وهْم الحقيقة أم حقيقة الوهم؟

درجت العادة على أن تأخذ المجموعات عناوينها من اسم شخص ما أو مكان ما أو من عنوان قصة من قصصها... لكن في «طاقية الوهْم» تكتسب المجموعة تسميتها من ربط جميع خيوط عنوانها بقصصها، خفية كانت أم واضحة، بسيطة أم مركبة... إنها عنوان تجربة كتابية تشي عنها تنوعاتها السردية ومستوياتها اللغوية المتداخلة مع تداعيات الشخصيات ومشهدية الأمكنة بدلالاتها المتباينة، وتداخل الزمان الوقائعي مع التخييلي... هل غرائبية ما يحدث في واقعنا صارت خارج قدرتنا على تلمس حقيقتنا... أم وهمنا صار أكبر من تفكيرنا فصرنا خارج حيزنا الإهليلجي؟
أسئلة يحاكيها عبد جعفر في بناء قصصي يحاول أن يكون خاصاً به، غير آبهٍ بتكسير أي تجارب سائدة أم آفلة... «همّه الموضوعي» إن صح التعبير، دفاتر أوجاع الغربة والاغتراب ونسغ ذاكرة المكان بين الماضي والحاضر والوهْم والحقيقة.
ذاكرة المكان
يبدأ الكاتب مجموعته بقصة «الغريق» التي لا يأبه فيها بأي شكل من أشكال البناء القصصي، فتبدو أنها مجرد هذيانات من وعن الغربة والاغتراب وأقرب إلى النص منها إلى القصة... يطغى التنوع في السرد، واستخدام الضمائر «أنا، أنت، هو...»، بتقنية عالية، ويختلط الزمن الوقائعي بالتخييلي مع حضور متداخل لذاكرة الأمكنة... لكنّ القارئ يلتقط من بين السطور حكاية متكاملة، حكاية مغترب يحاول العودة لذاكرة المكان لوطنه وبين التداعيات والذكريات وجغرافيا الأمكنة -جغرافيا الروح- يعود الكاتب إلى طفولة «شوقي» وصباه وفقره وتشرده وتفكك أسرته وسجنه ودور جاره في خروجه منه... وأسئلة عن الحنين والافتقاد والذكريات وتراكمات المعاناة بتمظهراتها المتجددة... أسئلة شوقي أسئلتنا كلنا، وربما خصوصية بعض المجازات تغلق قليلاً باب التأويل «خلاسي لقيط» مع أن السياسة لا تغيب بغياب دواعي الاعتقال أو السجن أو الإدانة... ويموج القارئ مع شط العرب ويمتد أول خيط من خيوط «طاقية الوهم» ما بين الغريق كعنوان للقصة وبين خاتمتها التي تكون فيها الحقيبة هي الغريق، وشوقي تخذله شجاعته...
لعبة الوهْم والواقع، والكتابة وحقيقتها، تمنح لعبد جعفر مساحته الرحبة لتناول ظاهرة ما بعيداً عن ضجيج وقعها الإعلامي أو الإعلاني، وبعيداً عن التقريرية والمباشرة يلامس تفكير الناس ودواخلهم بحيادية دمثة... ففي «قهقهات وكركرات» سؤال لماذا ومتى وكيف تتجلى، تتشكل تتكاثر، الظاهرة؟ تجيب عنه إيقاعات انتظار... نبض لحظات زمنية عابرة تشد القارئ، ومشهدية وحلم وواقع تموج به في تركيب بنائي ظريف، وخاتمة تقود العنوان وعنوان يعود للخاتمة... إنها ظاهرة «التسوّل» المنتشرة في كل العالم وتواكب كل الحضارات وتحاكي كل المدنية بأساليبها المختلفة من شخوص يدفعهم الفقر إلى مافيات تمتهن هذه اللعبة... وفي القصة كيف تكون الظاهرة مفتاحاً لقراءة دواخل شخصية ما وخوفه أو شفقته أو حلمه أو حقيقته... هنا تكمن «قصدية عبد جعفر العفوية» كما السهل الممتنع.
وإن كانت ظاهرة التسول تقود القارئ إلى التعرف على شخصية بطل قصة «قهقهات وكركرات» فإن قصص عدة في المجموعة تتناول ظواهر كالدعارة وسلطة بعض رجال والمنفى وتداعيات الغربة والاغتراب والغياب... وهواجس كبر السن التي تظهر على شخوص أغلب قصص المجموعة، وتعامل الكاتب معها بفانتازيا تارة وواقعية سحرية تارة أخرى، واشياً بوقعها على الشخصيات وسلوكها وصفاتها وأحلامها ويومياتها في المجتمع، وعلاقتها مع دواخلها ومع الآخرين...
وفي تبادل ذكي بين القارئ والكاتب لتداخل الحلم والواقع والوهْم والحقيقة والخيال والتخيّل والتصور وأحلام اليقظة... يبني الكاتب تراكيبه وبيوته العنكبوتية ووهمه وهمّه في تناوله لتلك الظواهر، وربما هذا ما يمنح صاحب «طاقية الوهم» مصداقيته وعفويته... ولكن لا يعني هذا أن عبد جعفر يستطيع أن يأخذ القارئ دائماً إلى حيث يشاء ومتى يشاء... كما هو الحال في قصة البحث عن كنعان التي لا تسعفها حتى خاتمتها في أن ترتدي طاقية وهمها.
حين تطفو على سطح التهكم فقاعات «كوميدية» خفة ظل ورشاقة لغة وسعة في الخيال... تصل الفكرة الوخزة للقارئ بسلاسة ومتعة، وتمنحه حيزاً إضافياً من التأويل والاستشراف... ولكنّ هذا لا يعني القرابة مع المسلّمات، فعند عبد جعفر للتهكم أبعاد مغايرة قد تطال التابو والأعراف وقدسية السائد من البدهيات...
في قصة «مشاكسة في مدينة ماكرة» يتخيّل الكاتب- القارئ شخصية من «القطب الشمالي» ترتدي الملابس الشتوية الثقيلة تتهكم على طقوس الصيف الحار في مدينة لندن، ويتجلى ذلك بوضوح في سلوكيات (الحامد) وحواراته المباشرة والواقعية عن شعوره بالبرد مع نماذج يختارها الكاتب بعناية وتتحرك في أمكنة محددة ضمن مشهدية تمنح للسرد تشويقاً إضافياً... شابة جميلة في الحافلة ترتدي البكيني، شرطي مرور يقف في الشمس الحارقة، قسيس في الكنيسة، متسول على الرصيف... وهذه الشخصيات ترد على تهكم الحامد منطلقة من مرجعياتها الخاصة، فتغدو الحوارات بمستويات لغوية متباينة ضمن قصة جميلة مشوقة متماسكة بجميع أركانها.... وفكرة غريبة وماكرة لانتقاد مدينة ما أو التهكم على وجودها أو وجوده بها... لكن الكاتب قشّر خاتمة قصته بعجالة...
ولا يتوقف التهكم على المدن كمنفى بل على المنفيين فيها أيضاً وتسمياتهم الجديدة تبعاً لبلاد اغترابهم «الهولندي، الفرنسي، البريطاني». ودفاتر أوجاعهم وهمومهم المعيشية... وثرثراتهم اللاذعة ونكتهم الرذيلة عن الماضي والحاضر... إنها «نواقير طبول» في جوقة لمعشر متعددي جنسيات من المغتربين في المنافي.
وقد يصل التهكم عند عبد جعفر على القتل والموت والدين السلفي... وذلك بتبادل مثير ولافت بين الفانتازيا والحقيقة كما في قصة «صورة داعش».
الخيال والتخييل
لا يتوقف الخيال والتخييل -الحائكان الرئيسيان لـ«طاقية الوهْم»- عند صناعة الشخصيات كما في مسرحية الرجل، أو خلقها كما في قصة «القطار الهابط»... بل يشتغلان على بناء الأمكنة أيضاً كما في «رحلة البحث عن كنعان»، و«متاهة متحف فن العيش»: أزقة كأنابيب المجاري تقودنا إلى أزقة أضيق منها تصعب الحركة فيها من دون أن تحتك بالحيطان المتآكلة... ومكان فاتح فمه كحوت نافق بجدرانه وبنايته الكئيبة...
وفي نهاية القصتين يتربع سؤال الوهْم حول حقيقة وجود المكان ووجود كنعان أصلاً...
أنسنة الأشياء
وفي تحقيقه لمعادلة «وهْم الحقيقية أم حقيقة الوهم؟» يجيد عبد جعفر أنسنة الأشياء ويظهر ذلك جلياً في قصصه القصيرة جداً وفي قصة «القطار الهابط»، القصة الممتعة من حيث البناء والحوار وتكثيف الزمن والخلط المرح بين الحلم واليقظة والتداعيات... «الأحلام التي تواكب أحداث القصة الواقعية وتنسجم معها وتكمل بعض جوانبها الفنية والسردية» والشغل على الشخصيات وبخاصة شخصية القطار الذي يصفر ويمد لسانه ويتدخل في سير الأحداث.
في قصة «صورة داعش»، لجأ عبد جعفر إلى الفانتازيا محاولاً أن يصور الأهوال «الرّهابية» التي تعرضت لها شرائح كبيرة من المجتمعات، العربية وغير العربية، وذلك من خلال ما حلّ ببطل قصته «أبو الصفو» الذي سأله الشبح الداعشي المجلل بالسواد عن نقوده وتوبته قبل أن يقطع رأسه... لكن جسد أبو الصفو حمل رأسه المقطوع وتمدد باسترخاء في دائرة مسوّرة بالحصى، واضعاً إياه تجاه جبل سنجار، موقناً بأن الأشباح السوداء لن تدخلها، وسيوفهم لن تقطع روحه...
وكما ترتدي قصصه طاقية وهمها... تعيش قصصه القصيرة جداً الأجواء ذاتها لكنها أجواء مكثفة... إنها القصة الوخزة... لغة رشيقة جزلة موحية... أبواب مواربة تنفتح على أسئلة مربكة تثير أسئلة جديدة... إنه المعنى الجدلي للإرباك... وإن لم يغب الرمز في التجربة ككل يطفو على السطح في هذه القصص، وبخاصة في خواتمها.