ليبيا: جمود في ميدان الحرب... وترحيب «مشروط» بالحوار

معضلة الداخل تنتظر «محطة برلين»

ليبيا: جمود في ميدان الحرب... وترحيب «مشروط» بالحوار
TT

ليبيا: جمود في ميدان الحرب... وترحيب «مشروط» بالحوار

ليبيا: جمود في ميدان الحرب... وترحيب «مشروط» بالحوار

بعد قرابة ستة أشهر من اندلاع معركة طرابلس بين «الجيش الوطني» الليبي، وقوات حكومة «الوفاق» بات الحسم أبعد، في ظل جمود ميداني عززه توازن القوى، وعُطل في المسار السياسي بسبب تلكؤ مبادرات الحل وتمسك طرفي النزاع بالحوار «المشروط». وبموازاة ذلك، تتفاقم التكاليف الأمنية والإنسانية والاقتصادية في البلد الذي أنهكته الانقسامات والاشتباكات منذ إسقاط العقيد القذافي. تراوح مكانها اليوم في ليبيا المعركة التي اندلعت في الرابع من أبريل (نيسان) الماضي، وسقط فيها أكثر من 1200 قتيل، وآلاف الجرحى والمشردين، من دون تقدم جوهري على الأرض يحسم المعركة؛ لكن يظل الكرّ والفرّ بين المتحاربين على محاور الاقتتال هو السائد، وسط تحقيق مكاسب محدودة لا تعدو كونها تبادلاً للمناطق «المحرّرة».

ما بين الجمود الذي يكتنف العملية العسكرية على العاصمة الليبية طرابلس، والتوقف في التعاطي مع الأزمة سياسياً، ما زال الدكتور غسان سلامة، المبعوث الأممي لدى ليبيا يحشد لمؤتمر دولي حول الأزمة الليبية، تعتزم ألمانيا استضافته هذا العام.
ما هو مأمول أن ينجح المؤتمر في جمع الطرفين المتحاربين على طاولة التفاوض، بعدما بات جلياً أنه ليس بمقدور أي منهما فعل أكثر مما فُعل إلى الآن، وفقاً لمتحدثين إلى «الشرق الأوسط»؛ لأسباب عدة، منها توازن القوى القائم على تهريب صفقات السلاح إلى البلاد.
ويذكر أنه في أول جهد دبلوماسي كبير منذ بدأت «عملية طرابلس»، سعت القوى الكبرى نهاية الأسبوع الماضي، في الأمم المتحدة لوأد خلافاتها بشأن ليبيا بعد ستة أشهر من الحرب. إذ التقى ممثلو تلك الدول بما فيها إيطاليا وألمانيا والدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، بريطانيا، والولايات المتحدة، وفرنسا، وروسيا، والصين؛ بهدف كسر الجمود وتمكين خطة سلام للأمم المتحدة من المضي قدماً.

حرب بالوكالة

لقد تحول الصراع الليبي تدريجياً إلى حرب بالوكالة بين قوى أجنبية تدعم جماعات مسلحة مختلفة منذ «انتفاضة» عام 2011 ضد القذافي. وتتزايد أعداد القتلى والجرحى الذين تستقبلهم المستشفيات الميدانية والمشافي في شرق ليبيا وغربها، كلما ازدادت محاور القتال سخونة، على خلفية الاستعانة بطائرات «الدرون» المسيّرة التي ينظر إليها على أنها فاقمت أزمات المواطنين بسبب القصف العشوائي على الأحياء السكنية.
وتزامناً من اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، فرض الشريكان الرئيسيان في العملية السياسية، شروطهما للحوار مجدّداً؛ إذ رأى فائز السراج رئيس المجلس الرئاسي لحكومة «الوفاق»، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن المشير خليفة حفتر، القائد العام لـ«الجيش الوطني» المناوئ للمجلس «ليس شريكاً في أي عملية سياسية مقبلة، وأنهم لن يجلسوا معه ثانية».
وتابع السراج، أن «مسألة الحوار والعودة للمسار السياسي يجب أن تكون وفق آليات جديدة، وأن تأخذ في الاعتبار المعطيات التي أفرزها الاعتداء بعد 4 أبريل»، وهو التاريخ الذي أطلق فيه حفتر العملية العسكرية لـ«تحرير» طرابلس. وبدا أن السراج في كلمته معبراً عن تيار مساند له في غرب البلاد، قوامه الإسلام السياسي بجميع أصنافه، والميليشيات المؤدلجة المشاركة ضمن قواته. ورأى عبد الرحمن الشاطر، عضو المجلس الأعلى للدولة لـ«الشرق الأوسط»، أنه «قد تعود المفاوضات السياسية؛ لكن الموقف الموحّد في المنطقة الغربية يرفض الجلوس مع حفتر أو من يمثله».
في المقابل، حفتر، الذي استبق اجتماع وزراء خارجية الدول المعنية بليبيا في نيويورك، تحدث للمرة الأولى منذ بدء «عملية طرابلس»، عن «انفتاحه على الحوار» والعملية السياسية في البلاد، متحدثاً عن صعوبة توفير المناخ اللازم. وقال إن «العملية الديمقراطية التي ينشدها الشعب الليبي كانت، وما زالت، تصطدم بمعارضة المجموعات الإرهابية والميليشيات الإجرامية المسلحة التي تسيطر على القرار الأمني والاقتصادي في العاصمة طرابلس».

إمكانات الحوار

وذهب حفتر في بيان، إلى أنه «في نهاية المطاف لا بد من الحوار والجلوس، ولا بد من العملية السياسية أن تكون لها مكانتها، ولا بد من الحوار الوطني الشامل الذي يحافظ على الوحدة الوطنية للتراب الليبي». وتطرّق إلى فرص إجراء انتخابات فقال: إن «إجراء الانتخابات أمر مستحيل قبل القضاء على تلك المجموعات وتفكيكها وجمع السلاح». وأنهى بيانه بالتأكيد على «الحوار الضامن لوحدة البلاد وتوحيد مؤسساتها»، لكن «لا مجال أمامه طالما بقيت المجموعات الإرهابية والميليشيات تسيطر على مقاليد ومناحي الحياة في طرابلس». وللعلم، حصل آخر لقاء جمع حفتر بالسراج في أبوظبي بنهاية فبراير (شباط) الماضي، وكان بهدف التوصل إلى اتفاق لإنهاء المرحلة الانتقالية في ليبيا عبر انتخابات عامة.

حلول الخارج

ومع تمسك كل طرف بشروطه كي يعود ثانية إلى طاولة التفاوض، يرى كثيرون من الساسة الليبيين أن مستقبل بلادهم مرهون بالحلول التي قد تأتي من الخارج، ومع ذلك لم يطرأ أي جديد على الدعوة التي تبنّتها «قمة الدول السبع»، التي انعقدت في أغسطس (آب) الماضي، بشأن عقد مؤتمر دولي يشارك فيه جميع الأطراف الليبية المعنية على المستويين المحلي والإقليمي للبحث عن سياسي، باستثناء تحرّكات مكوكية للمبعوث الأممي للحشد والتمهيد للمؤتمر.
لقد عقدت خلال الشهور الماضية مؤتمرات دولية كثيرة حول ليبيا دون جدوى، بسبب تمسك أطراف النزاع بمواقفهم، لكن ثمة ليبيين ينتظرون أن تصل أزمة بلادهم «محطة برلين» وتلقى اهتماماً حقيقياً من القوى الكبرى، مقابل مَن يرى أنه لا فائدة ترجى من ورائها. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» قال عضو مجلس النواب أبو بكر بعيرة (النائب عن مدينة بنغازي) إن «السبب الأساسي في تعذّر التوصل إلى حل سياسي يرجع إلى غياب المعايير في مَن يفترض أن يتولى المناصب القيادية بالدولة. وبالتالي، أصبح كل مَن وصل إلى منصب ما، يتطلع إلى رئاسة ليبيا، فتعدّدت الرئاسات والحكومات ودخلت البلاد في متاهة».
وعلى الرغم من التحركات الدولية الوئيدة باتجاه البحث عن حلول لوقف الحرب، وإعادة الأفرقاء السياسيين إلى طاولة المفاوضات، نالت الأزمة الليبية بالأمس قسطاً وافراً من كلمات واجتماعات الرؤساء والزعماء أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. إذ تطرقت في مجملها إلى ضرورة تكثيف العمل المشترك والجهود الدولية سعياً للتوصل إلى تسوية سياسية شاملة، تعيد الاستقرار والأمن وتقضي على الإرهاب في ليبيا.
وباتجاه تحريك الأزمة باتجاه طاولة التفاوض مجددا تمحوَر لقاء فريديريكا موغيريني، الممثلة العليا للسياسة الخارجية الأوروبية، بفائز السراج، على هامش اجتماعات الأمم المتحدة. ونقلت إدارة التواصل والإعلام للمجلس الرئاسي، عن موغيريني قولها إن الجهود الأوروبية تنصبّ في اتجاه العودة للمسار السياسي، «ورفض الاتحاد الأوروبي الهجمات التي تطال المدنيين وأي خرق لقرار مجلس الأمن بحظر السلاح».
وكان السفير الأميركي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند قد التقى حفتر، في زيارة غير معلنة إلى أبوظبي، تناولت التباحث حول الأوضاع العسكرية الجارية على تخوم العاصمة طرابلس. ولم تفصح القيادة العامة للقوات المسلحة الليبية، عن تفاصيل هذا اللقاء مكتفية بالقول، إنه جاء «في إطار بحث الأوضاع العسكرية في ليبيا، وحرب القوات المسلحة على الإرهاب»، بجانب «تعزيز العلاقة بين الدولتين الليبية والأميركية». لكن السفارة الأميركية لدى ليبيا، قالت عبر حسابها على «تويتر»، إن اللقاء استهدف «مناقشة الأوضاع الراهنة في ليبيا، وإمكانية التوصّل إلى حلّ سياسي للصراع في البلاد».
وبموازاة الدعوات التي تنادي بالعودة إلى الحوار، رأى النائب بعيرة أنه «لا يمكن العودة مرة أخرى للحلول السياسية ما لم يتدخل المجتمع الدولي بقوة لفرض ذلك على الجميع... وهذا أمر بعيد الاحتمال، والأقرب هو أن تنقسم ليبيا إلى دويلات متعددة».

تقاسم الثروة

من جانب آخر، تتزايد الأصوات المنادية بأن التوزيع «غير العادل» للثروة في ليبيا من بين أسباب أزمات البلاد، وهو ما أكد عليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بدعوته خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى معالجة «الخلل الفادح» في مواضيع عدة، من بينها «توزيع الثروة والسلطة في ليبيا، وغياب الرقابة الشعبية من خلال ممثلين منتخبين من الشعب الليبي على القرار السياسي والاقتصادي في البلاد، مع ضرورة توحيد المؤسسات الوطنية كافة».
وفي المسار نفسه، رأى السفير الأميركي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، الذي أبدى استعداد بلاده لتقديم مزيد من الدعم الفني والخبرة لمعالجة القضايا المتعلقة بتوزيع الثروة في البلاد، أن «هناك فجوة كبيرة» لا تزال قائمة بين الأطراف في ليبيا لتحسين شفافية وفاعلية مؤسسات الدولة الليبية.
نورلاند، التقى ونائب مساعد وزير الخزانة الأميركي إريك ماير، كبار المسؤولين من جميع أنحاء ليبيا الأسبوع الماضي بهدف تعزيز التعاون الاقتصادي بين الولايات المتحدة وليبيا وتعزيز الانتعاش الاقتصادي الليبي لصالح جميع الليبيين. وقالت السفارة، إنه بـ«التشاور مع شركائنا الليبيين، أبدت الولايات المتحدة استعدادها لتقديم مزيد من الدعم الفني والخبرة لمعالجة القضايا المستفحلة التي تعيق توزيع الميزانية، وضمان استفادة جميع الليبيين من الثروات الطبيعية الهائلة في البلاد».
هذا، وكانت ليبيا تنتج في عام 2010، أي قبل سقوط القذافي نحو 1.6 مليون برميل يومياً، لكن الإنتاج تراجع بشكل حادٍ بعد الإطاحة بنظامه، وتراوح بين 20 و600 ألف برميل يومياً، على أقصى حد، قبل أن يتعافى ليصل إلى 800 ألف وليتجاوز في الأشهر الماضية، لأول مرة، عتبة المليون برميل يومياً. ومعلوم أن لكل من إيطاليا وفرنسا مصالح في النفط والغاز الليبيين، وتثار ضدهما اتهامات أيضاً بمساندة أنصار لكل منهما يشاركون في الصراع. وحقاً جمعت الدولتان حفتر والسراج في قمتين استضافتهما باريس وبالرمو (صقلية – إيطاليا) العام الماضي، لكنهما فشلتا في إحراز تقدّم.

لجنة تحقيق أممية

ومع تبادل الاتهامات بين حكومتي شرق ليبيا وغربها، على خلفية تراجع الأوضاع الاقتصادية، دعا السراج عبر منبر الأمم المتحدة إلى إرسال بعثة أممية لتقصي الحقائق للتحقيق فيما سماه بـ«التجاوزات المالية الخطيرة التي ترتكبها المؤسسات الموازية غير الشرعية في ليبيا، وطباعتها العملة خارج سلطة ونظام إصدار العملة». كذلك طالب بضرورة الإسراع بتكليف لجنة فنية من المؤسسات الدولية المتخصّصة وتحت إشراف الأمم المتحدة، لمراجعة أعمال المصرف المركزي في طرابلس وفرع المركزي في البيضاء (شرق البلاد).
إلا أنه قبل أن تحطّ طائرة السراج على التراب الليبي، كانت الانتقادات الحادة في انتظاره؛ إذ رأت إدارة مصرف ليبيا المركزي في بنغازي أن حديث السراج عن طباعة العملة خارج سلطة ونظام إصدار العملات «ينمّ إما عن جهل بقانون المصارف، أو عن تعمد تضليل المجتمع الدولي»، ولا تليق بمن لديه من المعلومات ما يكفي لقول عكس ذلك. وذهب مصدر من شرق ليبيا، إلى أن «طلب السراج أمام محفل دولي بتشكيل لجنة أممية للتحقيق في المخالفات الاقتصادية، تعدّ إذناً رسمياً بالتدخل في شؤون ليبيا». واستغرب المصدر الذي تحدث لـ«الشرق الأوسط» مما سماه تهرّب رئيس المجلس الرئاسي من تحمّل مسؤوليته بالتصدي للفساد في المؤسسات التابعة لسلطته»، وانتهى إلى أن «التقارير التي صدرت عن جهات رقابية تابعة للسراج خلال السنتين الماضيتين تحدثت عن مخالفات مالية جسيمة، وجرائم تربح من المال العام».

تكسير عظام

على صعيد آخر، بموازاة المبادرات الدولية للبحث عن حلٍّ للأزمة الليبية، تراوح الحرب على أطراف طرابلس بين هدوء وتصاعد؛ لكن مصادر عسكرية ترجح كفة «الجيش الوطني»، الذي قالت إنه وضع يده على قرابة نصف مساحة العاصمة، إذا ما نظرنا إلى الدعم العسكري الذي تتلقاه قوات «الوفاق» من تركيا. وتشدد المصادر نفسها على أن الجيش بات يضع يده على 75 في المائة من الأراضي الليبية، بالإضافة الموانئ النفطية وأغلب الحقول، إلى جانب امتلاكه 9 قواعد عسكرية على طول البلاد؛ مما يعزز من سيطرة الجيش على الأجواء الليبية.
وفي المقابل، مع تمكن الدفاعات الجوية التابعة للجيش من إسقاط عدد من الطائرات المسيّرة في مناطق عدة بالضواحي الجنوبية لطرابلس، تقول عملية «بركان الغضب» التابعة لقوات «الوفاق» إنها هي الأخرى تحقق انتصارات في أرض المعركة. وأمام تمترس القوتين خلف ما تقول إنها مكتسبات حققتها على الأرض، يرى ساسة وحقوقيون أنه لا سبيل ولا حل للأزمة إلا من خلال الحوار والمفاوضات باعتبارهما الحل الأمثل. وحقاً، قال أحمد عبد الحكيم حمزة، رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بليبيا، أن «الخيار العسكري مكلف وثمنه باهظ». وأردف أنه «بعد مضي قرابة ستة أشهر على اندلاع الحرب، نقف اليوم على كلفه باهظة الثمن من ضحايا وجرحي ومصابين من جميع أطراف النزاع المسلح، بالإضافة إلى حجم التدمير والسرقات الكبيرة التي طالت ممتلكات المواطنين جراء المواجهات المسلحة مما ساهم في تأزم الوضع الإنساني والمعيشي».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.