أوكرانيا.. صعوبات السلام

بعد أن وضعت الحرب أوزارها.. على السياسيين معالجة الاختلافات العرقية والدينية والتداخلات الخارجية

أوكرانيا.. صعوبات السلام
TT

أوكرانيا.. صعوبات السلام

أوكرانيا.. صعوبات السلام

الأزمة الأوكرانية معقدة متشابكة يكتنف الغموض عددا من جوانبها، والأسباب متباينة، بقدر تباين طبيعة ديموغرافية أوكرانيا وجغرافيتها وكذلك تاريخ الدولة والمنطقة. وعلى الرغم من كل الجهود الرامية إلى تسوية الخلافات القائمة، فإن الهوة لا تزال واسعة تفصلها عن السلام المنشود الذي يظل مرهونا بأمور تبقى في معظمها خارج إرادة الداخل الأوكراني.
بعيدا عن تعرجات التاريخ، ومنها ما يتعلق بأن القديم منه لا يعرف وجودا لدولة أوكرانية، بل وعلى العكس يكشف عن أن كييف العاصمة الحالية للدولة الأوكرانية المعاصرة كانت مركزا للدولة الروسية القديمة تحت اسم «روسيا الكييفية»، يمكن القول إن التركيبة السكانية الحديثة لأوكرانيا تحمل في طياتها بذور شقاق ثمة من يعتبره حجر عثرة يحول دون سرعة تحقيق الاستقرار والسلام في الفترة القريبة المقبلة.
والشقاق هنا يتعلق بتباين الطبيعة الديموغرافية للدولة الأوكرانية في شرقها وغربها، وتعدد الانتماءات العرقية لسكانها من الأوكرانيين والروس والبولنديين والمجريين وغيرهم من القوميات، إلى جانب الانتماءات الدينية، حيث الأرثوذكسية شرقا والكاثوليكية غربا، والتي يضاف إليها اليوم العنصر الخارجي الذي يتمثل في مخططات واشنطن التوسعية.
ورغم أن الاتحاد السوفياتي كان من أهم العوامل التي ساهمت في تذويب الفوارق والانتماءات، وحقق لها الكثير من المكاسب والتوسعات شرقا من خلال ضم شبه جزيرة القرم وأراض شاسعة في جنوب شرقي أوكرانيا، وغربا من خلال ضم أراض شاسعة كانت تابعة لبولندا والمجر ورومانيا، فقد كانت أوكرانيا ولسخرية القدر أيضا من أهم معاول انهياره بعد أن وقع رئيسها الأسبق ليونيد كرافتشوك مع نظيره الروسي بوريس يلتسين والبيلاروسي فياتشيسلاف كرافتشوك وثيقة «بيلوفجسكايا بوشا» في 8 ديسمبر (كانون الأول) 1991 حول إعلان إنهاء الدولة الاتحادية.
وقد جاءت الأزمة الأوكرانية، بكل تفاصيلها التي تناولتها «الشرق الأوسط» في أكثر من تقرير على مدار العام، لتكشف عما سبق وأعلنته الولايات المتحدة من مخططات تستهدف فرض هيمنتها ليس فقط على أوكرانيا، بل وعلى كل المناطق الواقعة على مقربة مباشرة من الدولة الروسية منذ تسعينات القرن الماضي، وهو ما لم تكن موسكو بغافلة عنه. ولذا فإنها تظل في صدارة أصحاب المصلحة المباشرة في العثور على الحلول المناسبة للخروج من الأزمة الراهنة، وإنهاء الاقتتال الدائر على تخوم حدودها الجنوبية، ليس فقط من أجل إنقاذ أوكرانيا ووحدة أراضيها، بل وكذلك المنطقة والعالم ومعهما الشرعية الدولية ومبادئ الأمم المتحدة، وهو ما استطاع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وبالتعاون مع نظيره الأوكراني بيترو بوروشينكو التمهيد له من خلال خطة سلام، سباعية النقاط طرحها بوتين وقَبِلَها بوروشينكو مع بعض التعديلات الطفيفة. وكان بوتين أكد أكثر من مرة أن هناك من صنع الأزمة الأوكرانية لخدمة مآرب ذاتية، ويحاول تأجيج نيرانها تصفية لحسابات جديدة وتنفيذ مخططات قديمة، في إشارة لا تخلو من مغزى إلى الولايات المتحدة التي طالما كشفت عن مطامعها في المنطقة منذ تسعينات القرن الماضي، فيما عادت لتشعل نيران «الثورات الملونة» التي اجتاحت المناطق المجاورة لروسيا في جورجيا وأوكرانيا وقرغيزيا خلال السنوات الخمس الأولى من القرن الحالي.
ولذا لم يكن غريبا أن يعلن سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسية من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الأخيرة أن «كييف وقعت ضحية لسياسات الغرب»، وإن حرص على إبداء حسن النوايا والتفاؤل حين قال إنه «لا تزال هناك فرصة لحل الأزمة الأوكرانية سلميا من خلال ما جرى التوصل إليه من اتفاقات». لكن وزير الخارجية الروسية بدا أكثر صراحة حين أشار إلى حقيقة ما يضمره الغرب من دسائس، ويحيكه من مخططات تعتمد على الانقلابات سبيلا إلى تحقيق ما تضمره من «نوايا شريرة». وقال لافروف: «إن الوقت قد حان للتخلي عن محاولات الضغط غير المشروع من جانب دول بعينها على الدول الأخرى».
وأضاف أن «الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أيدا الانقلاب في أوكرانيا، وبررا كل ما قامت به السلطة الأوكرانية الجديدة المعلنة من جانب واحد في كييف من قمع وتعسف وانتهاك لحقوق بعض طوائف الشعب الأوكراني. وكان هؤلاء الأوكرانيون يرفضون محاولات فرض نظام غير دستوري في البلاد، ويريدون الدفاع عن حقهم في لغتهم الأم وثقافاتهم وتاريخهم». فيما خلص الوزير الروسي إلى «ضرورة أن تتبنى الأمم المتحدة بيانا ترفض فيه التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وعدم الاعتراف بالانقلابات كوسيلة لتغيير السلطة».
ولم يكن خافيا على أحد أن الولايات المتحدة تقف وراء كل القلاقل والاضطرابات التي تموج بها كثير من مناطق العالم، وفي مقدمتها اليوم بلدان الفضاء السوفياتي السابق وما يجاورها من مناطق وفي مقدمتها الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كما يدرك أبعاد المخططات الغربية كثير من صانعي القرار في الكرملين والأوساط السياسية الروسية ومنهم يفجيني بريماكوف وزير الخارجية ورئيس الحكومة الروسية الأسبق، الذي قال في حديث إلى التلفزيون الروسي يوم السبت الماضي: «إن روسيا كان يمكن أن تقدم خدمة جليلة إلى الولايات المتحدة لو كانت تدخلت في النزاع الجاري في جنوب شرقي أوكرانيا». وأضاف بريماكوف ضرورة الاعتراف بأن الولايات المتحدة نجحت عمليا في إخضاع أوروبا واستمالتها إلى كثير من مخططاتها بما في ذلك في أوكرانيا.
وأشار إلى أن أوروبا كان من الممكن أن ترزح تحت وطأة النفوذ الأميركي لما يزيد على مائة عام لو كانت روسيا أخطأت ودفعت بقواتها إلى أوكرانيا. ونذكر بهذا الصدد أن مجلس الاتحاد كان أقر مرسوم السماح للرئيس بوتين باستخدام القوات المسلحة خارج الحدود الروسية في مطلع مارس (آذار) الماضي وهو ما كان يعني الإذن له بإعلان قرار الحرب! على أن المجلس الفيدرالي الروسي سرعان ما أعلن عن إلغاء قراره بعد أن استجاب الرئيس الأوكراني بوروشينكو وأعلن عن سحب قواته المسلحة من جنوب شرقي أوكرانيا لمدة أسبوع.
وذلك كله يعني أن روسيا لم تكن بعيدة عن متابعة ما يدور على مقربة من حدودها بالكثير من الاهتمام الذي بلغ حد التدخل غير المباشر، من خلال متطوعيها الذين تقاطروا عبر الحدود المشتركة للالتحاق بفصائل الحرس الشعبي في مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك اللتين أعلنتا انفصالهما من جانب واحد عن أوكرانيا، وهو ما كان في مقدمة الأسباب التي استندت إليها واشنطن وبلدان الاتحاد الأوروبي لفرض العقوبات الاقتصادية والسياسية.
وبغض النظر عن نتائج هذه العقوبات، فإن موسكو لم تتوقف عن محاولاتها من أجل احتواء الموقف، وتحقيق أكبر قدر من المكاسب بعد إعلانها عن الاستجابة لطلب سكان شبه جزيرة القرم حول العودة إلى الوطن الأم بعد غياب طال لما يقرب من 60 عاما وهو ما أشرنا إليه في أكثر من تقرير من موسكو. وقد كشفت تطورات الأحداث في أوكرانيا وما حولها عن أن كييف لا تملك قرارها، وأن الأمور تُدار من أروقة السياسة فيما وراء المحيط. كما أن الجدل الذي كان ولا يزال يحتدم بين ممثلي مختلف الأوساط السياسية الأوكرانية، يؤكد أن الخلافات الداخلية تظل أعمق مما يتصور كثير من المراقبين، وثمة من يتوقع أن تعصف بالكثير من مساحات الاتفاق المرحلي الذي كانت فصائل الساحة السياسية الأوكرانية توصلت إليه حين نجحت في الإطاحة بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش في فبراير (شباط) الماضي.
من هذا المنظور يتوقع كثير من المراقبين ومنهم سيرغي ماركوف مدير معهد الدراسات الاستراتيجية في موسكو الذي قال في تصريحاته لـ«الشرق الأوسط» إن الفترة القريبة المقبلة لا بد أن تشهد انفراط عقد هذه الأوساط واحتدام الخلافات التي من المتوقع أن تنعكس نتائجها السلبية على مجمل الأوضاع في الداخل الأوكراني. وأضاف ماركوف أن «أوكرانيا نفسها تظل معرضة للزوال ولا أحد يمكن أن يصدق ما يقوله زعماؤها حول مستقبل لدولة أوكرانية». وأشار إلى ما قاله الرئيس بوروشينكو في مؤتمره الصحافي الأخير حول الانتخابات البرلمانية في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، مؤكدا أن هذه الانتخابات بالذات لا بد أن تكشف كثيرا من خلافاته مع رئيس حكومته ارسيني ياتسينيوك ورئيس البرلمان الحالي ألكسندر تورتشينوف، ومعهما ارسين اوفاكوف وزير الداخلية متعهد طواغيت المال ممن يمولون كل العمليات القتالية في جنوب شرقي أوكرانيا. وإذا أضفنا إلى كل ذلك، الخلافات التي تتصاعد الآن مع ممثلي الجبهة الشعبية التي تشكلت من حزب باتكفشينا (الوطن) بزعامة «أميرة الثورة البرتقالية» يوليا تيموشينكو وكذلك رموز الأحزاب القومية المتشددة ومنها أوليج تياجنيبوك زعيم حزب سفوبودا (الحرية)، وديمتري ياروش زعيم حركة «القطاع الأيمن»، ممن يتزعمون محاولات إرغام الرئيس بوروشينكو على التراجع عن قرار حول منح الحكم الذاتي للانفصاليين في إطار الدولة الأوكرانية، فإننا سنكون أمام صورة بالغة القتامة تنذر بصراعات يمكن أن تقوض ما تحقق من استقرار هش، بعد توقيع اتفاقات مينسك حول وقف إطلاق النار والتحرك صوب التسوية السياسية مع جنوب شرقي أوكرانيا. وبهذه المناسبة قال ماركوف أيضا إن بوروشينكو يحاول الحديث مع كل من الأطراف المعنية باللغة التي تتسق مع توجهاته، وهو ما لا بد أن يسفر في نهاية المطاف عن انفجار الخلافات، ومنها ما يتعلق بما قد ينجم عن محاولة تطبيق ما أعلنه حول «التطهير السياسي» و«مكافحة الفساد». وبهذه المناسبة يبدو ما يشبه الإجماع حول صعوبة تطبيق قانون «التطهير الحكومي» وإبعاد كل من كان يعمل مع النظام السابق، نظرا لأن الجميع تقريبا خرجوا من معطف هذا النظام وفي مقدمتهم الرئيس بوروشينكو ورئيس حكومته ياتسينيوك. وكان الجدل قد اشتعل في أوكرانيا حول احتمالات تطبيق قانون التطهير في المؤسسات الحكومية الذي أعلن عنه بوروشينكو في مؤتمره الصحافي من منظور أنه يجب أن يشمل كثيرا من العاملين في الرئاسة والحكومة منذ تسعينات القرن الماضي. وفي تصريحاته إلى «الشرق الأوسط» انتقد سيرغي ماركوف عضو مجلس الدوما السابق ومدير معهد الدراسات الاستراتيجية ما طرحه بوروشينكو تحت عنوان «استراتيجية 2020» التي تستهدف صياغة عقد اجتماعي جديد بين المجتمع والسلطة ورجال الأعمال. وقال إن الخلافات حول التهدئة التي أعلنها بوروشينكو ستعصف بكثير من أركان هذه الاستراتيجية، مما قد يسفر عن الحاجة إلى انتخابات رئاسية جديدة. وبهذه المناسبة لم يستبعد الرئيس الأوكراني في مؤتمره الصحافي احتمالات خروج الجماهير إلى الشارع في مظاهرات جديدة قال إنه يأمل أن تكون «إيجابية» مؤيدة لتوجهاته، وهو ما يكتنفه غموض كثير. على أن هناك من المؤشرات ما يقول أيضا إن الانتخابات البرلمانية المقبلة تحمل في طياتها كثيرا من مقدمات الفرقة والتي تمثلها الشعارات المتطرفة التي يرفعها خصوم الرئيس بوروشينكو من رفاق الماضي في حزب باتكفشينا وفصائل القوميين المتطرفين ممن وقفوا إلى جواره إبان رحلة الانقلاب على الرئيس السابق يانوكوفيتش. ومن اللافت أن هذه الشعارات تنادي بإلغاء ما اتخذه بوروشينكو من قرارات تستهدف تحقيق التهدئة ووقف إطلاق النار في جنوب شرقي أوكرانيا والاستجابة لبعض طموحات سكان هذه المناطق في الحكم الذاتي واستخدام اللغة القومية.
وكان الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف أعرب أيضا عن مخاوفه من احتمالات اشتعال «حرب باردة جديدة» في الوقت الذي يتابع العالم الكثير من فصولها. وأعاد غورباتشوف إلى الأذهان ما فعله الغرب معه حين خدعه بوعود كانت تقضي بعدم تقدم الناتو إلى أبعد من الحدود الشرقية لألمانيا الغربية، مما يؤكد الحذر والحرص تجاه كل ما تقوله الولايات المتحدة على حد قوله.
وقد أصاب فرانك شتاينماير وزير خارجية ألمانيا حين قال صراحة إن «الحل السياسي للأزمة الأوكرانية لا يزال وشأنه في السابق بعيد المنال، ولا أوهام تراودنا حول ذلك». ويذكر الجميع أن الأوضاع كانت حتى الأمس القريب قاب قوسين أو أدنى من اندلاع حرب «ضروس» ثمة من كان يتوق شوقا لأن تنجرف إليها روسيا المجاورة، كما سبق وأشار يفجيني بريماكوف. لكن موسكو وبدلا من أن تقدم على ارتكاب «خطأ العمر»، نجحت في نزع فتيل المواجهة بما قدمته من أفكار التف حولها وزراء خارجية روسيا وألمانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي في برلين، وبما سمح لاحقا ببدء اجتماعات مجموعة الاتصال الثلاثية في مينسك في 5 و9 سبتمبر (أيلول) الماضي بمشاركة ممثلي روسيا والاتحاد الأوروبي ممن نجحوا في تقريب مواقف الأطراف المتنازعة من كييف وجنوب شرقي أوكرانيا.
وإذا كان لافروف وزير الخارجية الروسية أعلن صراحة أن «أوكرانيا تبدو ضحية لسياسات الغرب»، فإنه عاد وأشار إليها على نحو أكثر صراحة ووضوحا، حين قال في معرض تعليقه على خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما والذي تضمن تصنيفه لروسيا بوصفها من أهم الأخطار التي تهدد العالم ووضعها في مرتبة سابقة للإرهاب الدولي: «إن هذا الخطاب يعكس رؤية أميركية للعالم شدد فيها مرارا على استثنائيته هو وبلاده.. رؤية بلاد سجلت في عقيدتها للأمن القومي حقها في استخدام القوة حسب هواها، بغض النظر عن القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والقوانين الدولية الأخرى»



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.