس أسئلة على عدد من الإعلاميين، لمعرفة آرائهم فيما يجري في مجال الإعلام والمعلوماتية.
وأغلب الأجوبة ركزت على أن الثورة التقنية التي انطلقت منذ عقود، استطاعت أن تقلب المفاهيم التقليدية السائدة في المجتمعات، وتوفر للأفراد إمكانية التواصل، بعضهم مع بعض، بصورة سلسة وخارقة للزمن، عابرة للحدود الجغرافية السياسية، وأن مشاعية استخدام الإنترنت، من قبل الأفراد والمؤسسات وغيرها، منذ أكثر من أكثر من عشرين عاماً، بعد أن كانت تعد أدوات سياسية استخدمت في الصراع الدول المهيمنة، وضعت حجر الأساس لأفكار جديدة، تتحرر بموجبها الجماهير الغفيرة من القيود التي تكبلت بها جراء ممارسات السلطات التعسفية ضدها. فتنطلق في هذا الفضاء الذي لم يعد فيه للحكومات المحلية الدور الواسع في السيطرة على حرية مواطنيها في التعبير.
لكن سرعان ما اصطدمت القضايا المتعلقة بالإنترنت بمصالح القوى العالمية المتحكمة في الاقتصاد العالمي، الأمر الذي «قوض حلماً في فضاء حر بلا حدود».
كما يشير جاك جولدسميث، وتيم وو، مؤلفا كتاب «Who Controls the Internet? Illusion of Borderless World» (من يحكم الإنترنت؟ أوهام عالم بلا حدود) إلى أن كثيرين، خلال منتصف التسعينات، ظنوا أن الدول لن يتسنى لها التحكم في الآثار المحلية للاتصالات غير المرغوب فيها عبر الإنترنت، تلك التي نشأت خارج حدودها. لكن السنوات الأخيرة أثبتت «أن الحكومات الوطنية لديها كم هائل من الوسائل والطرق التي تتحكم من خلالها باتصالات الإنترنت التي تتم خارج حدودها».
واليوم، تشهد المجتمعات تطورات هائلة ومتسارعة في وسائل الإعلام والاتصالات، أخذ، من خلالها، تدفق المعلومات وغزارتها مَدَيات لم تشهدها المجتمعات من قبل، خلال مسار تطورها ووسائل تقدمها عبر التاريخ. وكنتيجة لذلك بات الإنسان الفرد اليوم محاطاً؛ بل محاصراً بالمعلومات التي لم تعد حكراً على فرد أو فئة دون أخرى؛ بل هي سوق مفتوحة لكل من يود الإدلاء ببضاعته. غير أن الفارق ما زال هو نفسه فيما يتعلق بقدرة من يملك أدوات الوسائل، لجعل هذه الجهة أو تلك بمقدورها التأثير على العقول، وصياغتها بطريقة تبدو مخملية ناعمة.
وتأخذ النقاشات الخاصة والعامة اليوم مساحات واسعة، عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي المتعلقة بهذه المسألة التي تحتوي المجتمع بكل مؤسساته وأفراده. فالفرد العادي يستخدم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي كـ«فيسبوك» و«تويتر» وغيرهما، تماماً كما تستخدمه الشركات الأهلية والعامة ومؤسسات الدولة وسلطاتها التقليدية المعروفة؛ لكن المنافسة على التأثير في وعي المتلقي، الذي لم يعد بدوره أحادي الاتجاه، بمعنى أنه لم يعد متلقياً فحسب؛ بل ومرسلاً أو مصدراً للمعلومة بالوقت ذاته، ستكون في النهاية لصالح من يملك أدوات التأثير على الرأي العام، والأساس فيها الدعاية والإعلان بحلته الرقمية الجديدة.
وفيما يتعلق بمعرض الكتاب في غوتنبرغ الذي أنهى أعماله الأحد 29 سبتمبر (أيلول) 2019، فقد ركزت المنصة الخاصة بالوعي الإعلامي، على دور المؤسسات البحثية والتعليمية في إشاعة المعرفة حول المعلوماتية ووسائل الإعلام والاتصال الجماهيري، مع التركيز على الشبيبة والناشئة، وحتى الأطفال في المدارس، في إفساح المجال للنقاشات الهادفة إلى خلق إدراك لمغزى التطورات الجارية في تقنية المعلومات في المجتمع، وتأثيراتها على حرية التعبير، التي ستظل بالنسبة للسويد - باعتباره بلداً ديمقراطياً - حجر الأساس في نظامه الاجتماعي. فالمجتمع يتغير، ولكن مبادئ الديمقراطية فيه تبقى، ويبقى دور وسائل الإعلام الجماهيرية: الكتب، والصحف، والإذاعة، والتلفزيون، ووسائل التواصل الاجتماعي، والتحولات الرقمية، وغيرها، في التأكيد على تطبيق تلك المبادئ في حرية التكلم والاستماع والكتابة والمشاهدة والتعبير، من خلال حيادية هذه الوسائل، ومراقبة عمل الحكومة، والتحقق من سلامة إدارة السلطات لمهامها، إضافة إلى توفير أماكن في الفضاء العمومي للنقاشات في تلك المتغيرات.
غير أن حرية التعبير ليست خالية من الحدود، كما أن حدودها غير ثابتة، وتتأثر بالتغيرات الحاصلة في السياقات الثقافية والاجتماعية، وهذا ما تفرزه بعض النقاشات الحادة والشديدة في هذا المجال.



«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»
TT

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة أو أن تُحسب دراسته، على الرغم من التفصيل والإسهاب في مادة البحث، أحدَ الإسهامات في حقل النسوية والجندر، قدر ما يكشف فيها عن الآليات الآيديولوجية العامة المتحكمة في العالمَين القديم والجديد على حد سواء، أو كما تابع المؤلف عبر أبحاثه السابقة خلال أطروحته النظرية «العالم... الحيز الدائري» الذي يشتمل على أعراف وتقاليد وحقائق متواصلة منذ عصور قديمة وحديثة مشتركة ومتداخلة، وتأتي في عداد اليقين؛ لكنها لا تعدو في النهاية أوهاماً متنقلة من حقبة إلى أخرى، وقابلة للنبذ والنقض والتجدد ضمن حَيِّزَيها التاريخي والاجتماعي، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، ومنهما إلى العصرَين الزراعي والصناعي؛ من الكهف إلى البيت، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الوحشية إلى البربرية، ومنهما إلى المجهول وغبار التاريخ.

ويشترك الكتاب، الصادر حديثاً عن دار «الياسمين» بالقاهرة، مع أصداء ما تطرحه الدراسات الحديثة في بناء السلام وحقوق الإنسان والعلوم الإنسانية المتجاورة التي تنشد قطيعة معرفية مع ثقافة العصور الحداثية السابقة، وتنشئ تصوراتها الجديدة في المعرفة.

لم يكن اختيار الباحث فالح مهدي إحدى الظواهر الإنسانية، وهي «المرأة»، ورصد أدوارها في وادي الرافدين ومصر وأفريقيا في العالمَين القديم والجديد، سوى تعبير عن استكمال وتعزيز أطروحته النظرية لما يمكن أن يسمَى «التنافذ الحقوقي والسياسي والقانوني والسكاني بين العصور»، وتتبع المعطيات العامة في تأسس النظم العائلية الأبوية، والأُمّوية أو الذرية، وما ينجم عن فضائها التاريخي من قرارات حاكمة لها طابع تواصلي بين السابق واللاحق من طرائق الأحياز المكانية والزمانية والإنسانية.

إن هذه الآليات تعمل، في ما يدرسه الكتاب، بوصفها موجِّهاً في مسيرة بشرية نحو المجهول، ومبتغى الباحث هو الكشف عن هذا المجهول عبر ما سماه «بين غبار التاريخ وصورة الحاضر المتقدم».

كان الباحث فالح مهدي معنياً بالدرجة الأساسية، عبر تناول مسهب لـ«المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ، بأن يؤكد أن كل ما ابتكره العالم من قيم وأعراف هو من صنع هيمنة واستقطاب الآليات الآيديولوجية، وما يعنيه بشكل مباشر أن نفهم ونفسر طبيعةَ وتَشكُّلَ هذه الآيديولوجيا تاريخياً ودورها التحويلي في جميع الظواهر؛ لأنها تعيد باستمرار بناء الحيز الدائري (مفهوم الباحث كما قلت في المقدمة) ومركزة السلطة وربطها بالأرباب لتتخذ طابعاً عمودياً، ويغدو معها العالم القديم مشتركاً ومتوافقاً مع الجديد.

إن مهدي يحاول أن يستقرئ صور «غبار التاريخ» كما يراها في مرحلتَي الصيد والرعي القديمتين، ويحللها تبعاً لمسارها في العهد الحداثي الزراعي الذي أنتج النظم العائلية، وبدورها أسفرت عن استقرار الدول والإمبراطوريات والعالم الجديد.

يرصد الكتاب عبر تناول مسهب «المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ في ظل استقطاب آيديولوجيات زائفة أثرت عليها بأشكال شتى

ويخلص إلى أن العصر الزراعي هو جوهر الوجود الإنساني، وأن «كل المعطيات العظيمة التي رسمت مسيرة الإنسان، من دين وفلسفة وعلوم وآداب وثقافة، كانت من نتاج هذا العصر»، ولكن هذا الجوهر الوجودي نفسه قد تضافر مع المرحلة السابقة في عملية بناء النظم العائلية، وأدى إليها بواسطة البيئة وعوامل الجغرافيا، بمعنى أن ما اضطلع به الإنسان من سعي نحو ارتقائه في مرحلتَي الصيد والرعي، آتى أكله في مرحلة الزراعة اللاحقة، ومن ثم ما استُنْبِتَ في الحيز الزراعي نضج في الحيز الصناعي بمسار جديد نحو حيز آخر.

ومن الحتم أن تضطلع المعطيات العظيمة التي أشار إليها المؤلف؛ من دين وفلسفة وعلوم وآداب زراعية؛ أي التي أنتجها العالم الزراعي، بدورها الآخر نحو المجهول وتكشف عن غبارها التاريخي في العصرَين الصناعي والإلكتروني.

إن «غبار التاريخ» يبحث عن جلاء «الحيز الدائري» في تقفي البؤس الأنثوي عبر العصور، سواء أكان، في بداية القرن العشرين، عن طريق سلوك المرأة العادية المسنّة التي قالت إنه «لا أحد يندم على إعطاء وتزويج المرأة بكلب»، أم كان لدى الباحثة المتعلمة التي تصدر كتاباً باللغة الإنجليزية وتؤكد فيه على نحو علمي، كما تعتقد، أن ختان الإناث «تأكيد على هويتهن».

وفي السياق نفسه، تتراسل دلالياً العلوم والفلسفات والكهنوت والقوانين في قاسم عضوي مشترك واحد للنظر في الظواهر الإنسانية؛ لأنها من آليات إنتاج العصر الزراعي؛ إذ تغدو الفرويدية جزءاً من المركزية الأبوية، والديكارتية غير منفصلة عن إقصاء الجسد عن الفكر، كما في الكهنوت والأرسطية في مدار التسلط والطغيان... وهي الغبار والرماد اللذان ينجليان بوصفهما صوراً مشتركة بين نظام العبودية والاسترقاق القديم، وتجدده على نحو «تَسْلِيع الإنسان» في العالم الرأسمالي الحديث.

إن مسار البؤس التاريخي للمرأة هو نتيجة مترتبة، وفقاً لهذا التواصل، على ما دقّ من الرماد التاريخي بين الثقافة والطبيعة، والمكتسب والمتوارث... حتى كان ما تؤكده الفلسفة في سياق التواصل مع العصر الزراعي، وتنفيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في كشف صورة الغبار في غمار نهاية العصر الصناعي.