تصعيد «طالبان» يثير مخاوف من إرهاب معوّلم

عنفها لن يقتصر تهديده على أفغانستان

آثار دمار غداة هجوم مميت شنّته «طالبان» ضد مكتب حملة الرئيس أشرف غني في كابل نهاية الشهر الماضي (أ.ف.ب)
آثار دمار غداة هجوم مميت شنّته «طالبان» ضد مكتب حملة الرئيس أشرف غني في كابل نهاية الشهر الماضي (أ.ف.ب)
TT

تصعيد «طالبان» يثير مخاوف من إرهاب معوّلم

آثار دمار غداة هجوم مميت شنّته «طالبان» ضد مكتب حملة الرئيس أشرف غني في كابل نهاية الشهر الماضي (أ.ف.ب)
آثار دمار غداة هجوم مميت شنّته «طالبان» ضد مكتب حملة الرئيس أشرف غني في كابل نهاية الشهر الماضي (أ.ف.ب)

مهما يكن من أمر الجواب، فإننا بالفعل أمام مشهد مثير يحتاج إلى قراءة متأنية، ولا سيما بعد أن اقتربت الولايات المتحدة الأميركية كثيراً جداً من عقد اتفاق مع حركة «طالبان»، بعد مفاوضات طويلة وشاقة، كان ولا يزال هدفها الرئيسي إنهاء ثمانية عشر عاماً من القتال، قبل أن يعلن الرئيس الأميركي وقف تلك المحادثات من جراء تصاعد أعمال العنف التي جرت هناك مؤخراً، وأفرزت قناعة لدى صانع القرار في البيت الأميركي مفادها أن «طالبان» لن تتغير، كما أنها لن تكفّ عن ممارسة العنف والإرهاب وتشجيعهما؛ الأمر الذي ثبت صحته بالفعل من خلال التهديد المباشر الذي واكب إعلان وقف المحادثات الأميركية مع التنظيم المسلح الأشهر الذي قدم العناية والرعاية، ووفر الملجأ والمأوى لتنظيم «القاعدة» طوال أكثر من ثلاثة عقود خلت.
يعنّ لنا أن نتساءل في بداية الأمر ما هو الهدف الذي يدفع الرئيس ترمب إلى توقيع اتفاق مع «طالبان»، اتفاق لا يمكن أن نسميه بحال من الأحوال سلاماً، بل هدنة طويلة الأمد بشروط معينة؛ ذلك أن الأميركيين لن ينسوا ما دام هناك تاريخ أن هؤلاء البشر مسؤولون بشكل أو بآخر عن وفاة قرابة ثلاثة آلاف أميركي دفعة واحدة نهار الحادي عشر من سبتمبر 2001، كما أن «طالبان» سيظلون يتذكرون الثمن الفادح الذي دفعوه طوال ثمانية عشر عاماً من الغزو الأميركي لبلادهم؟
يمكن القطع بأن واشنطن لها أهداف معلنة وأخرى خفية فيما يخص العلاقة مع «طالبان»، أما المعلن فهو أن تلتزم «طالبان» بعدم السماح للمتطرفين والإرهابيين باستخدام الأراضي الأفغانية في التخطيط لشنّ هجمات على الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، كما يتضمن الاتفاق بنوداً متعلقة بإجراء محادثات بين الأفغان للتوصل إلى تسوية سياسية أوسع نطاقاً لإنهاء القتال بين «طالبان» والحكومة المدعومة من الغرب، ويبقى بلا شك الحفاظ على أمن وأمان المصالح الأميركية في النطاق الجغرافي القريب من أفغانستان على رأس بنود الاتفاقية.
غير أن ما هو غير معلن موصول ولا شك بالتواجد اللوجيستي الأميركي في أفغانستان، من أجل الحيلولة دون توسع موسكو مرة أخرى في الداخل الأفغاني، وبالقدر ذاته كذلك قطع الطريق على بكين؛ كي لا تكتسب مربع قوة ونفوذ جديداً في أفغانستان، يدعم من مجال قطبيتها القادمة في الطريق؛ ما يجعل هزيمة أميركا في الجانب الشرقي من العالم أمراً مؤكداً، ويسرّع بمرحلة أفولها الإمبراطوري، التي تتناولها التحليلات والطروحات منذ وقت طويل.

شكوك عريضة حال الانسحاب الأميركي

للرئيس الأميركي دونالد ترمب أيضاً مصلحة كبرى في سحب كثير قواته والتي تبلغ الآن قرابة 14 ألف جندي من أفغانستان، فالرجل الذي يستعد لانتخابات رئاسية ثانية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 يقيم وزناً كبيراً للشارع الأميركي الذي يبقى رافضاً لفكرة استمرار حروب أميركا خارج البلاد، وترمب قد قطع على نفسه وعوداً بأنه لن يرسل جندياً آخر بعيداً عن أميركا، وبقناعة مطلقة أن واشنطن ليس منوطاً بها دور درك العالم أو شرطيه.
غير أن الأمر وحينما يتعلق بـ«طالبان» في واقع الأمر لا يمكن أن يكون على هذا القدر من السهولة، ذلك أن ترمب والذي لم يخفِ رغبته في سحب قوات بلاده من هناك حتى قبل توليه الرئاسة، تساوره شكوك عريضة حول واقع أفغانستان حال الانسحاب الأميركي دفعة واحدة من هناك، والأمر نفسه ينتاب المسؤولين الأفغان ومسؤولي الأمن القومي الأميركي، ولا سيما أن فكرة الانسحاب تكاد تكون مرتبطة بأمرين أساسيين آخرين:
أولاً: أن القوات الأميركية في الداخل الأفغاني تعمل حتى الساعة بمثابة رمانة الميزان، بين الفصائل الأفغانية المتناحرة، وفي المقدمة منها «طالبان» من جانب والحكومة الأفغانية من جانب آخر، وهنا فإن احتمال دخول أفغانستان في حرب أهلية داخلية طاحنة من جديد يبقى احتمالاً قائماً وبقوة، ومعنى عودة «طالبان» إلى الساحة مرة أخرى، وربما عودتها إلى إحكام قبضتها على البلاد، أن أفغانستان ستعيد سيرتها الأولى، وستقدم دعماً غير مسبوق للجماعات المتشددة حول العالم، وهذا ما يقودنا إلى الجزئية الثانية والأكثر هولاً من الأولى.
ثانياً: يكاد الخوف الأميركي والأممي من أن تتحول أفغانستان مرة جديدة محجاً للقوى الإرهابية العالمية كافة، ولعل المتابع لجميع التقارير الأمنية والاستخبارية حول العالم يدرك أن تنظيم «القاعدة» الذي ولد في أحضان «طالبان»، وفي مغائر جبال وشقوق أراضي أفغانستان عائد بقوة، بل ويكاد يكتسب يوماً تلو الآخر مساحات جديدة من النفوذ آسيوياً تحديداً، ولاحقاً حول بقية العالم.
أما الطامة الكبرى، فتتمثل في تحول أراضي أفغانستان إلى ملاذ آمن لتنظيم «داعش»، ولا سيما بعد الاندحار المؤقت في العراق وسوريا، مع ملاحظة أن «داعش» يتحول إلى فكرة إرهابية بأكثر منها تنظيم لوجيستي، ومؤخراً أشار وزير الدفاع الروسي سيرغي شويجو إلى تنامي الوجود الداعشي في أفغانستان، ولم يكن الروس بمفردهم في واقع الحال من تحدثوا عن ضراوة نشوء وارتقاء «الدواعش» من جديد على الأراضي الأفغانية، فقد شاركهم الرأي المدعوم بالمعلومات الاستخبارية الأميركيون هناك، ففي الأول من مايو (أيار) الماضي، نقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن مسؤول أميركي كبير قوله: «إن عناصر (داعش) اختاروا أفغانستان ملجأ لهم»، ومضيفاً أننا «حال لم نبقِ على الضغوط لمكافحة الإرهاب ضد فرغ (داعش) في أفغانستان، فإن هجوماً نوعياً قد يقع على الأرجح على أمتنا خلال هذا العام».
يمكن لأي محلل سياسي أو أمني أن يتوقع أن أفغانستان وحال وقوعها في حاضنة الإرهاب والعنف مرة جديدة، سوف تضحى ولا شك كارثة أممية، ذلك أن العالم يتخوف في الوقت الراهن من مولد تنظيم جديد يمزج بين «القاعدة» و«داعش» معاً، ويسعى إلى ضم عناصر أكثر خطورة من بقية إرجاء العالم، تنظيم يكون قلبه اللوجيستي في وسط أفغانستان من جديد، وتكون أطرافه وأذرعه ممتدة في أطراف الكرة الأرضية كافة، وذلك عبر التواصل التكنولوجي الذي وفّرته وسائط التواصل الاجتماعي؛ ما يجعل من فكرة الذئاب المنفردة رعباً قائماً وقادماً».
لكن، ربما ينبغي علينا أن نعود إلى متابعة فصول المشهد الأميركي - الأفغاني بطريقة «الفلاش باك»، ففي نهار الاثنين التاسع من سبتمبر الحالي، قال الرئيس ترمب إن المحادثات مع حركة «طالبان» الأفغانية انتهت، وأنه لا يزال يفكر في سحب القوات الأميركية، وأضاف للصحافيين لدى مغادرته البيت الأبيض متجهاً إلى نورث كارولينا بعد أن ألغى محادثات سرية كانت مقررة في كامب ديفيد بشأن خطة للسلام في مطلع الأسبوع «بالنسبة لي قد انتهت».
أما السبب فهو اعتراف «طالبان» بالاعتداء الأخير الذي وقع في كابل وأسفر عن مقتل من أسماه ترمب «أحد جنودنا العظماء»، وأحد عشر شخصاً آخر.
السؤال الذي يتردد في عدد كبير من وسائل الإعلام الأميركية: «هل هذا الحادث هو السبب الرئيسي فعلاً في إلغاء السعي الأميركي إلى السلام مع (طالبان)، وهو حدث جرت الأقدار بمثله مراراً، ويمكن تبريره بصورة أو بأخرى، أو الصمت تجاهه، من أجل هدف كبير كإنهاء الصراع الذي أضحى مستنقعاً للأميركيين طوال عقدين، أم أن هناك أسباباً أخرى خفية غير واضحة في الوقت الراهن، هي من دفعت ترمب إلى هذا الموقف المتشدد؟».
المقطوع به هو أنه وإلى حين معرفة الجواب، تبقى «طالبان» هي الرعب القديم والجديد للجانب الأميركي، بنوع خاص، ولأمن وسلام العالم بنوع عام، فقد جاءت ردات الفعل «الطالبانية» بصورة لا تنم عن أنها فصيل أفغاني يسعى للسلام بالمرة في الحال أو الاستقبال.
في أعقاب إعلان ترمب المشار إليه بوقف المباحثات مع «طالبان»، قال المتحدث باسم الجماعة، ذبيح الله مجاهد، لوكالة الصحافة الفرنسية: «كان لدينا طريقان لإنهاء احتلال أفغانستان، الأولى الجهاد والقتال، والأخرى المحادثات والمفاوضات». وأضاف: «إن أراد ترمب وقف المحادثات، سنسلك الطريق الأولى، وسيندمون قريباً».
هل يمكن أن يرتبط فعل الندم الذي تحدث عنه المتحدث باسم «طالبان» بأي شيء آخر سوى عودة الجماعة إلى طريق القتال في الداخل، وتوفير الملاذات الآمنة للجماعات الإرهابية التي تقلق العالم في الخارج؟
التهديد «الطالباني» بعودة العنف على هذا النحو ربما كشف مكنونات صدر «طالبان» بصورة مثيرة لمخاوف العالم برمته؛ الأمر الذي سيدفع ربما الجانب الأميركي إلى إعادة تقييم مسألة مفاوضات السلام مع «طالبان» بصورة جذرية؛ ذلك أن أي انسحاب أميركي سريع ومتعجل من الداخل الأفغاني، ربما ستكون له عواقب كارثية، ويذكّر بما جرى في أفغانستان نفسها عندما انسحبت القوات السوفياتية مرة واحدة، وتركت الدولة نهباً للمتطرفين الإرهابيين، والأمر نفسه خبرته أيضاً الولايات المتحدة الأميركية حين انسحابها من فيتنام.
أحد الأسئلة المثيرة أيضاً، هل ثبت لترمب أن فكرة قيام وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بمتابعة المشهد الأفغاني من الداخل عوضاً عن وجود القوات الأميركية فكرة فاشلة، وعليه يسعى لمزيد من الوقت للتفكير في حلول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن «طالبان» تعد أوراقها لأسوأ الاحتمالات؛ ما يعني أن العالم على موعد مع موجة جديدة من الخوف والإرهاب المتفشي آسيوياً وأممياً من جراء الأصولية «الطالبانية».



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟