وفاة «شيراك العرب»

«أسد السياسة» الفرنسي عارض حرب العراق وهندس المحكمة الخاصة بلبنان

TT

وفاة «شيراك العرب»

مع غياب الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، تُغلق صفحة من تاريخ فرنسا جسّدها هذا الرجل الذي يصحّ فيه قول المتنبي بسيف الدولة: «ملأ الدنيا وشغل الناس».
نادراً ما عرفت الحياة السياسية في فرنسا «إجماعاً» في الإشادة بشخصية سياسية فرضت هامتها طيلة أربعين عاماً، وخاضت معارك سياسية طاحنة في الداخل. ذهب رئيس الحكومة السابق فرنسوا فيون إلى وصفه بـ«أسد السياسة». أما في الخارج، فإن ردود الفعل، من الشرق والغرب، على وفاة الرجل الذي تربع على عرش الإليزيه طيلة 12 عاماً صبَّت كلها في الاعتراف بالدور الذي لعبه على المسرح الدولي.
بيد أن البصمات التي تركها شيراك في البيئة العربية كانت الأكبر والأهمَّ والأكثر أثراً، إذ أقام علاقات وثيقة مع غالبية القادة العرب الذي عاصرهم رئيساً للحكومة الفرنسية ثم رئيساً للجمهورية، وكان الوجهة التي يقصدها أصدقاؤه العرب، وعلى رأسهم الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، الذي كان يناديه بـ«الدكتور شيراك»، لطلب المشورة والدعم والتفهُّم، كما كان له موقف استثنائي في شوارع القدس الشرقية حين رفض الطوق الأمني الذي ضربته حوله الشرطة الإسرائيلية لمنعه من الاحتكاك بالمواطنين الفلسطينيين.
ووقف شيراك بوجه الولايات المتحدة في مجلس الأمن في عام 2003، مهدداً باستخدام «الفيتو» ضد غزو العراق، وكذلك إلى جانب لبنان طيلة حياته السياسية، خصوصاً منذ صداقته مع الرئيس رفيق الحريري، وكان بعد اغتياله مهندس المحكمة الدولية لمحاكمة قتلته.
حقيقة الأمر أن هذا الرجل الذي وهب حياته للسياسة منذ أن أنهى دروسه العليا خريجاً في المعهد الوطني للإدارة، أراد إحياء الإرث الديغولي في سياسة فرنسا العربية. لكن السياسة لم تكن كل شيء بالنسبة إليه، إذ إنه كان يحب الحياة، ويغرف منها بلا اعتدال. وُلِد في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1932 في باريس، لعائلة تنتمي إلى البورجوازية المتوسطة، سالكاً مساراً مدرسياً يوصله آلياً إلى الإدارة والسياسة.
بدأ «نضاله» السياسي في الحزب الشيوعي عندما كان طالباً في معهد العلوم السياسية بداية الخمسينات، وقد أقرّ بأنه كان يبيع صحيفته «لومانيتيه». أحب الولايات المتحدة الأميركية التي أقام فيها طالباً طيلة عام في جامعة هارفارد، حيث وقع في حب طالبة أميركية. لكنه أُلزِم، بفعل ضغوط عائلته، على الافتراق عنها. وبعد عودته إلى باريس، تزوج برنارديت شودرون دو كورسيل التي تنتمي إلى البورجوازية العليا، ولم يكن الزواج سهلاً بسبب معارضة عائلة برناديت التي رأت أنه ليس من مستواها. لكن برناديت التي أصبحت مع الأيام شخصية سياسية مرموقة ومحترمة، وقفت دوماً إلى جانبه، وكانت الداعم السياسي الأول له، خصوصاً في أولى خطواته، بفضل علاقات عائلتها الثرية. لكن أعمق مأساة جاك شيراك كانت عائلية، واسمها لورانس، وهي ابنته البكر التي كانت تعاني من مرض نفسي (فقدان الشهية)، وتُوفّيت قبل ثلاثة أعوام. وله ابنة ثانية (كلود) عملت إلى جانبه مستشارة إعلامية عندما كان رئيساً للجمهورية.
كتب كثيرون عن جاك شيراك الرجل والسياسي؛ فقد احتلّ شيراك أول مقعد وزاري له، وهو في سن الـ34 عاماً. وفي عام 1967، انتخب نائباً عن دائرة «لا كوريز» الريفية وسط فرنسا، وأُعِيد انتخابه عدة مرات. شغل مناصب وزراية متلاحقة، وأصبح في عام 1974 أصغر رئيس حكومة لفرنسا في عهد الرئيس فاليري جيسكار ديستان، الذي كافأه بتعيينه في هذا المنصب، لوقوفه إلى جانبه في الحملة الرئاسية، وضد مرشح الحزب الديغولي الذي كان عضواً فيه، لكن «التعايش» بينه وبين جيسكار ديستان لم يدم طويلاً. وفي لقاء لهما استمرّ دقائق قليلة، قدّم شيراك استقالته، وعمد بعدها إلى إعادة تأسيس الحزب الديغولي تحت اسم «التجمُّع من أجل الجمهورية»، ليخدم أهدافه وطموحاته السياسية. وسلّط شيراك اهتمامه على رئاسة بلدية باريس، التي فاز بها، وبقيت تحت سيطرته، واستخدمها منصة للوصول إلى الرئاسة.
لذا، ترشح للانتخابات الرئاسية في عام 1981، وثمة مَن يؤكد أنه عمل لسقوط جيسكار ديستان وانتخاب الاشتراكي فرنسوا ميتران. ومنذ تلك اللحظة، فرض شيراك نفسه «المعارض الأول» للحكم الاشتراكي - الشيوعي. وفي الانتخابات التشريعية اللاحقة التي فاز بها اليمين، دشنت فرنسا عهد ما يُسمّى «المساكنة»، أي التعايش بين رئيس اشتراكي وحكومة يمينية. ولذا كانت سنتا «المساكنة» من الأصعب سياسياً لما عرفتا من تجاذبات ومناكفات. إلا أن حلم شيراك الأول، أي أن يصبح رئيساً للجمهورية، لم يتحقق في عام 1988 إذ إنه هُزِم على يد ميتران الذي أمضى في الإليزيه 14 عاماً. ولم تُفتح أبواب القصر الرئاسي بوجه شيراك إلا في عام 1995، رغم «خيانة» صديقه رئيس الحكومة إدوار بالادور، ووزير ماليته نيكولا ساركوزي. وكما في عام 1995، حيث فاز شيراك على ليونيل جوسبان، رئيس الحكومة الاشتراكي، إلا أن الأخير فرض نفسه رئيساً للحكومة في «مساكنة» ثانية مقلوبة، بعد فوز اليسار في الانتخابات التشريعية عام 1997، لكن شيراك ضمن انتخابه للمرة الثانية في 2002، إذ أخرج جوسبان من السباق في الدورة الأولى ولم يبقَ بوجه شيراك سوى رئيس الجبهة الوطنية (اليمين المتطرف) جان ماري لو بين، وأحرز الأول ما يزيد على 80 في المائة من الأصوات.
12 عاماً قضاها شيراك في قصر الإليزيه، بعد أن اختُصرت الولاية الرئاسية في عهده إلى خمسة أعوام. لكن علاقاته العربية بدأت بالبزوغ منذ أن كان رئيساً للحكومة ما بين عامي 1974 و1976. ففي تلك الفترة، وطّد شيراك علاقات بلاده بالعراق، وارتبط بصداقة مع نائب الرئيس العراقي صدام حسين الذي زاره في باريس. واستفادت الشركات الفرنسية المدنية والدفاعية من العلاقات الوثيقة التي كانت ذروتها حصول العراق على مفاعلين نوويين، قامت إسرائيل بتدميرهما في عام 1981.
لم يكن شيراك يخفي حبه للعالم العربي، حيث نسج مع قادته علاقات تخطت الطابع الرسمي. وحاول الرئيس الفرنسي «تطبيع» علاقات بلاده مع الجزائر، التي عرفها جندياً متطوعاً، حيث أصيب بجروح ورُقّي بعدها إلى رتبة ملازم. لكن الإرث الاستعماري وقف حاجزاً بوجه عملية التطبيع التي لم تنتهِ حتى اليوم. كما سار شيراك على خطى الجنرال ديغول في مواقفه الشهيرة عام 1967، عقب حرب الأيام الستة. ولعل أفضل تعبير عن ذلك كان الزيارة الشهيرة للقدس في شهر أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1996، عندما انتفض بوجه حرسه الإسرائيلي، وصاح بوجه الضابط الذي كان يضيق عليه الخناق ليمنعه من التواصل مع سكان القدس القديمة قائلاً: «هل تريدني أن أركب الطائرة وأعود إلى بلدي؟». وبقيت هذه الصورة التاريخية التي تناقلتها القنوات التلفزيونية العالمية شاهداً على رغبة شيراك في مساعدة الفلسطينيين وتخفيف الضغط الإسرائيلي عنهم.
وعندما زار جوسبان رسمياً، وهو رئيس للحكومة، إسرائيل والأراضي الفلسطينية، في فبراير (شباط) عام 2000 واستخدم عبارات تنمّ عن ميله لإسرائيل، ثارت ثورة شيراك، ولم يتردد في انتقاد رئيس حكومته، مؤكداً أن رئيس الجمهورية هو مَن يرسم سياسة فرنسا.
تبدّت سياسة شيراك العربية في وقوفه الحازم ضد الهجوم الإسرائيلي على لبنان في عام 1996 الذي أطلق عليه اسم «عناقيد الغضب»، وإرساله وزير خارجيته هيرفيه دو شارت متنقلاً بين عواصم المنطقة للتوصل إلى وقف إلى إطلاق النار، وفرض تشكيل لجنة رباعية، من ضمنها فرنسا، للإشراف على الوضع. وفي خطاب ألقاه في شهر أبريل (نيسان) من عام 1996، عرض شيراك رؤيته للعلاقات الفرنسية - العربية في القاهرة، ودعا إلى توطيد العلاقات العربية والمتوسطية لفرنسا. وجزء من مشروعه استعاده الرئيس ساركوزي لدى إطلاقه «الاتحاد من أجل المتوسط» في عام 2008.
إذا كانت فرنسا، بغضّ النظر عن هوية رئيسها وحكومتها، «صديقة للبنان»، فإن شيراك كان أكثر من ذلك، إذ إنه أعطى المسألة اللبنانية كثيراً من وقته، وكان أول رئيس يزور لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية في عام 1990، حيث تجول بالمدينة في سيارة صديقه رفيق الحريري، رئيس الحكومة اللبنانية. وعندما اغتيل الحريري في عام 2005، كان شيراك الرئيس الغربي الوحيد الذي حضر دفنه، إلا أن الأهم من ذلك أن شيراك كان المحرك الذي دفع باتجاه تفعيل دور مجلس الأمن في لبنان، والدفع باتجاه إخراج الجيش السوري من لبنان. لكن قبل ذلك، عمل شيراك من أجل عقد مسلسل مؤتمرات «باريس 1 و2 و3» لمساعدة لبنان اقتصاديّاً، وحثَّ الدول القادرة والمؤسسات الدولية المالية على مساعدة لبنان للخروج من مآزقه المالية والاقتصادية.
ستذكر كتب التاريخ، بلا شك، موقف شيراك من الحرب في العراق ومواجهته الرئيس بوش والولايات المتحدة الأميركية في مجلس الأمن، رافضاً إعطاء واشطن ولندن الضوء الأخضر لمهاجمة العراق بحجة القضاء على أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها. وكان الخطاب التاريخي الذي ألقاه وزير الخارجية دومينيك دو فليبان في مجلس الأمن، عام 2003، معبّراً عن التمايز الواضح بين الرؤية الفرنسية والخطط الأميركية.
وأحدثت مواقف شيراك شرخاً في العلاقات الفرنسية - الأميركية، كما كانت لها ترجيعاتها على مستوى الجمهور الأميركي الذي أخذ بمقاطعة المنتجات الفرنسية، لا بل غيّر اسم البطاطا المقلية من «فرانش فرايز» إلى «ليبرتي فرايز»، إلا أن العلاقات بين البلدين عادت تدريجياً إلى سابق عهدها بفضل تعاونهما في الملف اللبناني.
هكذا يغيب وجهاً كبيراً من الوجوه الفرنسية. وإن كانت وفاته قد جمعت الناس والسياسيين حول ذكراه، إلا أن حياته عرفت صعوداً وهبوطاً، وأثارت تساؤلات كثيرة، وربما أسوأ ما عرفه سياسياً الحكم الذي صدر بحقه في عام 2011، لكن رغم ذلك، يبقى شيراك صورة استثنائية في المشهد السياسي الفرنسي ولن ينسى مواطنوه قامته الممشوقة وحبه للحياة.



توافق أممي نادر في مجلس الأمن حول سوريا

فاسيلي نيبينزيا مبعوث روسيا لدى الأمم المتحدة (رويترز)
فاسيلي نيبينزيا مبعوث روسيا لدى الأمم المتحدة (رويترز)
TT

توافق أممي نادر في مجلس الأمن حول سوريا

فاسيلي نيبينزيا مبعوث روسيا لدى الأمم المتحدة (رويترز)
فاسيلي نيبينزيا مبعوث روسيا لدى الأمم المتحدة (رويترز)

قال دبلوماسيون أميركيون وروس، يوم الاثنين، إن أعضاء مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة سيعملون على إعداد بيان بشأن سوريا في الأيام المقبلة، وذلك بعد اجتماع مغلق بشأن سيطرة قوات المعارضة على العاصمة دمشق والإطاحة بالرئيس بشار الأسد.

وقال السفير الروسي لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا للصحفيين بعد اجتماع المجلس المؤلف من 15 عضوا "أعتقد أن المجلس كان متحدا إلى حد ما بشأن الحاجة إلى الحفاظ على سلامة أراضي سوريا ووحدتها، وضمان حماية المدنيين، وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى السكان المحتاجين". وأكد نائب السفير الأميركي روبرت وود أن أغلب الأعضاء تحدثوا عن هذه القضايا، وقال للصحفيين إن المجلس سيعمل على إصدار بيان. وتتولى الولايات المتحدة رئاسة المجلس في ديسمبر (كانون الأول). وقال وود "إنها لحظة لا تصدق بالنسبة للشعب السوري. والآن نركز حقا على محاولة معرفة إلى أين يتجه الوضع. هل يمكن أن تكون هناك سلطة حاكمة في سوريا تحترم حقوق وكرامة الشعب السوري؟"

وقال السفير السوري لدى الأمم المتحدة قصي الضحاك للصحفيين خارج المجلس إن بعثته وكل السفارات السورية في الخارج تلقت تعليمات بمواصلة القيام بعملها والحفاظ على مؤسسات الدولة خلال الفترة الانتقالية. وقال "نحن الآن ننتظر الحكومة الجديدة ولكن في الوقت نفسه نواصل العمل مع الحكومة الحالية والقيادة الحالية"، مضيفا أن وزير الخارجية السوري بسام صباغ - المعين من قبل الأسد - لا يزال في دمشق. وقال للصحفيين خارج المجلس "نحن مع الشعب السوري. وسنواصل الدفاع عن الشعب السوري والعمل من أجله. لذلك سنواصل عملنا حتى إشعار آخر". وأضاف "السوريون يتطلعون إلى إقامة دولة الحرية والمساواة وسيادة القانون والديمقراطية، وسوف نتكاتف في سبيل إعادة بناء بلدنا، وإعادة بناء ما دمر، وبناء المستقبل، مستقبل سوريا الأفضل".

وتحدث نيبينزيا وود عن مدى عدم توقع الأحداث التي وقعت هذا الأسبوع في سوريا. وقال نيبينزيا "لقد فوجئ الجميع، بما في ذلك أعضاء المجلس. لذلك يتعين علينا أن ننتظر ونرى ونراقب ... ونقيم كيف سيتطور الوضع". ووفرت روسيا الحماية الدبلوماسية لحليفها الأسد خلال الحرب، واستخدمت حق النقض أكثر من 12 مرة في مجلس الأمن، وفي العديد من المناسبات بدعم من الصين. واجتمع المجلس عدة مرات شهريا طوال الحرب لمناقشة الوضع السياسي والإنساني في سوريا والأسلحة الكيميائية.

وقال السفير الصيني لدى الأمم المتحدة فو كونغ بعد اجتماع المجلس "الوضع يحتاج إلى الاستقرار ويجب أن تكون هناك عملية سياسية شاملة، كما يجب ألا يكون هناك عودة للقوى الإرهابية". وبدأت هيئة تحرير الشام الهجوم الذي أطاح بالأسد. وكانت تُعرف سابقا باسم جبهة النصرة التي كانت الجناح الرسمي لتنظيم القاعدة في سوريا حتى قطعت صلتها به في عام 2016. وتخضع الجماعة لعقوبات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وقال دبلوماسيون إنه لم تحدث أي نقاشات بشأن رفع هيئة تحرير الشام من قائمة العقوبات.