1251 حالة انتهاك للحريات الصحافية منذ بدء الأزمة السورية

مركز يعمل على توثيقها بغض النظر عن الجهة المرتكبة

TT

1251 حالة انتهاك للحريات الصحافية منذ بدء الأزمة السورية

قتل وخطف واعتقال وتغييب، انتهاكات طالت مئات الصحافيين والإعلاميين السوريين بعد ربيع 2011. منهم من قتل بنيران الحرب المستعرة، وآخرون لقوا حتفهم تحت التعذيب في أقبية المعتقلات، بينما لا يزال عشرات المختفين والمختطفين قسراً قابعين في غياهب السجون ينتظرون الحرية، حين كانت أسلحتهم عدسات كاميراتهم وهواتفهم المحمولة وأقلامهم الجريئة التي رصدت ووثقت مشاهد القصف والتدمير والتهجير على مدار ثمان سنواتٍ عجاف، فأولئك الإعلاميون والصحافيون والناشطون نجحوا في نقل الصورة من أرض الحدث إلى الرأي العام العالمي وأصبحوا سفراء الحقيقة.
ونظراً لتبعية اتحاد الصحافيين في سوريا للسلطة الحاكمة، شهد شهر فبراير (شباط) 2012 ولادة رابطة الصحافيين السوريين، أسسها صحافيون وصحافيات من سوريا لتكون بمثابة نقابة مهنية مستقلة تضم عدداً من المشتغلين بالصحافة المكتوبة والإذاعية والمرئية وباقي قطاعات الإعلام، ولعل أكثر مفاصل الرابطة فعالية هو «المركز السوري للحريات الصحافية»، الذي تأسس في شهر يونيو (حزيران) 2014. ليخلف لجنة الحريات في الرابطة.
- مؤشرات الانتهاكات الإعلامية
يترأس المركز القاضي والإعلامي إبراهيم حسين المتحدر من بلدة عامودا الكردية الواقعة أقصى شمال سوريا ومن مواليد 1969. والذي دخل قطاع الإعلام بعد التحاقه بجامعة دمشق لدراسة الحقوق في دمشق عام 1987. حيث تم اعتماده مراسلاً لصحيفة الاتحاد التي كان يرأس تحريرها المذيع والإعلامي السوري الراحل عدنان بوظو آنذاك، ثم كان عضواً في الكادر التحريري المؤسس لصحيفة الرياضية التي صدرت في دمشق إبان السماح بإصدار دوريات مطبوعة خاصة من قبل السلطات السورية في البلاد بعد سنة 2000. الأمر الذي أكسبه الخبرة في مجال الإعلام والكتابة الصحافية، وملامسة متاعب وهموم زملائه الصحافيين.
وبعد خروجه من سوريا عام 2013 معلناً انشقاقه عن السلطة القضائية احتجاجاً على الطريقة التي تعاملت بها السلطات مع الانتفاضة الشعبية ومطالبها، تقدم بطلب إلى رابطة الصحافيين ليصبح عضواً فيها، وبعد إعلان تأسيس مركز الحريات في الرابطة بعدة أشهر عمل باحثاً فيه ثم تولى إدارة المركز منذ يونيو 2016 وحتى اليوم، وعن بدايات عمله ولدى حديثه إلى صحيفة «الشرق الأوسط»، يقول القاضي إبراهيم حسين: «بعد تأسيس الرابطة كانت هناك لجنة للحريات أوكلت إليها مهمة التوثيق والرصد، بعدها ونظراً لحجم العمل الكبير تأسس المركز ومنذ ذاك الحين نعمل بشكل مستقل على التوثيق والرصد بشكل مهني وحرفي».
ويرصد مركز حريات مؤشرات الانتهاكات الإعلامية في بلد تعددت فيه الأطراف المتحاربة، ويوثق باحثوه الانتهاكات التي تطال الإعلاميين أفراداً ومؤسسات، بالإضافة إلى تسجيل الخروقات التي يتعرض لها الإعلاميون السوريون خارج بلادهم، ويصدر بيانات وتقارير شهرية دورية، وينشر دراسات وتقارير سنوية.
ويضيف القاضي إبراهيم: «تعاون خبراء من منظمتي (مراسلون بلا حدود) و(فري بريس)، وتراكم خبرات أعضاء الرابطة الذين عملوا بلجنة الحريات سابقاً، كلها أمور ساهمت بإنجاح تأسيس المركز، ووضع معايير وآليات مهنية تحكم عمله»، مما أكسبه المصداقية لدى العديد من المؤسسات الإعلامية والمنظمات المهتمة بالشأنين الإعلامي والحقوقي.
ومنذ مارس (آذار) 2011 تشهد سوريا حرباً متعددة الأطراف، أبرزها النظام الحاكم والذي بات يسيطر مجدداً على معظم الأراضي التي كان قد خسرها، بدعم من إيران وروسيا، وفصائل سورية مسلحة ووحدات كردية وتشكيلات إسلامية متطرفة، وتصاعدت حدّة العنف بعد 2014 مع ظهور تنظيم «داعش» الإرهابي وسيطرته على مساحات واسعة في ذروة قوته بين أعوام 2015 و2017 قبل أن يطرد بشهر مارس الماضي، لكن منظمات حقوقية محلية ودولية أكدت أن الحرب أوقعت نحو 370 ألف قتيل، وهُجر نصف السوريين داخل بلدهم وخارجها.

- نقابة صحافية مستقلة
«فعندما اجتمعت إرادة عشرات الصحافيات والصحافيين خارج جسم النظام، بهدف إنشاء منظمة تدافع عنهم وتحتويهم كانت رابطة الصحافيين»، والكلام للصحافي علي عيد رئيس رابطة الصحافيين، والتي وسعت عملها وأنشطتها لتشمل قطاع التدريب المهني وبناء القدرات والتشبيك مع مختلف الجهات للدفاع عن الحريات الإعلامية في سوريا، وأوضح عيد: «تعمل الرابطة لضمان استقلالية مهنة الصحافة، والدفاع عن الحريات العامة، وصون حرية الرأي والتعبير على وجه الخصوص».
وتمكنت الرابطة التي ينتسب لها نحو 500 من الإعلاميين السوريين من مختلف المكونات، في نهاية 2017 من نيل عضوية الاتحاد الدولي للصحافيين، وعن علاقة مركز الحريات بالرابطة يقول عيد: «المركز يشكل الذراع الحقوقي والقانوني للرابطة، ومع أنه يتبع لها إدارياً، فإنه يقوم برصد وتوثيق الانتهاكات بشكل مهني يتوافق مع المعايير الدولية وبكل استقلالية».
ويقوم فريق مركز حريات بإعداد قاعدة بيانات للانتهاكات بعد رصد حالات الاعتقال والاختفاء والاختطاف والقتل والضرب، يضاف إليها مصادرة المعدات الصحافية ومنع ممارسة المهنة والمضايقات التي يتعرض لها العاملون في مجال الإعلام في بلد باتت منقسمة إلى جزر جغرافية منفصلة بحسب تموضع كل جهة وسيطرتها العسكرية.
وعن كيفية آليات التوثيق ورصد الانتهاكات أشار القاضي حسين: «نوثق حالات الانتهاك بغض النظر عن الجهة المرتكبة للانتهاك أو الجهة التي تتعرض له، لدينا معايير وقواعد مهنية محددة لا نحيد عنها»، منوهاً بوجود صحافيين في معظم مناطق سيطرة النظام يزودون المركز بالمعلومات الأولية في حال تعرض صحافي أو إعلامي لأي انتهاك.
ومن بين أبرز التحديات والعقبات التي تواجه عمل المركز وفريق باحثيه، «عدم احترام الجهات العسكرية المسيطرة في سوريا لحرية نقل المعلومة والأخبار، مما قد يعيق إمكانية التحقق من الانتهاكات الواقعة في مناطق نفوذها»، بحسب إبراهيم حسين.
وتمكن مركز الحريات من توثيق قرابة (1251) حالة انتهاك منذ شهر مارس (آذار) 2011. لغاية نهاية أغسطس (آب) الماضي، وتصدر النظام السوري والقوات الحكومية قائمة الجهات المعتدية بمسؤوليتها عن أكثر من نصف الانتهاكات، وبحسب قاعدة بيانات مركز الحريات لقي (452) صحافياً وإعلامياً سورياً حتفهم خلال نفس الفترة، كما وثق المركز (250) حالة اعتقال واحتجاز وخطف تعسفي على يد مختلف الأطراف، وتم تسجيل (100) حالة انتهاك ضد جهات مجهولة، وهناك (36) إعلامياً لا يزالون قيد الاحتجاز أو الإخفاء القسري ومصيرهم لا يزال مجهولاً.
وفي ذروة اتساع سيطرته الجغرافية والعسكرية، واحتلال مسلحي تنظيم «داعش» الإرهابي مساحات واسعة من سوريا بين أعوام 2015 و2017، كانت المعلومات شبه معدومة ومغلقة، ونقل القاضي حسين، «لا أحد كان يجرؤ على نقل معلومة أو حدث، وكانت تلك المناطق أشبه بصندوق أسود محكم الإغلاق، وما كنا نوثقه غالباً كان يصلنا من أشخاص ناجين فروا من مناطق التنظيم»، لافتاً بأن أكثر جهة بعد النظام ارتكبت انتهاكات ضد الصحافيين والإعلاميين كان تنظيم «داعش» المتطرف.

- سوريا الأخطر للصحافيين
يشرح المحامي محمد الصطوف، وهو باحث بمركز الحريات، آلية عمل المركز، إذ يرصد باحثوه الانتهاكات ومن ثم يتحققون منها بالتشارك مع المتعاونين بمنطقة الحدث، وقال: «فبعد التأكد من وقوع الانتهاك بالاعتماد على المصادر الموثوقة، والتيقن من أنه يتماشى مع المعايير المتبعة بعملنا، ندرجه في قاعدة البيانات، ومن ثم ننشره في التقرير الشهري الذي يصدره المركز».
يتألف كادر المركز من مدير وباحثين اثنين، وهناك عشرات من المتعاونين من أعضاء رابطة الصحافيين ومن خارج الرابطة متوزعين على مختلف المناطق السورية وخارج البلاد، سيما تلك التي يوجد بها إعلاميون سوريون. حيث ينشر المركز تقريراً دورياً كل شهر وتقريراً نصف سنوي يستعرض بواسطة الإنفوغرافيك الانتهاكات التي حصلت خلال ستة أشهر، وفي الشهر الأول من كل عام يصدر تقرير سنوي يستعرض بالتحليل أبرز الانتهاكات.
وتقول الإعلامية علا الحريري التي تعمل باحثة في المركز، إن المركز، إضافة لذلك يصدر بيانات في مناسبات محددة، وأضافت: «نقوم كذلك بإعداد ونشر تقارير خاصة تتعلق بحدث معين أو موضوع ما يتعلق بالحريات الإعلامية في سوريا، وكل إصدارات المركز أقوم بترجمتها إلى اللغة الإنجليزية»، ويتم إرسال هذه الإصدارات عبر البريد الإلكتروني «إلى مئات من عناوين المؤسسات الإعلامية والجهات الصحافية السورية والعربية والدولية، إضافة إلى الجهات والمنظمات الحقوقية المهتمة بالشأن الإعلامي في مختلف بلدان العالم».
وبحسب التقرير النصف سنوي الأخير الصادر عن المركز، بلغ عدد الانتهاكات الموثقة منذ بداية العام الحالي ولغاية نهاية شهر أغسطس الماضي 56 انتهاكاً، وكانت هيئة تحرير الشام - جبهة النصرة سابقاً - وفصائل «درع الفرات» و«غصن الزيتون» بشمال سوريا الأكثر انتهاكاً.
ويصف القاضي إبراهيم حسين المشهد الإعلامي في سوريا بـ«القاتم»، ويعزو السبب إلى «أن البلاد يحكمها نظام استبدادي حوَّل سوريا إلى سجن كبير تنعدم فيه الحريات»، في وقت أرخت الحرب بظلالها على المشهد وجعلته سوداوياً، ويضيف: «أثبتت كل أطراف النزاع أن عدوها اللدود هو من ينقل الحقيقة، وتستغل هذه الأطراف كل فرصة للتنكيل والاعتداء على الإعلاميين والناشطين ونشر الرعب والخوف في أوساطهم».
ومن الجدير بالذكر أن منظمة «مراسلون بلا حدود» صنفت سوريا على أنها البلد الثاني الأكثر خطورة بالنسبة للعمل الصحافي في تقريرها السنوي الأخير، وفي ختام حديثه شدد القاضي إبراهيم حسين: «برائيي هي الأكثر خطورة نتيجة غياب حرية العمل الإعلامي والمهني، فالديكتاتورية والاستبداد أدت إلى فشل الدولة السورية، وانتفاضة الشعب مردها قمع الحريات العامة والإخلال بمبدأ سيادة القانون».


مقالات ذات صلة

تشكيلة جديدة للهيئات الإعلامية بمصر وسط ترقب لتغييرات

شمال افريقيا مبنى التلفزيون المصري في ماسبيرو (الهيئة الوطنية للإعلام)

تشكيلة جديدة للهيئات الإعلامية بمصر وسط ترقب لتغييرات

استقبلت الأوساط الإعلامية والصحافية المصرية، التشكيلة الجديدة للهيئات المنظمة لعملهم، آملين في أن تحمل معها تغييرات إيجابية.

فتحية الدخاخني (القاهرة)
المشرق العربي المسؤول الإعلامي في «حزب الله» محمد عفيف خلال مؤتمر صحافي بالضاحية الجنوبية لبيروت (أ.ف.ب) play-circle 00:40

محمد عفيف... صوت «حزب الله» وحائك سياسته الإعلامية

باغتيال مسؤول العلاقات الإعلامية في «حزب الله» محمد عفيف تكون إسرائيل انتقلت من اغتيال القادة العسكريين في الحزب إلى المسؤولين والقياديين السياسيين والإعلاميين.

بولا أسطيح (بيروت)
يوميات الشرق «SRMG Labs» أكثر الوكالات تتويجاً في مهرجان «أثر» للإبداع بالرياض (SRMG)

«الأبحاث والإعلام» تتصدّر مهرجان «أثر» للإبداع بـ6 جوائز مرموقة

حصدت «SRMG Labs»، ذراع الابتكار في المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG)، 6 جوائز مرموقة عن جميع الفئات التي رُشّحت لها في مهرجان «أثر» للإبداع.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق تضم المنطقة المتكاملة 7 مباني استوديوهات على مساحة 10.500 متر مربع (تصوير: تركي العقيلي)

الرياض تحتضن أكبر وأحدث استوديوهات الإنتاج في الشرق الأوسط

بحضور نخبة من فناني ومنتجي العالم العربي، افتتحت الاستوديوهات التي بنيت في فترة قياسية قصيرة تقدر بـ120 يوماً، كواحدة من أكبر وأحدث الاستوديوهات للإنتاج.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
العالم سيارة عليها كلمة «صحافة» بالإنجليزية بعد تعرض فندق يقيم فيه صحافيون في حاصبيا بجنوب لبنان لغارة إسرائيلية في 25 أكتوبر (رويترز)

اليونيسكو: مقتل 162 صحافياً خلال تأديتهم عملهم في 2022 و2023

«في العامين 2022 و2023، قُتل صحافي كل أربعة أيام لمجرد تأديته عمله الأساسي في البحث عن الحقيقة».

«الشرق الأوسط» (باريس)

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)
TT

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

نوع من «التجنيد الإجباري» فرضته هذه الحالة على المحطات التلفزيونية وموظفيها ومراسليها، فغالبيتهم يمضون نحو 20 ساعة من يومهم في ممارسة مهامهم. وبعضهم يَصِلون ليلهم بنهارهم في نقل مباشر وموضوعي، وآخرون يضعون دمهم على كفّ يدهم وهم يتنقلون بين مناطق وطرقات تتعرّض للقصف. أما رؤساء التحرير ومقدِّمو البرامج الحوارية اليومية، فهم عندما يحوزون على ساعات راحة قليلة، أو يوم إجازة، فإنهم يشعرون كما السمك خارج المياه. ومن باب مواقعهم ومسؤولياتهم الإعلامية، تراهم يفضلون البقاء في قلب الحرب، وفي مراكز عملهم؛ كي يرووا عطشهم وشهيّتهم للقيام بمهامهم.

المشهدية الإعلامية برمّتها اختلفت هذه عن سابقاتها. فهي محفوفة بالمخاطر ومليئة بالصدمات والمفاجآت من أحداث سياسية وميدانية، وبالتالي، تحقن العاملين تلقائياً بما يشبه بهرمون «الأدرينالين». فكيف تماهت تلك المحطات مع الحدث الأبرز اليوم في الشرق الأوسط؟

الدكتورة سهير هاشم (إنستغرام)

لم نتفاجأ بالحرب

يصف وليد عبود، رئيس تحرير الأخبار في تلفزيون «إم تي في» المحلي، لـ«الشرق الأوسط»، حالة الإعلام اللبناني اليوم بـ«الاستثنائية». ويضيف: «إنها كذلك لأننا في لبنان وليس عندنا محطات إخبارية. وهي، بالتالي، غير مهيأة بالمطلق للانخراط ببث مباشر يستغرق ما بين 18 و20 ساعة في اليوم. بيد أن خبراتنا المتراكمة في المجال الإعلامي أسهمت في تكيّفنا مع الحدث. وما شهدناه في حراك 17 أكتوبر (تشرين الأول) الشعبي، وفي انفجار مرفأ بيروت، يندرج تحت (الاستنفار الإعلامي) ذاته الذي نعيشه اليوم».

هذا «المراس» - كما يسميه عبود - «زوّد الفريق الإخباري بالخبرة، فدخل المواكبة الإعلامية للحرب براحة أكبر، وصار يعرف الأدوات اللازمة لهذا النوع من المراحل». وتابع: «لم نتفاجأ باندلاع الحرب بعد 11 شهراً من المناوشات والقتال في جنوب لبنان، ضمن ما عرف بحرب المساندة. لقد توقعنا توسعها كما غيرنا من محللين سياسيين. ومن كان يتابع إعلام إسرائيل لا بد أن يستشفّ منه هذا الأمر».

جورج صليبي (إنستغرام)

المشهد سوريالي

«يختلف تماماً مشهد الحرب الدائرة في لبنان اليوم عن سابقاته». بهذه الكلمات استهل الإعلامي جورج صليبي، مقدّم البرامج السياسية ونشرات الأخبار في محطة «الجديد» كلامه لـ«الشرق الأوسط». وأردف من ثم: «ما نشهده اليوم يشبه ما يحصل في الأفلام العلمية. كنا عندما نشاهدها في الصالات السينمائية نقول إنها نوع من الخيال، ولا يمكنها أن تتحقق. الحقيقة أن المشهد سوريالي بامتياز حتى إننا لم نستوعب بسرعة ما يحصل على الأرض... انفجارات متتالية وعمليات اغتيال ودمار شامل... أحداث متسارعة تفوق التصور، وجميعها وضعتنا للحظات بحالة صدمة. ومن هناك انطلقنا بمشوار إعلامي مرهق وصعب».

وليد عبود (إنستغرام)

المحطات وضغوط تنظيم المهام

وبالفعل، منذ توسع الحرب الحالية، يتابع اللبنانيون أخبارها أولاً بأول عبر محطات التلفزيون... فيتسمّرون أمام الشاشة الصغيرة، يقلّبون بين القنوات للتزوّد بكل جديد.

وصحيحٌ أن غالبية اللبنانيين يفضّلون محطة على أخرى، لكن هذه القناعة عندهم تتبدّل في ظروف الحرب. وهذا الأمر ولّد تنافساً بين تلك المحطات؛ كي تحقق أكبر نسبة متابعة، فراحت تستضيف محللين سياسيين ورؤساء أحزاب وإعلاميين وغيرهم؛ كي تخرج بأفكار عن آرائهم حول هذه الحرب والنتيجة التي يتوقعونها منها. وفي الوقت نفسه، وضعت المحطات جميع إمكاناتها بمراسلين يتابعون المستجدات على مدار الساعات، فيُطلعون المشاهد على آخر الأخبار؛ من خرق الطيران الحربي المعادي جدار الصوت، إلى الانفجارات وجرائم الاغتيال لحظة بلحظة. وفي المقابل، يُمسك المتفرجون بالـ«ريموت كونترول»، وكأنه سلاحهم الوحيد في هذه المعركة التنافسية، ويتوقفون عند خبر عاجل أو صورة ومقطع فيديو تمرره محطة تلفزيونية قبل غيرها.

كثيرون تساءلوا: كيف استطاعت تلك المحطات تأمين هذا الكمّ من المراسلين على جميع الأراضي اللبنانية بين ليلة وضحاها؟

يقول وليد عبود: «هؤلاء المراسلون لطالما أطلوا عبر الشاشة في الأزمنة العادية. ولكن المشاهد عادة لا يعيرهم الاهتمام الكبير. ولكن في زمن الحرب تبدّلت هذه المعادلة وتكرار إطلالاتهم وضعهم أكثر أمام الضوء».

ولكن، ما المبدأ العام الذي تُلزم به المحطات مراسليها؟ هنا يوضح عبود في سياق حديثه أن «سلامة المراسل والمصور تبقى المبدأ الأساسي في هذه المعادلة. نحن نوصيهم بضرورة تقديم سلامتهم على أي أمر آخر، كما أن جميعهم خضعوا لتدريبات وتوجيهات وتعليمات في هذا الشأن... وينبغي عليهم الالتزام بها».

من ناحيته، يشير صليبي إلى أن المراسلين يبذلون الجهد الأكبر في هذه الحرب. ويوضح: «عملهم مرهق ومتعب ومحفوف بالمخاطر. لذلك نخاف على سلامتهم بشكل كبير».

محمد فرحات (إنستغرام)

«إنها مرحلة التحديات»

وبمناسبة الكلام عن المراسلين، يُعد إدمون ساسين، مراسل قناة «إل بي سي آي»، من الأقدم والأشهر في هذه المحطة. وهو لا يتوانى عن التنقل خلال يوم واحد بين جنوب لبنان وشماله. ويصف مهمّته خلال المرحلة الراهنة بـ«الأكثر خطراً». ويشرح من ثم قائلاً: «لم تعُد هناك خطوط حمراء أو نقاط قتال محددة في هذه الحرب. لذا تحمل مهمتنا التحدّي بشكل عام. وهي محفوفة بخطر كبير، لا سيما أن العدو الإسرائيلي لا يفرّق بين طريق ومبنى ومركز حزب وغيره، ويمكنه بين لحظة وأخرى أن يختار أهدافه ويفاجئ الجميع... وهذا ما وضع الفرق الصحافية في خطر دائم، ونحن علينا بالتالي تأمين المعلومة من قلب الحدث بدقة».

وفق ساسين، فإن أصعب المعلومات هي تلك المتعلقة بالتوغّل البرّي للجيش الإسرائيلي، «فحينها لا يمكن للمراسل معرفة ما يجري بشكل سليم وصحيح على الأرض... ولذا نتّكل أحياناً على مصادر لبنانية من جهة (حزب الله)، و(اليونيفيل) (القوات الدولية العاملة بجنوب لبنان) والجيش اللبناني والدفاع المدني، أو أشخاص عاشوا اللحظة. ومع هذا، يبقى نقل الخبر الدقيق مهمة صعبة جداً. ويشمل ما أقوله أخبار الكمائن والأسر، بينما نحن في المقابل نفتقر إلى القدرة على معرفة هذه الأخبار، ولذا نتوخى الحذر بنقلها».

«لبنان يستأهل التضحية»

في هذه الأثناء، يتكلم مراسل تلفزيون «الجديد» محمد فرحات «بصلابة»، عندما يُسأل عن مهمّته الخطرة اليوم.

محمد كان من بين الفريق الإعلامي الذي تعرّض لقصف مباشر في مركز إقامته في بلدة حاصبيا، وخسر يومذاك زملاء له ولامس الموت عن قرب لولا العناية الإلهية، كما يقول. ويتابع: «لقد أُصبت بحالة إنكار للمخاطر التي أتعرّض لها. في تلك اللحظة عشت كابوساً لم أستوعبه في البداية. وعندما فتحت عيني سألت نفسي لبرهة: أين أنا؟»، ويضيف فرحات: «تجربتي الإعلامية ككل في هذه الحرب كانت مفيدة جداً لي على الصعيدين: الشخصي والمهني. من الصعب أن أُشفى من جروح هذه الحرب، ولكني لم أستسلم أو أفكر يوماً بمغادرة الساحة. فلبنان يستأهل منا التضحية».

العلاج النفسي الجماعي ضرورة

أخيراً، في هذه الحرب لا إجازات ولا أيام عطل وراحة. كل الإعلاميين في مراكز عملهم بحالة استنفار. ولكن ماذا بعد انتهاء الحرب؟ وهل سيحملون منها جراحاً لا تُشفى؟

تردّ الاختصاصية النفسية الدكتورة سهير هاشم بالقول: «الإعلاميون يتعرضون لضغوط جمّة، وفي الطليعة منهم المراسلون. هؤلاء قد لا يستطيعون اليوم كشف تأثيرها السلبي على صحتهم النفسية، ولكن عند انتهاء الحرب قد يكون الأمر فادحاً. وهو ما يستوجب الدعم والمساندة بصورة مستمرة من مالكي المحطات التي يعملون بها». وأضافت الدكتورة هاشم: «ثمة ضرورة لإخضاعهم لجلسات علاج نفسية، والأفضل أن تكون جماعية؛ لأن العلاج الموسمي غير كافٍ في حالات مماثلة، خلالها يستطيعون أن يساندوا ويتفهموا بعضهم البعض بشكل أفضل».