سلبيات وإيجابيات في تاريخ الدولة العثمانية

TT

سلبيات وإيجابيات في تاريخ الدولة العثمانية

النقاش حول تاريخ الدولة العثمانية، التي برزت منذ العام 1300م، وانتهت مع نهاية الحرب العالمية الأولى 1918، هو نقاش مستمر ومفتوح. لقد كانت هذه الدولة إمبراطورية عالمية، خلّفت شعوباً أصبحت تتوزع على 30 دولة، كانت جميعها تخضع للحكم العثماني. وكان هناك تباين بين المؤرخين حول تقييم تجربة هذه الإمبراطورية. فهناك من يعتبر المؤسسات والقوانين والإطارات السياسية والإدارية والعسكرية السائدة فيها، سبباً في صون اللغات المحلية والديانات. وبالتالي لم تحصل عثمنة أو أسلمة قسريتان، والدليل على ذلك استمرار اللغات اليونانية والبلغارية والعربية والأرمنية والعربية وغيرها، وكذلك استمرار الديانتين المسيحية واليهودية. ولكن هناك من يركز في التاريخ العثماني على أعمال قهر للسكان وأعمال عنف بحق مسلمين غير سنة في هذه الدولة، وكذلك بحق مسيحيين من طوائف مختلفة (أرمن، سريان، مجاعة الموارنة في جبل لبنان)، كما أن الصرب عندما هُزموا أمام الفتح العثماني بيع عدد كبير منهم عبيداً.
على صعيد آخر، يركز باحثون آخرون أن حماية «أهل الذمة»، من غير المسلمين، كانت القاعدة في الدولة العثمانية، مع الملاحظة أن هؤلاء الرعايا كانوا يعتبرون ذوي مكانة أقل شأناً من مكانة الرعايا المسلمين، والاضطلاع بمسؤوليات معينة كانت محظورة عليهم.
إن تقييم الدولة العثمانية من الخارج لا يكفي، بل يجب العمل على تقييمها من الداخل، انطلاقاً من الأرشيف الضخم الذي تركته هذه الإمبراطورية. ويعتبر المؤرخ الكبير فرنان بروديل أن الاطلاع على الأرشيف العثماني يغير شيئاً فشيئاً النظرة التقليدية والقديمة لهذه الدولة.
وعلى إثر الرسالة التي وجّهها الرئيس اللبناني العماد ميشال عون بمناسبة بدء الاحتفال بالذكرى المئوية لإعلان «دولة لبنان الكبير» في ظل الانتداب الفرنسي (في أول أيلول 1920)، وأشار فيها «إلى إرهاب الدولة الذي مارسه العثمانيون على اللبنانيين خصوصاً خلال الحرب العالمية الأولى...». تتالت الردود، وبخاصة من مفتي الجمهورية اللبنانية السابق د. محمد رشيد قباني الذي قال: «اعلم يا فخامة الرئيس أن النيل من دولة الخلافة العثمانية التي كانت تمثل الإسلام والمسلمين في العالم في أيامها... هو بالمقارنة كالنيل من دولة الكنيسة في روما...». واعتبر أستاذ جامعي (الدكتور حسان حلاق) أن الدولة العثمانية دولة إسلامية مفترى عليها... وأنه من الظلم أن نحكم على الدولة العثمانية من خلال آخر 4 سنوات لها، أي 1914 – 1918 لأن حكام هذه الفترة هم من القوى العلمانية والماسونية والدونمة واليهود، وغالبية قوى «الاتحاد والترقي» ليسوا من أصل إسلامي ولا عثماني ولا تركي.
إن البحث الموضوعي في تاريخ هذه الدولة يؤدي إلى ملاحظة كثير من السلبيات، وكثير من الإيجابيات. ولا يمكن في مقال سريع اختزال هذه الأمور. ولكن بالنسبة إلى الذاكرة التاريخية عند أغلب الطوائف اللبنانية فثمة محطات راسخة في «لا وعي» جماعات هذه الطوائف...
1 - بالنسبة لطائفة الموحدين الدروز، فقد تعرضت على امتداد القرن السادس عشر النواحي ذات الأكثرية الدرزية لحملات تأديبية قاسية من قبل السلطة المركزية. ودفاتر المهمة العثمانية فيها كثير من التقارير عن قتال السلطة المركزية مع الدروز على امتداد القرن الـ16. فالحكم السلطاني أصدر أمراً في 21 جمادى الآخرة 976 ه - (11 ديسمبر - كانون الأول 1568) بجمع قادة الدروز في مكان واحد وإلقاء القبض عليهم وتأديبهم. ولقد أبرزت هذه الأوامر أن هناك ما يشبه حرب استنزاف بين النواحي الدرزية والسلطة العثمانية. وأن هناك رفضاً من قبل هذه النواحي لدفع الضرائب العادية المفروضة كما أن هناك عصياناً على أوامر الاستنفار العسكري.
2 - بالنسبة للطائفة الشيعية، ثمة مصادر كثيرة أوردت الخسائر البشرية التي أصابت هذه الطائفة مع مطلع الفتح العثماني سنة 1516.
ويورد محمد جابر آل صفا أنه في عام 1780 «اكتسحت جنود الجزار البلاد وأحرقت القرى ودمرت المنازل. وشحن ما في مكاتب جبل عامل من التآليف والمخطوطات النادرة حيث أحرقت في عكا... وأسرف رجاله في ذلك الشعب قتلاً وذبحاً وقبض على فريق من الوجهاء. فأماتهم خنقاً في سجون عكا وشرد من بقي إلى البلاد المجاورة».
وفي حدود العام 1694 حصل عصيان وتمرد شيعي في بعض المناطق اللبنانية. فما كان من القوات العثمانية إلا أن تدخل إلى القرى الشيعية الخالية عادة من سكانها الفارين، ولا تتركها إلا رماداً، بعد نهب ما تصل يدها إليه تنفيذاً للأوامر السلطانية.
3 - أما بشأن المسيحيين عموماً، والموارنة خصوصاً، فصحيح أن الدولة العثمانية احترمت تقاليد الحكومات الإسلامية السابقة مع غير المسلمين لجهة اعتبارهم من «أهل الذمة». وفي كثير من المؤلفات وصف لما كان يقوم به كثير من ولاة الدولة بهدف إذلال فئة من الرعية. فتارة يتم فرض الضرائب الفاحشة، وتارة يضطهدونهم ويعذبونهم. وكم من مرة طاردت السلطة العثمانية رجال الدين المسيحيين، فأرغمتهم على الاختفاء في المغاور أو السفر إلى أوروبا أو الهجرة إلى قبرص ولبنان.
إن أخطر ما حصل مع سكان متصرفية جبل لبنان القرار المركزي من قيادة الاتحاد والترقي بفرض المجاعة على جبل لبنان خلال الحرب العالمية الأولى خوفاً من التنسيق مع قوات الحلفاء، وهذا ما ذكره المتصرف أوهانس قيومجيان في مذكراته التي نشرت مؤخراً في باريس. وأغلب الدراسات ترجح وفاة ثلث الشعب اللبناني بسبب تلك المجاعة.
4 - مع تصاعد حركة التتريك، بدل العثمنة، تصاعدت الانتماءات القومية في الدولة العثمانية. وكانت مشانق جمال باشا للنخب المسيحية والمسلمة على السواء، هي المؤشر للانفصال والبحث عن المواطنة في إطار العروبة أو اللبنانية.
على صعيد آخر، يجدر بنا أن نلاحظ، انطلاقاً من دراستنا للإحصاءات العثمانية، أن الوجود الديمغرافي المسيحي عام 1516 كان يتوقف عند خط بكفيا – بيت شباب في جبل لبنان، وعند الفرزل في البقاع. ولكن خلال قرنين تمدد هذا الوجود المسيحي ووصل إلى رميش وعين إبل والقليعة جنوباً، ووصل إلى راشيا وحاصبيا جنوب البقاع.
من جهة أخرى، وفّرت الإدارة العثمانية للبنانيين حرية إنشاء المدارس والمطابع وحرية الصحافة نسبياً، حتى إن أحمد فارس الشدياق كان – من خلال صحيفته «الجوائب» – الناطق باسم السلطنة في إسطنبول.
كما أن مشاركة المثقف الماروني خليل غانم في وضع دستور الدولة العثمانية عام 1876 لها دلالاتها لجهة احترام تنوع الملل في السلطنة. وكذلك الأمر بالنسبة لتسلم سليمان البستاني مسؤولية الوزارة قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وقد استقال بسبب معارضته لها. وله كتاب مهم حول إصلاح الدولة «عِبرة وذكرى».
صحيح أن الدين الإسلامي كان العقيدة الرسمية في النظام السياسي والاجتماعي وكانت الشريعة هي الموجه للقوانين المدنية والجزائية والدستورية. وكان السلطان يجسد السيادة العليا للشريعة. ولكن في القرن التاسع عشر حاولت الدولة العثمانية أن تدخل إصلاحات سميت «بالتنظيمات».
ومع ثورة كمال أتاتورك تم فصل الإسلام عن الدولة. وأصبحت تركيا دولة علمانية قانوناً ودستوراً. وقد أدان مصطفى كمال أتاتورك المجازر التي قام بها النظام العثماني بحق الأرمن وغيرهم. وهكذا فإن الإدانة والاتهام يجب ألا تشمل الشعب التركي، في كل الحقب. بقدر ما يجب التركيز على الإدانة في أحداث معينة وفترات معينة وأشخاص معنيين.
وانطلاقاً من كل ذلك ندعو الجميع أن يستعينوا، في صياغة مواقفهم، بمستشارين أكفاء، كما ندعو المشيدين بفضائل الدولة العثمانية أن يحترموا الحقائق والوقائع التاريخية ويتذكروا أن الشعب التركي تخلى وأدان أخطاء الدولة العثمانية.

- أستاذ تاريخ الدولة العثمانية سابقاً في الجامعة اللبنانية



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.