تركيا.. الخوف من «المستنقع السوري»

أنقرة تخشى ارتدادات عربية لدخول جيشها إلى سوريا.. واتفاق أضنة السر الكبير

تركيا.. الخوف من «المستنقع السوري»
TT

تركيا.. الخوف من «المستنقع السوري»

تركيا.. الخوف من «المستنقع السوري»

ليس الحشد العسكري التركي، عند الحدود السورية، هو الأول من نوعه في تاريخ العلاقات بين البلدين الجارين في التاريخ والجغرافيا، القريبين في التركيبة الاجتماعية والدينية، والمتباعدين في السياسة. ولأن العلاقات الحميمة بين البلدين، التي نسجها رجب طيب إردوغان (رئيس الوزراء التركي آنذاك) مع الرئيس السوري بشار الأسد، كانت «استثناء» وليست القاعدة، فسرعان ما انتهى الود الذي لم يدم طويلا ليعود التنافس والعداء الرسميان إلى سابق عهدهما.
الحشد العسكري الأول كان في عهد رئيس الوزراء الراحل عدنان مندريس، وهو أول الأتراك الإسلاميين في «جمهورية أتاتورك». ففي عام 1958، أرسلت تركيا جنودها إلى الحدود مع سوريا، مهددة باجتياح أراضيها بسبب ما قالت إنه الدعم الكبير من النظام السوري لمقاتلي تنظيم حزب العمال الكردستاني. لكن الغزو لم يحدث، إذ تدخل أكثر من طرف لمنع المواجهة.
أما الحشد العسكري الثاني فكان بعد ذلك بأربعين سنة، وللسبب نفسه تقريبا، إذ هددت أنقرة بغزو الأراضي السورية بذريعة الدعم السوري للتنظيم، وإيواء زعيمه عبد الله أوجلان. آنذاك نفى الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد أن يكون أوجلان في سوريا، لكن منذ أن غادر تركيا في عام 1980، لجأ إلى سوريا، التي سهلت له ولقياداته الإقامة في لبنان الذي كانت تسيطر عليه آنذاك سياسيا وعسكريا، فأقيمت له مراكز تدريب في سهل البقاع اللبناني، أقفلت في وقت لاحق ليختفي أوجلان بعد أن رفعت أنقرة من ضغوطها على دمشق. وقد وصلت هذه الضغوط إلى ذروتها في عام 1989. ويقول وسيط اطلع على مسار هذه الأزمة إن الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك كان قد انتقل إلى دمشق حاملا التحذير التركي. وقيل إنه التقى الرئيس السابق حافظ الأسد باسم القيادة التركية ليطالبه بتسليم أوجلان، فكان رد الأسد أن أوجلان ليس في سوريا، ليعود الجانب التركي فيزود مبارك بصورة لأوجلان خارجا من منزله القريب من السفارة الإماراتية في دمشق، ثم تظهر الحشود التركية على الحدود مع سوريا، ويقال إن القوات التركية قد دخلت بالفعل جزءا من الأراضي السورية انطلاقا من نقطة غازي عنتاب الحدودية.
عندها اتخذ الأسد الأب قرارا بالتضحية بأوجلان لصالح تحسين العلاقة مع تركيا التي رأى فيها سندا مهما لخليفته بشار الذي كان يتهيأ للحكم. غادر أوجلان إلى روسيا، لكنه سرعان ما أعيد إلى أوروبا، فحلّ في إيطاليا ضيفا على الحكومة التي يتمتع فيها الشيوعيون بنفوذ قوي، ثم إلى اليونان التي كانت تحظى بعلاقات مميزة مع روسيا، قبل أن يغادر إلى أفريقيا نتيجة الضغط التركي والمطالبة بتسليمه. وأخيرا استطاعت الاستخبارات التركية القبض عليه في مطار نيروبي في عملية لا يزال يكتنفها الغموض، ويقال إن الاستخبارات الإسرائيلية لعبت دورا كبيرا فيها.
وانتهت الاجتماعات التي عقدت في وقت لاحق، وبوساطة مصرية وإيرانية، إلى اتفاق أضنة الشهير الذي نظم العلاقة بين الطرفين. وينص هذا الاتفاق في الجزء السري منه على حق تركيا في ملاحقة «الإرهابيين» داخل الأراضي السورية وحتى مسافة 5 كيلومترات، ويقال إن هذا الاتفاق نص أيضا على وقف المطالبة السورية بإقليم هاتاي الحدودي التركي الذي تسكنه غالبية ناطقة بالعربية، وكانت سوريا تعده حتى ذلك الحين «أرضا محتلة».
وقد توج هذا التحرك بزيارة مبارك إلى أنقرة في أكتوبر (تشرين الأول) 1998 على رأس وفد أمني وسياسي كبير للاجتماع مع الرئيس التركي سليمان ديميريل، ورئيس وزرائه بولاند إيجويد، حاملا معه موافقة النظام السوري على المطالب التركية كلها، بما في ذلك تنازل دمشق عن مطالبتها بلواء إسكندرون. وانتهت زيارة مبارك إلى أنقرة بصياغة مسودة للاتفاقية مع 4 ملاحق سرية يقال إن من بينها حق التوغل، والتنازل عن المطالبة باللواء «السليب» كما كان يوصف في الإعلام السوري.
ويقول متابعون، إن الأسد الأب، كان يريد إنهاء ملف الخلاف مع تركيا بأي ثمن من أجل تعبيد الطريق أمام نجله في الحكم، خصوصا أن حاله الصحية كانت في تدهور مستمر، وهو يريد أن يورثه استقرارا لا نزاعا ولهذا وافق على كل الطلبات التركية، التي ازدادت في مرحلة التوقيع لتعطي الأتراك المزيد من المكاسب
بعدها دخل الطرفان في شهر عسل طويل، كان خلاله الرئيس التركي الحالي رجب طيب إردوغان يصر على مناداة الأسد بـ«شقيقي»، إلى أن أتت الأزمة السورية، فحاول الأتراك التدخل لدى الأسد، ليذهبوا بعد فشلهم إلى الخصومة معه، ثم إلى العداء بعد تفاقم الأزمة.
ومع بداية الأزمة السورية، طرحت تركيا موضوع «المنطقة الآمنة» في الشمال السوري لحماية المعارضين السوريين من غارات طيران النظام، وهو سلاح التفوق الرئيس، وفيما كان المعارضون السوريون يأملون بالتدخل العسكري التركي، وقف الأتراك مترددين، حيال ما قالت مصادر تركية آنذاك إنه الخشية من تداعيات دخول الجيش التركي أراضي عربية. كما أن ضغوطا هائلة مورست من قبل روسيا وإيران على تركيا، تلا ذلك تحريك ملف تنظيم «الكردستاني» الذي اتهمت أنقرة سوريا باستدعاء قادته من الخارج وتأمين موطئ قدم لهم في سوريا.
وما زاد المخاوف التركية من نوايا دمشق، هو إقدام الجيش السوري على الانسحاب السلس من المناطق ذات الغالبية الكردية، في رسالة واضحة لأنقرة تفيد بإمكانية قيام كيان كردي مستقل على حدودها، قد يثير شهية أكرادها بعد استقلال جزئي لأكراد العراق.
ويشير ينار دونماز مدير مكتب جريدة عقد في أنقرة إلى أن «تركيا تطالب بإنهاء جميع المنظمات الإرهابية وليس داعش فقط، وكان هذا جليا في خطاب رئيس الجمهورية إردوغان عندما تساءل لماذا فقط التحالف ضد داعش مع أنه يوجد حركات إرهابية أخرى في سوريا والعراق، ولهذا السبب تريد تركيا أن تكون ضمن مكونات التحالف للقضاء على الإرهاب وإعادة الاستقرار للمنطقة».
وأكد دونماز لـ«الشرق الأوسط» أن «تركيا ليست بدولة جانبية في المنطقة بل هي دولة عريقة تاريخيه لها مكانتها في العالم العربي والإسلامي». وقال: «كما أعلن رئيس الوزراء داود أوغلو أنه من حق تركيا أن تنظر إلى مصالحها الوطنية، وبناء على هذا تتخذ تركيا مواقفها وتخط خريطة طريقها، ولا يمكن لتركيا أن تقبل أي ضغوطات خاصة من أميركا لأننا نعد سياستنا حسب المبادئ والمصالح التركية، فمثلا تركيا اتخذت مواقف مغايرة للغرب وأميركا حول الانقلاب في مصر وحول ما يجري في العراق وسوريا لأن المتضرر بعد تلك الدول مباشرة ليس الغرب وإنما تركيا». وأضاف: «حسب معلوماتي فإن خريطة الطريق التي ستتبعها الحكومة حتى الآن غير جاهزة وحتى مسودتها لم تعد بعد، لأنها ستتشكل بعد اجتماع رئيس الأركان مع أعضاء الحكومة، كما أن مستشار المخابرات سيذهب إلى القصر الجمهوري ليقدم تقريرا عن الوضع لرئيس الجمهورية ومن ثم سيلتقي مع داود أوغلو وأيضا سيناقش داود أوغلو مع إردوغان آخر التطورات ومن ثم سيناقش البرلمان تمديد فترة مذكرة إرسال الجيش لخارج الحدود باختصار ستشهد هذا الأسبوع أنقرة الكثير من الاجتماعات الحساسة التي سيترتب عليها موقف وقرارات الحكومة». ولكن دونماز أعرب عن اعتقاده أن تركيا لن تشارك بقواتها البرية لدخول الأراضي العربية، لأنه لن يقتصر على ردود فعل مؤقتة بل سيكون لها ردود فعل يمكن أن تستمر لعدة قرون، عادا أن «التدخل البري للجيش التركي لن ولم يخدم المصالح الوطنية التركية قط، كما أن قادة الجيش التركي لا يرغبون في دخول وحل مناطق الصراع في المنطقة، ولكن تركيا ستقوم بمساندة القوات البرية الأجنبية التي يمكن أن تخوض الحرب البرية بالدعم اللوجستي فقط، وستقوم تركيا بالسماح باستخدام القواعد البحرية للطيران الأجنبي وأنا أؤكد أن تركيا لن تتدخل بأي شكل من الأشكال في الوضع الداخلي لكل من سوريا والعراق، ولكن تركيا ستقوم بالرد على أي تجاوز لحدودها فقط».
ويقول مصطفى أونال، الكاتب في صحيفة زمان المعارضة، أن هناك احتمالية كبيرة تشير إلى أن الجيش التركي ربما يقوم بعملية عسكرية على الجانب الآخر من الحدود إذا ما جرت الموافقة على إحدى المذكرتين المعروضتين على البرلمان، وأن المنطقة «العازلة» أو «الآمنة» ستكون داخل الأراضي السورية وليست على الأراضي التركية، وهذه هي أطروحة تركيا، غير أن هذه الأطروحة لم تحصل على دعم المجتمع الدولي حتى الآن، وكانت الولايات المتحدة أعلنت أن إقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية لا تندرج ضمن أولوياتها، ومن الصعب جدًا أن تنجح تركيا في القيام بهذه المهمة دون قرار من الأمم المتحدة ودعم من واشنطن، وحينها سيقع على عاتق الجيش التركي «تأمين» المنطقة العازلة المحتملة، وهذا يتطلب مذكرة من البرلمان التركي، ويمكن أن نفسر تصريحات زعيم المعارضة التركية كيلتشدار أوغلو على أنها بمثابة «لا» في وجه هذه المذكرة من الآن. وليس من الصعب أن نخمن أن المذكرة الأخرى لن تقول «الحرب» صراحة، وستتضمن هذه المذكرة وجوب استعداد الجيش التركي لمواجهة أي احتمال ممكن.
ويشير أونال إلى وجود تعارض بين رئيسي الجمهورية والوزراء. ويقول: «في الوقت الذي يتصرف فيه رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو بحذر، نجد أن الرئيس إردوغان يؤيد فكرة الحرب»، موضحا أن المذكرة التي ناقشها البرلمان التركي قبيل الحرب على العراق في مارس (آذار) 2003، وكان إردوغان، الذي كان وقتها قد تولى رئاسة حزب العدالة والتنمية، متقدمًا بخطوة عن حكومته، وكان من أكثر المتحمّسين للموافقة على المذكرة. أما داود أوغلو، الذي كان مستشارًا آنذاك، فكان ضد هذه المذكرة، ولم يكن من السهل أن يوافق حزب العدالة والتنمية على مذكرة تتضمن في الوقت نفسه الخيار العسكري، ولا شك في أن نواب الحزب في البرلمان سيفكرون كثيرًا قبل أن يوافقوا على المشاركة في حرب محتملة ضد داعش في صف الولايات المتحدة. أما وضع النواب الأكراد فمثير؛ إذ إنهم في الوقت الذي كانوا فيه قريبين من رفض مذكرة مارس 2003، فإنهم هذه المرة قريبون من الموافقة على المذكرة لقتال داعش.
ويتهم معارضو تركيا، الأخيرة بأنه دعمت تنظيم «داعش» وسواه من الحركات المتشددة، بغية إحباط أي حلم انفصالي كردي في سوريا. وهذا قد يفسر أيضا الحروب التي شنتها المعارضة السورية المدعومة من أنقرة ضد الأكراد، وعداء الآخرين لهؤلاء في المقابل.
واتهم الأكراد السوريون - والأتراك، أنقرة بأنها دفعت التنظيم المتشدد إلى اجتياح مناطقهم مؤخرا بغية القضاء على الإدارة الذاتية التي أنشأوها، وقد لوح هؤلاء بأن عملية السلام التركية - الكردية التي بدأت قبل عامين، سوف تنهار لهذا السبب.
وقال عضو المجلس التنفيذي لاتحاد الجماعات الكردية مصطفى كاراصو، فيما يتعلق بعملية السلام الحالية بين الحكومة والعمال إن زعيم المنظمة عبد الله أوجلان هو من أطلق هذه المرحلة عبر خطابه التاريخي يوم عيد النيروز في عام 2013، مطالبا الحكومة باتخاذ خطوات جدية من أجل تحقيق الديمقراطية في البلاد، غير أنها لم تتخذ أي خطوات جدية إزاء ذلك سوى أنها طالبت باستمرار الوضع الحالي وإنهاء الاشتباكات والتخلي عن السلاح وانسحاب المقاتلين من الأراضي التركية، من دون تنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
وأكد كاراصو أن الحكومة لم تتخذ أي إجراء حقيقي لإنهاء الصراع، ولم تظهر أي تقارب فيما يخص المفاوضات، داعيًا إياها إلى إبداء مرونة في المفاوضات واتخاذ خطوات جدية لإنهاء الصراع، وإلا فإن موقفها الحالي سيزيد من حالة التوتر.
وكان النائب المستقل بالبرلمان التركي إدريس بال، الذي يُعدّ أحد الخبراء في الشؤون الأمنية والمنظمات الإرهابية، حذر الحكومة التركية والمجتمع الدولي من المبادرات الرامية إلى فتح الطريق أمام منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية وإضفاء الشرعية عليها في الوقت الذي استنفر فيه العالم لمكافحة منظمة إرهابية أخرى، هي تنظيم «داعش».
ويقول دونماز إن تركيا عانت لعدة عقود من الإرهاب وما ترتب عليه، وتعد من أكثر دول العالم التي تضررت من الإرهاب، ولكن اليوم المنطقة تعيش حالة من الفوضى لم تشهدها منذ 10 أعوام والسبب في ذلك تنظيم داعش ومقاتلوه.
وأضاف: «الهجوم الذي شنه داعش على مناطق شمال سوريا ترتب عليه هجرة عشرات الآلاف من سوريا إلى تركيا وهذا يؤثر تأثيرا مباشرا على الدولة التركية ويجعلها تغير موقفها من داعش». أما السبب الثاني فهو - يضيف دونماز - أن «لتركيا علاقات تجارية واقتصادية هائلة جدا مع سوريا والعراق، ولكن بسبب سيطرة داعش على مناطق شاسعة من البلدين توقفت هذه التجارة مما أدى إلى انعكاسات سلبية على الاقتصاد التركي. واستمرار هذا الوضع الفوضوي وسيطرة داعش وإرهابه على المنطقة سيكبد الاقتصاد التركي يوميا خسائر فادحة، ولهذا تركيا مجبرة على أن تكون ضمن هذا التحالف ضد داعش، كما أن تركيا تمتلك أطول حدود مع سوريا والعراق بقرابة 1400 كلم ومن غير الممكن أن تسمح بأن يكون داعش هو المسيطر على تلك الحدود».



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.