قصائد خارجة من ظلمة الحرب والدمار

الشاعرة السورية عبير سليمان في «رسالة من بيدق ميت»

غلاف المجموعة الشعرية
غلاف المجموعة الشعرية
TT

قصائد خارجة من ظلمة الحرب والدمار

غلاف المجموعة الشعرية
غلاف المجموعة الشعرية

تظهر عبير سليمان في ديوانها الأول «رسالة من بيدق ميت» مقدرة في ابتكار الصور الخيالية الجميلة التي لا يتوقعها القارئ. فتدهشه بخصوبة مخيلتها. على سبيل المثال تبدأ ديوانها بقصيدة بعنوان: «صورة عائلية»
ولكن من عائلة المتكلمة في القصيدة؟ هنا تكمن المفاجأة.. فنحن أمام 3 شخصيات هن: المضيافة والعاشقة والخرساء. وكلهن يعشن في جسد واحد.. لكل منهن دورها في المحافظة على الاعتدال والانسجام في شخصية الشاعرة.. وإن فقدت إحداهن تفقد الشاعرة سعادتها.
ولنأخذ القصيدة ككل لعدم إمكانية تجزئتها:
أسكن مع ثلاث فتيات
في جسد واحد بحجرتين وصالة
وشرفة تطل على المحيط..
تقوم الأولى بواجب الضيوف
بلياقة نادل إنجليزي
وترتب البيت وتحجز فوضانا العارمة
خلف خزانة سرية!
العاشقة
تبالغ كثيرا في الحلم والغناء
حتى أننا نقفل عليها باب غرفتها أحيانا..
أما الخرساء
فتطحن عواصفنا
وترمم سقفنا كلما دلفت منه أمطار الخذلان..
أعيش مع فتياتي الطيبات منسجمة وسعيدة
نحن هنا أمام مشهدية كاملة تعكس جوانب حياتية تلمس جوانب من الشخصية الإنسانية. انقسام الشخصية إلى عدة شخصيات ومع ذلك الشخصيات تكون شخصية واحدة. نحن أمام معادلة التعددية والوحدة. ونجحت الشاعرة في صياغتها بشكل رائع.
تنطلق قصائد عبير سليمان من قاعدة فنية سلسة. محمل بأنوثة التعبير. فكلماتها خفيفة الظل ناعمة تعشقها الأذن.. نقرأها لترسم ابتسامة من الرضا في نفوسنا.. وكأن كلماتها تأتي لتعقد معاهدة من السلام والمحبة بين الكلمة والقارئ. كما في هذه الأبيات التالية:
تغزل لي
كل يوم
وفي كل الظروف
ابتسامة طيبة..
من الحرير والكرز..
الحرب السورية أثرت على كل السوريين فكيف تكون وطأتها على شاعرتنا؟
عبير سليمان الشاعرة السورية الرقيقة يخرج ديوانها من ظلمة الحرب والدمار وتمزيق سوريا.. يولد ديوانها من رحم عذاب الوطن وجراحه.. فتحمل قضيته في قصائدها. وتعرض تمزقه بين فريقين: القادة يزرعون الحروب والشعب يحصد الموت ويقضم الوجع.
وأكثر القصائد التي تثير قضية الوطن هي قصيدة «أولمبياد» التي تصور الصراع بالماراثون الطويل.. صراع بين الوطن وصائدي الجوائز المستفيدين من الفتن أو من يمكننا تسميتهم بمجرمي الحرب. وهنا نتذكر ما كتبه ليولولد لوغونس: «السياسيون إنهم كارثة وطنية. كل شيء يمثل التخلف والفقر والظلم، إما ناتج عن هذه الكارثة أو مستثمر من قبلها».
وشاعرتنا تقول:
في المضمار الطويل للماراتون
يركض الوطن هاربا
وبسرعة يجري خلفه
صائدو الجوائز..
واللاعبون الهواة
أفسدوا اللعبة؛
الفريق الأول شد الحبل إليه
بكل قوته
الفريق الثاني رد
بكل قوته
الصخرة المدببة الموجوعة
على خصرها
حذرتهما
من انقطاع الحبل
الصخرة
بريئة من دم الوطن.
تجمع الشاعرة بين المحسوس وغير المحسوس لتعبر عن وجدانها. وتستخدم أبسط الأشياء للتعبير عن قضايا كونية. وهنا تذكرنا بقول ريلكه «لا شيء فقير أمام المبدع فحتى لو كنت في سجن تخنق جدرانه كل ضجيج العالم أفلا تبقى لك دائما طفولتك؟»
«الحيرة تغسل الصحون وتجففها
ثم تسكب فيها التساؤلات...
الحزن يكوي قميص وحدتي
ويعلقه في خزانة الانتظار».
فهي أيضا تجمع بين الحيرة والصحون وبين الحزن والقميص لتغزلها مع بعضها البعض خالقة صور شعرية جميلة تعبر فيها عن أحاسيسها الداخلية وبلغة بسيطة تخلو من تعقيد التراكيب اللغوية...
وللرمزية أيضا حيز كبير في كتاباتها. فهي تجند عناصر الطبيعة لطرح الصراعات الوجدانية التي تعتريها وهنا يمكننا الإشارة إلى قصيدة «الخريف». في هذه القصيدة تنطق الريح ولكن الأوراق تصمت ويأتي البيت الأخير الضربة القوية التي يفتح الباب أمام أبعاد لا متناهية!
تقول:
تفتح الريح باب البيت
فيدلف الخريف متقمصا أجسادنا
ينهمر من أعيننا على أسرتنا
فتنهمر الأحلام
من نومنا..
عارية
تتشابك الأغصان في الغرف
تطقطق
سائلة عن حفيف..
لكن الريح
ترحل لا مبالية
بالأوراق اليابسة
التي أصابها الخرس
ترحل..
دون أن تغلق الباب
كما تذكرنا الشاعرة بمسرحية الكاتب الآيرلندي صمويل بيكيت في انتظار غودو في إحدى قصائدها فتقول: في انتظار «اللاشيء نتناوب أنا والليل على حراسة بوابة الترقب.. من هو اللاشيء أو غودو عبير سليمان؟» أهو الأمل، الفرح، السعادة؟ أهو الموت، الفراغ، اللاجدوى؟ من هو هذا القادم الذي يقضي أبطال بيكيت حياتهم في انتظاره دون جدوى، وسط يأس كامل، وطبيعة جرداء كما ذكر أديب كمال الدين في تحليله للمسرحية! وتختم القصيدة بأبيات تجسد عبثية الحياة وسخرية أقدارنا: ودوما لا يخيب انتظارنا فدوما يأتي اللاشيء!
وتدهشنا عبير سليمان بجمالية لوحة سريالية ترتفع فيها إلى ما وراء الواقع المرئي:
فتقول:
لست لوحة سريالية
ولكن...
أصابع العزلة
كانت ترتجف
حين رسمتني
وتنجح الشاعرة بطرح مسألة وجود الإنسان وعدم اكتمالها بمعزل عما حوله. فهل يمكننا أن نرسم صورة حقيقية لذواتنا إذا لم نربطها بالواقع الخارجي المحيط بنا؟
وبعثرت الألوان
وتكون لدى القماش المعد للرسم....
انطباع خاطئ عني
ولكن شاعرتنا في بعض القصائد تنزلق في مطب النثر كما في قصيدة «ذات صيف»:
ذات صيف
أخرج البحر لي من جيب معطفه
ثلاث دمعات مرة
وغرق؛
من يومها..
صرت أحبه أكثر في الشتاء
هذا المقطع ملئ بشحنة شعرية عالية، بل إنه قصيدة مكتملة بحد ذاتها، فالمقاطع اللاحقة لا تضيف شيئا، إن لم تقلل من جمالية وكثافة القصيدة، وتسقطها في النثر العادي:
عاريا..
ولأنه ساعي بريد الوحيدين؛
رميت فيه زجاجات
برسائل معطرة
إلى المجهول؛
ردها «المجهول» إلى مجيبا:
الرغبات المطلوبة غير متوفرة حاليا
رجاء... توقفي عن الإرسال..



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.