شهيد أم قتيل؟

شهيد أم قتيل؟
TT

شهيد أم قتيل؟

شهيد أم قتيل؟

لم يكن هذا الخلاف قد احتدم في الإعلام العربي حتى منتصف التسعينيات الفائتة، حين ظهرت هذه الفضائية الرائجة، ورمت أحجاراً كثيرة ثقالاً في مختلف البرك، وراحت تخلط التقنية المبهرة بالمهنية المصطنعة بالخط السياسي للممول، مازجة كل هذا بنمط محدد من التأويل الديني.
برز الخلاف على استخدام لفظ «شهيد» في مقابل لفظ «قتيل» ضمن التغطيات الإخبارية مع صعود دور وسائل الإعلام العربية ذات نطاق التغطية والبث الإقليميين Pan Arab Media؛ إذ كمن هذا الخلاف لعقود في ظل توافق إعلامي بين الوسائط ذات الارتكاز الجغرافي المحلي مفاده: «نستخدم لفظ شهيد عند وصف قتلانا وقتلى حلفائنا، ولفظ قتيل لقتلى أعدائنا وغير المتحالفين معنا».
لم يكن نطاق البث المحلي قادراً على إثارة المعضلة أو تفجير الجدل بشأنها، في ظل منظومات إعلامية سلطوية، تستخدم خطاباً خبرياً أقرب إلى الدعاية، ولا تستهدف غير مجتمعاتها، وهو الأمر الذي تغير عندما بات بعض الوسائط قادراً على مخاطبة مجتمعات ودول متباينة في مصالحها ومواقفها ومتصارعة أحياناً.
في أجواء الانقسام الفلسطيني، وما صاحبه من معارك في غزة، في صيف عام 2007. أمكنني أن أقرأ هذا النص على شريط تلك القناة الرائجة الإخباري: «استشهاد فلسطيني ومقتل ثلاثة آخرين في غزة». وفي التفاصيل، ظهر أن هذا الفلسطيني الذي أنزلته القناة منزلة «الشهيد» قُتل إثر تداعيات قصف إسرائيلي، أما الثلاثة الذين لم يحظوا سوى بمنزلة «القتيل»، فقد سقطوا في «صراع الإخوة» الذي اندلع بين «فتح» و«حماس».
اتبعت القناة تأويلاً دينياً محدداً، لم يُحسم الجدل بشأنه أبداً، ثم خلطته بالموقف السياسي الذي تريد أن تظهر فيه، وراحت تمنح بعض ضحايا النزاع رتباً، وتصنفهم، وتحكم على مصائرهم في الدنيا والآخرة.
في القرآن الكريم، ثمة عدد من الآيات التي تستخدم لفظ قتيل بوضوح عند الإشارة لمن «قُتل في سبيل الله»؛ مثل الآية الكريمة: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»، وغيرها الكثير؛ وهو أمر يعني أن استخدام لفظ «قتيل» عند الإشارة إلى ضحايا العمليات العسكرية في أي سياق لا يجب أن يكون سبباً للاحتجاج والنقد، ولا ينطوي على أي مس أو تقليل من قيمة الشخص الذي وُصف بهذا الوصف، ولا المعنى الذي مات من أجله، حتى إنه ورد في القرآن الكريم أيضاً: «وَمَا محمد إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ».
لا يمكن اعتبار الخلاف حول «شهيد» في مقابل «قتيل» خلافاً مهنياً، إنما هو خلاف سياسي، وربما يعززه أن بعض الوسائل يختار مقاربة مهنية تستخدم الوصف الأخير عندما يخص الأمر دولاً ومجتمعات أخرى، بينما يلوذ بالعُرف الآمن، ويستخدم وصف «شهيد» عندما يكون الضحايا تابعين للدولة التي تصدر عنها الوسيلة.
ليست تلك مشكلة هذين الوصفين وحدهما، ولا هي معضلة شرق أوسطية حصرية؛ إذ ظهرت معضلات مشابهة مع الحوادث الكبرى التي ضربت المجتمعات الغربية أيضاً، وانشغلت وسائل إعلام دولية مرموقة سنيناً في محاولة فض الاشتباك بين مصطلحات مثل: إرهابي ومسلح، وحكومة ونظام، وجهادي ومقاتل، و«داعش» و«تنظيم داعش».
وجد بعض النقاد إنصافاً في وصف «سي إن إن» الظواهري بأنه «زعيم تنظيم القاعدة»، وتأكيد «رويترز» على أنها لن تصف المشتبه بهم في تنفيذ «غزوة منهاتن» بـ«الإرهابيين»، لكن معظم هؤلاء لم يرتح لوصف «فرنسا 24» لـ«داعش» بـ«تنظيم داعش»، والشاهد أن تلك المشاعر سياسية وليست مهنية.
ثمة قاعدة أساسية يجدر بالصحافي المهني أن يتبعها عند التنميط Labeling، ومفادها أن الوصف الذي نطلقه على «أسماء العَلَم» والعمليات، من أجل التوضيح، يجب أن يكون قابلاً للإثبات، وغير قابل للدحض العلني، ولا ينطوي على تأثير غير موضوعي في مركز الموصوف القانوني أو المعنوي.
ولأن الأخبار تتغير ومعها معطيات الوصف؛ فإن وسائل الإعلام الكبرى تصدر أدلة تحريرية Editorial guidelines وأدلة أسلوب Style Guides تحدد فيها هذه القواعد، وتوضح المصطلحات التي ستستخدمها في التنميط، وتشرح الأسباب، كما أنها تجري بانتظام اجتماعات تحريرية رفيعة المستوى لحسم بعض الاختلافات التي ترد ضمن التغطيات المتسارعة للأحداث الطارئة، التي لا تتوقف عن طرح المعضلات على الصحافيين.


مقالات ذات صلة

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
إعلام الدوسري أكد أهمية توظيف العمل الإعلامي لدعم القضية الفلسطينية (واس)

السعودية تؤكد ضرورة تكاتف الإعلام العربي لدعم فلسطين

أكّد سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي أهمية توظيف العمل الإعلامي العربي لدعم قضية فلسطين، والتكاتف لإبراز مخرجات «القمة العربية والإسلامية» في الرياض.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
المشرق العربي الهواتف الجوالة مصدر معلومات بعيداً عن الرقابة الرسمية (تعبيرية - أ.ف.ب)

شاشة الجوال مصدر حصول السوريين على أخبار المعارك الجارية؟

شكلت مواقع «السوشيال ميديا» والقنوات الفضائية العربية والأجنبية، مصدراً سريعاً لسكان مناطق نفوذ الحكومة السورية لمعرفة تطورات الأحداث.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

السعودية تؤكد ضرورة تكاتف الإعلام العربي لدعم فلسطين

الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)
الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)
TT

السعودية تؤكد ضرورة تكاتف الإعلام العربي لدعم فلسطين

الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)
الدوسري مترئساً اجتماع المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب (واس)

أكّد سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي، الاثنين، أهمية توظيف العمل الإعلامي العربي لدعم قضية فلسطين، والتكاتف لإبراز مخرجات «القمة العربية والإسلامية غير العادية» التي استضافتها الرياض مؤخراً.

وشددت القمة في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، على مركزية القضية الفلسطينية، والدعم الراسخ للشعب لنيل حقوقه المشروعة، وإيجاد حل عادل وشامل مبني على قرارات الشرعية الدولية.

وقال الدوسري لدى ترؤسه الدورة العادية الـ20 للمكتب التنفيذي لمجلس وزراء الإعلام العرب في أبوظبي، أن الاجتماع يناقش 12 بنداً ضمن الجهود الرامية لتطوير العمل المشترك، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، بمشاركة رؤساء الوفود والمؤسسات والاتحادات الممارسة لمهام إعلامية ذات صفة مراقب.

الدوسري أكد أهمية توظيف العمل الإعلامي لدعم القضية الفلسطينية (واس)

وأضاف أن الاجتماعات ناقشت سبل الارتقاء بالمحتوى الإعلامي، وأهم القضايا المتعلقة بدور الإعلام في التصدي لظاهرة الإرهاب، وجهود الجامعة العربية في متابعة خطة التحرك الإعلامي بالخارج، فضلاً عن الخريطة الإعلامية العربية للتنمية المستدامة 2030.

وتطرق الدوسري إلى استضافة السعودية مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة للتصحر «كوب 16»، وقمة المياه الواحدة، وضرورة إبراز مخرجاتهما في الإعلام العربي، مؤكداً أهمية الخطة الموحدة للتفاعل الإعلامي مع قضايا البيئة.

وأشار إلى أهمية توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في الإعلام العربي، واستثمار دورها في تعزيز المحتوى وتحليل سلوك الجمهور، داعياً للاستفادة من خبرات «القمة العالمية للذكاء الاصطناعي» في الرياض؛ لتطوير الأداء.