تصعيد «طالبان» يثير مخاوف من إرهاب معوّلم

عنفها لن يقتصر تهديده على أفغانستان

آثار دمار غداة هجوم مميت شنّته «طالبان» ضد مكتب حملة الرئيس أشرف غني في كابل نهاية الشهر الماضي (أ.ف.ب)
آثار دمار غداة هجوم مميت شنّته «طالبان» ضد مكتب حملة الرئيس أشرف غني في كابل نهاية الشهر الماضي (أ.ف.ب)
TT

تصعيد «طالبان» يثير مخاوف من إرهاب معوّلم

آثار دمار غداة هجوم مميت شنّته «طالبان» ضد مكتب حملة الرئيس أشرف غني في كابل نهاية الشهر الماضي (أ.ف.ب)
آثار دمار غداة هجوم مميت شنّته «طالبان» ضد مكتب حملة الرئيس أشرف غني في كابل نهاية الشهر الماضي (أ.ف.ب)

مهما يكن من أمر الجواب، فإننا بالفعل أمام مشهد مثير يحتاج إلى قراءة متأنية، ولا سيما بعد أن اقتربت الولايات المتحدة الأميركية كثيراً جداً من عقد اتفاق مع حركة «طالبان»، بعد مفاوضات طويلة وشاقة، كان ولا يزال هدفها الرئيسي إنهاء ثمانية عشر عاماً من القتال، قبل أن يعلن الرئيس الأميركي وقف تلك المحادثات من جراء تصاعد أعمال العنف التي جرت هناك مؤخراً، وأفرزت قناعة لدى صانع القرار في البيت الأميركي مفادها أن «طالبان» لن تتغير، كما أنها لن تكفّ عن ممارسة العنف والإرهاب وتشجيعهما؛ الأمر الذي ثبت صحته بالفعل من خلال التهديد المباشر الذي واكب إعلان وقف المحادثات الأميركية مع التنظيم المسلح الأشهر الذي قدم العناية والرعاية، ووفر الملجأ والمأوى لتنظيم «القاعدة» طوال أكثر من ثلاثة عقود خلت.
يعنّ لنا أن نتساءل في بداية الأمر ما هو الهدف الذي يدفع الرئيس ترمب إلى توقيع اتفاق مع «طالبان»، اتفاق لا يمكن أن نسميه بحال من الأحوال سلاماً، بل هدنة طويلة الأمد بشروط معينة؛ ذلك أن الأميركيين لن ينسوا ما دام هناك تاريخ أن هؤلاء البشر مسؤولون بشكل أو بآخر عن وفاة قرابة ثلاثة آلاف أميركي دفعة واحدة نهار الحادي عشر من سبتمبر 2001، كما أن «طالبان» سيظلون يتذكرون الثمن الفادح الذي دفعوه طوال ثمانية عشر عاماً من الغزو الأميركي لبلادهم؟
يمكن القطع بأن واشنطن لها أهداف معلنة وأخرى خفية فيما يخص العلاقة مع «طالبان»، أما المعلن فهو أن تلتزم «طالبان» بعدم السماح للمتطرفين والإرهابيين باستخدام الأراضي الأفغانية في التخطيط لشنّ هجمات على الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، كما يتضمن الاتفاق بنوداً متعلقة بإجراء محادثات بين الأفغان للتوصل إلى تسوية سياسية أوسع نطاقاً لإنهاء القتال بين «طالبان» والحكومة المدعومة من الغرب، ويبقى بلا شك الحفاظ على أمن وأمان المصالح الأميركية في النطاق الجغرافي القريب من أفغانستان على رأس بنود الاتفاقية.
غير أن ما هو غير معلن موصول ولا شك بالتواجد اللوجيستي الأميركي في أفغانستان، من أجل الحيلولة دون توسع موسكو مرة أخرى في الداخل الأفغاني، وبالقدر ذاته كذلك قطع الطريق على بكين؛ كي لا تكتسب مربع قوة ونفوذ جديداً في أفغانستان، يدعم من مجال قطبيتها القادمة في الطريق؛ ما يجعل هزيمة أميركا في الجانب الشرقي من العالم أمراً مؤكداً، ويسرّع بمرحلة أفولها الإمبراطوري، التي تتناولها التحليلات والطروحات منذ وقت طويل.

شكوك عريضة حال الانسحاب الأميركي

للرئيس الأميركي دونالد ترمب أيضاً مصلحة كبرى في سحب كثير قواته والتي تبلغ الآن قرابة 14 ألف جندي من أفغانستان، فالرجل الذي يستعد لانتخابات رئاسية ثانية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 يقيم وزناً كبيراً للشارع الأميركي الذي يبقى رافضاً لفكرة استمرار حروب أميركا خارج البلاد، وترمب قد قطع على نفسه وعوداً بأنه لن يرسل جندياً آخر بعيداً عن أميركا، وبقناعة مطلقة أن واشنطن ليس منوطاً بها دور درك العالم أو شرطيه.
غير أن الأمر وحينما يتعلق بـ«طالبان» في واقع الأمر لا يمكن أن يكون على هذا القدر من السهولة، ذلك أن ترمب والذي لم يخفِ رغبته في سحب قوات بلاده من هناك حتى قبل توليه الرئاسة، تساوره شكوك عريضة حول واقع أفغانستان حال الانسحاب الأميركي دفعة واحدة من هناك، والأمر نفسه ينتاب المسؤولين الأفغان ومسؤولي الأمن القومي الأميركي، ولا سيما أن فكرة الانسحاب تكاد تكون مرتبطة بأمرين أساسيين آخرين:
أولاً: أن القوات الأميركية في الداخل الأفغاني تعمل حتى الساعة بمثابة رمانة الميزان، بين الفصائل الأفغانية المتناحرة، وفي المقدمة منها «طالبان» من جانب والحكومة الأفغانية من جانب آخر، وهنا فإن احتمال دخول أفغانستان في حرب أهلية داخلية طاحنة من جديد يبقى احتمالاً قائماً وبقوة، ومعنى عودة «طالبان» إلى الساحة مرة أخرى، وربما عودتها إلى إحكام قبضتها على البلاد، أن أفغانستان ستعيد سيرتها الأولى، وستقدم دعماً غير مسبوق للجماعات المتشددة حول العالم، وهذا ما يقودنا إلى الجزئية الثانية والأكثر هولاً من الأولى.
ثانياً: يكاد الخوف الأميركي والأممي من أن تتحول أفغانستان مرة جديدة محجاً للقوى الإرهابية العالمية كافة، ولعل المتابع لجميع التقارير الأمنية والاستخبارية حول العالم يدرك أن تنظيم «القاعدة» الذي ولد في أحضان «طالبان»، وفي مغائر جبال وشقوق أراضي أفغانستان عائد بقوة، بل ويكاد يكتسب يوماً تلو الآخر مساحات جديدة من النفوذ آسيوياً تحديداً، ولاحقاً حول بقية العالم.
أما الطامة الكبرى، فتتمثل في تحول أراضي أفغانستان إلى ملاذ آمن لتنظيم «داعش»، ولا سيما بعد الاندحار المؤقت في العراق وسوريا، مع ملاحظة أن «داعش» يتحول إلى فكرة إرهابية بأكثر منها تنظيم لوجيستي، ومؤخراً أشار وزير الدفاع الروسي سيرغي شويجو إلى تنامي الوجود الداعشي في أفغانستان، ولم يكن الروس بمفردهم في واقع الحال من تحدثوا عن ضراوة نشوء وارتقاء «الدواعش» من جديد على الأراضي الأفغانية، فقد شاركهم الرأي المدعوم بالمعلومات الاستخبارية الأميركيون هناك، ففي الأول من مايو (أيار) الماضي، نقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن مسؤول أميركي كبير قوله: «إن عناصر (داعش) اختاروا أفغانستان ملجأ لهم»، ومضيفاً أننا «حال لم نبقِ على الضغوط لمكافحة الإرهاب ضد فرغ (داعش) في أفغانستان، فإن هجوماً نوعياً قد يقع على الأرجح على أمتنا خلال هذا العام».
يمكن لأي محلل سياسي أو أمني أن يتوقع أن أفغانستان وحال وقوعها في حاضنة الإرهاب والعنف مرة جديدة، سوف تضحى ولا شك كارثة أممية، ذلك أن العالم يتخوف في الوقت الراهن من مولد تنظيم جديد يمزج بين «القاعدة» و«داعش» معاً، ويسعى إلى ضم عناصر أكثر خطورة من بقية إرجاء العالم، تنظيم يكون قلبه اللوجيستي في وسط أفغانستان من جديد، وتكون أطرافه وأذرعه ممتدة في أطراف الكرة الأرضية كافة، وذلك عبر التواصل التكنولوجي الذي وفّرته وسائط التواصل الاجتماعي؛ ما يجعل من فكرة الذئاب المنفردة رعباً قائماً وقادماً».
لكن، ربما ينبغي علينا أن نعود إلى متابعة فصول المشهد الأميركي - الأفغاني بطريقة «الفلاش باك»، ففي نهار الاثنين التاسع من سبتمبر الحالي، قال الرئيس ترمب إن المحادثات مع حركة «طالبان» الأفغانية انتهت، وأنه لا يزال يفكر في سحب القوات الأميركية، وأضاف للصحافيين لدى مغادرته البيت الأبيض متجهاً إلى نورث كارولينا بعد أن ألغى محادثات سرية كانت مقررة في كامب ديفيد بشأن خطة للسلام في مطلع الأسبوع «بالنسبة لي قد انتهت».
أما السبب فهو اعتراف «طالبان» بالاعتداء الأخير الذي وقع في كابل وأسفر عن مقتل من أسماه ترمب «أحد جنودنا العظماء»، وأحد عشر شخصاً آخر.
السؤال الذي يتردد في عدد كبير من وسائل الإعلام الأميركية: «هل هذا الحادث هو السبب الرئيسي فعلاً في إلغاء السعي الأميركي إلى السلام مع (طالبان)، وهو حدث جرت الأقدار بمثله مراراً، ويمكن تبريره بصورة أو بأخرى، أو الصمت تجاهه، من أجل هدف كبير كإنهاء الصراع الذي أضحى مستنقعاً للأميركيين طوال عقدين، أم أن هناك أسباباً أخرى خفية غير واضحة في الوقت الراهن، هي من دفعت ترمب إلى هذا الموقف المتشدد؟».
المقطوع به هو أنه وإلى حين معرفة الجواب، تبقى «طالبان» هي الرعب القديم والجديد للجانب الأميركي، بنوع خاص، ولأمن وسلام العالم بنوع عام، فقد جاءت ردات الفعل «الطالبانية» بصورة لا تنم عن أنها فصيل أفغاني يسعى للسلام بالمرة في الحال أو الاستقبال.
في أعقاب إعلان ترمب المشار إليه بوقف المباحثات مع «طالبان»، قال المتحدث باسم الجماعة، ذبيح الله مجاهد، لوكالة الصحافة الفرنسية: «كان لدينا طريقان لإنهاء احتلال أفغانستان، الأولى الجهاد والقتال، والأخرى المحادثات والمفاوضات». وأضاف: «إن أراد ترمب وقف المحادثات، سنسلك الطريق الأولى، وسيندمون قريباً».
هل يمكن أن يرتبط فعل الندم الذي تحدث عنه المتحدث باسم «طالبان» بأي شيء آخر سوى عودة الجماعة إلى طريق القتال في الداخل، وتوفير الملاذات الآمنة للجماعات الإرهابية التي تقلق العالم في الخارج؟
التهديد «الطالباني» بعودة العنف على هذا النحو ربما كشف مكنونات صدر «طالبان» بصورة مثيرة لمخاوف العالم برمته؛ الأمر الذي سيدفع ربما الجانب الأميركي إلى إعادة تقييم مسألة مفاوضات السلام مع «طالبان» بصورة جذرية؛ ذلك أن أي انسحاب أميركي سريع ومتعجل من الداخل الأفغاني، ربما ستكون له عواقب كارثية، ويذكّر بما جرى في أفغانستان نفسها عندما انسحبت القوات السوفياتية مرة واحدة، وتركت الدولة نهباً للمتطرفين الإرهابيين، والأمر نفسه خبرته أيضاً الولايات المتحدة الأميركية حين انسحابها من فيتنام.
أحد الأسئلة المثيرة أيضاً، هل ثبت لترمب أن فكرة قيام وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بمتابعة المشهد الأفغاني من الداخل عوضاً عن وجود القوات الأميركية فكرة فاشلة، وعليه يسعى لمزيد من الوقت للتفكير في حلول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن «طالبان» تعد أوراقها لأسوأ الاحتمالات؛ ما يعني أن العالم على موعد مع موجة جديدة من الخوف والإرهاب المتفشي آسيوياً وأممياً من جراء الأصولية «الطالبانية».



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.