مخرج يتحرّك ضمن التفاصيل بسهولة

الناقد أحمد شوقي يحاور داود عبد السيد

مخرج يتحرّك ضمن التفاصيل بسهولة
TT

مخرج يتحرّك ضمن التفاصيل بسهولة

مخرج يتحرّك ضمن التفاصيل بسهولة

أحمد شوقي، ناقد سينمائي شاب من جيل تواصل مع النقد السينمائي، بمنظور واسع، مستفيدا مما يتيحه عصر المعلومات، ومن فهمه الوثيق لفن السينما ودوره، وإلمامه الجيّد بما يتم تحقيقه داخل وخارج السينما المصرية.
وفي زمن باتت فيه الأفلام المميّزة فنا وأسلوبا ومعالجة، فإن وجوده، وسواه، في ساحة الكتابة السينمائية هو بعض من تلك الذخيرة التي تدافع بها الثقافة السينمائية عن وجودها.
كتابه «داود عبد السيد.. محاورات أحمد شوقي»، وهو من إصدارات مهرجان الإسكندرية الدولي الثلاثين لدول البحر المتوسط هذا العام، الذي انتهت أعماله في منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي، وضمن سلسلة إصدارات «الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما» في القاهرة، وصدر بطلب من رئيس مهرجان الإسكندرية الأمير أباظة، لم يتردد شوقي في قبوله. يقول في ذلك إن «العرض كان أكبر من أن يُرفض (...) فوافقت على الفور». بدت الفترة الزمنية محدودة، لكن من لا يعلم ذلك لن يلحظ أي تأثير على موضوع العمل ومنواله، وهو إجراء حوار شامل مع المخرج المصري داود عبد السيد، الذي يعدّ أحد أهم أعلام السينما المصرية منذ أن بدأ العمل سنة 1985 حين أخرج فيلم (الصعاليك)».
كان على الناقد أن يشاهد، أو يعيد مشاهدة كل أفلام المخرج المنجزة، وهي ثمانية. بدأت بـ«الصعاليك»، وانتهت بفيلم «رسائل البحر» المنفّذ قبل ثلاثة أعوام، علما بأن عبد السيد، الذي احتفى به في مهرجان الإسكندرية هذا العام، يشرف على إنجاز فيلمه التاسع «قدرات غير عادية».
إلى جانب ذلك، كان على أحمد شوقي أن يجد الفكرة الصحيحة لعمل كهذا. يقول في تمهيده للكتاب إنه استوحى الفكرة من كتاب السينمائي هاشم النحاس، «صلاح أبو سيف.. محاورات هاشم النحاس»، الذي صدر قبل عقود وتضمن حوارا طويلا مع المخرج الراحل، قُصد منه التطرق إلى كل فيلم أخرجه على حدة.
ربما كان العنوان غير صائب في الحالتين، لأن «حوارات» ناقد معيّن مع سينمائي لا تصلح لأن تكون عنوانا لسلسلة من الحوارات: حوار مع مخرج، يليه حوار مع مخرج آخر، ومخرج ثالث، وهكذا. لكنها ليست ملاحظة أساسية وإن كانت صائبة من وجهة هذا الناقد. ما هو أساسي وجوهري هو قيمة الناتج من هذا الحوار الشامل (أو الحوارات المتعددة)، وهذه تعتمد على نوعية الأسئلة الموجهة، وبالتأكيد على المخرج وما يمثّله وما يستطيع قوله.
في هذا الشأن، وعلى الرغم من أن كل فصل يبدأ بعبارة غير ضرورية هي «يقول الأستاذ داود عبد السيد»، فإنه لا مجال للإنكار أن الناقد طرح الأسئلة الصحيحة تماما والمخرج أجاب على نحو واف وعلمي عنها.
في هذا الكتاب ثراء يغني عن دراسة. إنه المخرج ذاته من يتحدّث عن كل فيلم قام بتحقيقه، موفرا للناقد، ولنا جميعا من بعده كقراء، معلومات من شأنها إثراء ما خبرناه استخلاصا من أفلامه. أعمال عبد السيد السينمائية لا تشبه أي أعمال أخرى في السينما العربية كافّة: ملم ومدرك ويتحرّك ضمن التفاصيل بسهولة، ويعرف كيف يسرد القصّة من دون أن يفقد الشخصية، وكيف يحافظ على الشخصية كمكنون درامي من دون أن يضيع حق المشاهد في المتابعة الروائية ورغبته في التعرّف على كل ما في بال المخرج من ملاحظات ورسائل. عبد السيد يعني بالتفاصيل لا الدرامية والشخصية فقط، بل بتلك التي لها علاقة بالمكان وبالأجواء العابقة به. وقراءة ردوده وملاحظاته وآرائه حول أفلامه وحول السينما ككل، من أفضل ما تم طبعه على ورق بين كل الكتب السينمائية العربية التي بحثت في سينما مخرجين معيّنين.
على ذلك، ربما كان من الأفضل أن يوفّر الناقد رأيا في كل فيلم يمكن التعرف من خلاله على بعض أفلام المخرج مما لم يشاهده القارئ. هناك فيلموغرافيا في النهاية، لكنها لا تفي تماما بالمطلوب في هذا الشأن. الرأي كان يمكن له أن يُساق كتمهيد موجز جدّا - لو أريد له ذلك - قبل كل فيلم.
عندما يتحدّث المخرج عن فيلم ما لا يغلق الباب على نفسه. فهو يتناول الشخصية والممثل، ويتناول الإخراج وعناصر الإنتاج، وقبل ذلك، الكتابة ذاتها. وهو الذي كتب سيناريوهات جميع أفلامه مما ساعده على إحكام بنائها.
أخيرا، يعترف كاتب هذه السطور بأنه تقدم في مطلع الثمانينات من المخرج الرائع الراحل كمال الشيخ، وسأله إذا كان يرضى بوضع كتاب حوارات معه يدور حول كل فيلم من أفلامه، فوافق على ذلك، وكان ينبغي اختيار الفترة المناسبة التي يمكن البقاء فيها في القاهرة لمشاهدة هذه الأفلام مجتمعة، وإجراء الحديث إثر كل فيلم على حدة. المخرج كان مستعدا ومرحّبا، لكن هذه الفترة المناسبة لم تحصل حتى الآن.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟