أبناء السودان التائهون

رواية «تراتيل منسية» لعماد البليك

- ناقد وشاعر سوداني
- ناقد وشاعر سوداني
TT

أبناء السودان التائهون

- ناقد وشاعر سوداني
- ناقد وشاعر سوداني

في روايته الجديدة «تراتيل منسية» (صدرت هذا العام عن دار أطلس بالقاهرة) لا يسرد الروائي السوداني عماد البليك، حيوات سودانية لعائلات من اليهود المنسيين في إطار الثيمة التقليدية التي وسمت الاغتراب الأبدي لليهود، عبر تمثيلات حياة «الغيتو» في مجتمعات الأغيار، فحسب، بل يتأمل خلال السرد، هوية إنسانية عابرة لمعنى التيه حين يكون فردياً ومتذرراً على حياة مجموعة من اليهود يعجز كل واحد منهم عن تفسير تناقضاتها في العيش بين حدود قصوى لبلدين وجغرافيتين!
تنفتح ثيمات الهوية اليهودية في هذه الرواية على أفق إنساني؛ بداية بعنوان الرواية الذي يضمر استعارة توراتية، ومروراً بالعتبة النصية في الإهداء: «إلى كل تائهٍ يبحث عن أرضه، نفسه، وأمله»، حيث أمثولة الحكاية هنا تضمر عنواناً ذا دلالة تاريخية لليهود، تفضي بالقارئ إلى تمثيلات مركبة لشخصيات الرواية المغتربة.
تسلط الرواية الضوء على يهود منسيين عانوا اغتراباً مزدوجاً في إسرائيل (التي هاجروا إليها من السودان خلال السبعينات من القرن العشرين) ففيما يعرف المجتمع الإسرائيلي مهاجرين يهوداً عرباً؛ كاليهود المصريين، أو المغاربة، أو العراقيين، لا توجد دالة تعريفية لليهود السودانيين هناك، كأن اغتراب الهوية السودانية عربياً أصبح جزءاً لا يتجزأ من هويتهم في إسرائيل! من فندق «دان بانوراما» بمدينة يافا تتداعى ذكريات بطلة الرواية سوسو (نجمة الأكروبات الإسرائيلية والمدربة الوطنية الأولى لألعاب السيرك في إسرائيل) عن ماضيها السوداني من نافذة الذكريات.
الذكريات؛ ذكريات سوسو، وذكريات والدها، وذكريات يهود آخرين، هي تقنية الاسترجاع التي يتوسلها عماد البليك ليجعل لشخصياته الروائية المغتربة زمناً آخر هو زمن الرواية، في حين يراوح السرد برشاقة عبر تقاطعات أزمنة الواقع. بعد الفصل الأول، ترتد أحداث الرواية إلى مشهد من أواخر القرن التاسع عشر متتبعة سبب الوجود الأول لعائلة باروخ جولدشناين في السودان، عندما جاء الجد الأول باروخ مترجماً في صحبة جيش كتنشنر البريطاني الغازي.
يمارس عماد البليك تقنية التقطيع من خلال بورتريهات متناظرة في الفصول بأسماء الشخصيات الساردة، حيث يتوزع عليها السرد ويتداخل فيها الزمن الروائي، تضمر الحكاية، التي تتوالى مشاهدها متقطعة عبر الأزمنة والأمكنة: (الخرطوم ويافا في إسرائيل وتل أبيب) عالماً من الذكريات المتناظرة، فالزمن الحاضر يبدو تخصيصاً لحكاية الذكريات هنا وهناك. ومن خلال ذلك الزمن تنسرد أزمنة أخرى.
الشخصية المركزية في الرواية سوسو هي الأكثر حضوراً عبر سعيها وراء حلمها لتصبح نجمة ألعاب «الأكروبات» التي ازدهرت فرقتها السودانية خلال عقد السبعينات، والتي وجد عمر الأزرق (مدرب فرقة الأكروبات السودانية وفيلسوفها) في جرأتها وذكائها وبياضها؛ حلماً لطالما راوده في تدريب نجمة سودانية بمواصفات فتاة بيضاء موهوبة، فعمر الأزرق عبر ملاحظاته العميقة في فلسفة الأكروبات وعلاقتها بالجسد والفن وألعاب الخفة، استطاع أن يجعل من سوسو حلماً ممكناً وحباً مستحيلاً في الوقت ذاته: «سوسو... هي صورة المرأة الحلم التي كنت أراها في منامي والتي هربت مني ذات يوم... كنت مقتنعاً أنني سألتقي بها» ص 111.
تأخذ سوسو مساحة كبيرة في الرواية، تنتهي في الفصل قبل الأخير بعودة غامضة لها إلى الخرطوم، ليسدل ستاراً على مصيرها، بعد تفاصيل رحلة نجاح مطردة مع الأكروبات في الصين صحبة عمر الأزرق، لكن القارئ سيكمل مغزى بداية قصة سوسو في أول الراوية؛ بما يفسر له نجاح قصتها المبتورة في نهايتها لغرض أراده الراوي العليم؛ حين كسر تسلسل الأحداث وختم الرواية بتلك النهاية المفتوحة،
تحكي سوسو حيواتها في السودان عبر استغراق ذاتي لسيرة مغتربة. فوطأة الزمن الدائري على عالم البيت في سبعينات القرن الماضي، بعد وفاة والدتها، جعل من طبيعة العلاقة مع والدها (أستاذ سياسات الشرق الأوسط بالجامعة العبرية فيما بعد) مشوبة بالتمرد. تحاصرها العزلة، لكن من غير أفق للحياة فيما هي في مرحلة مراهقة وانطلاق، «فأن تكوني صبية جميلة ومتحررة في أسرة تحاصرك بالعزلة يبدو ذلك صعباً جداً وقاسياً» ص 10.
في السبعينات، حين كان السودان منفتحاً اجتماعياً، كانت بدايات الانهيار تتكشف مع نظام الجنرال نميري الذي انقلب على السلطة في نهاية عقد الستينات، وألغى الحياة الديمقراطية بعد ثورة أكتوبر (تشرين الأول) عام 1964، ومع قرارات التأميم الاشتراكي للمؤسسات الخاصة، كان والد سوسو، رغم اندماجه في المجتمع كأحد أثرياء الخرطوم، من ضحايا ذلك النظام، لكنه لم يفقد الأمل متوسماً في ابنته الوحيدة سوسو أن تتخرج مهندسة ليستعيد ما فقده بقرار تأميم الممتلكات. وإن كان باروخ، في قرارة نفسه، يحدس بأن ذلك التغيير المفاجئ لحياة الخرطوم هو بداية لانهيار كبير في مصير المدينة:
«هذه المدينة نسيج بدأ يفقد رونقه، روعته الأولى... ترهل هذا النسيج... السودان القديم الذي تركه الإنجليز بدأ يغيب تماماً ونظام الألفة لم يعد هو» ص 40. ورغم الحالة المنسية في المجتمع الإسرائيلي العام لأفراد اليهود السودانيين، فإن الحساسية والاحتياط في دفن حيواتهم القديمة في السودان، ظل هاجساً. في حين بدا ذلك عسيراً على باروخ الذي تشرب الحياة السودانية إلى درجة التماهي. كانت الحياة السودانية لباروخ جزءاً من هويته التي أحبها، ولتأكيد هذه العلاقة الحميمة، يدرج عماد البليك إشارة تاريخية في أحداث الرواية عن فنان سوداني معروف (الموسيقار عبد الكريم الكابلي) بوصفه أحد أصدقاء باروخ المقربين.
يبدو عقد السبعينات واضحاً في نسيج الرواية المتصل برصد يوميات الحياة المنطلقة في الخرطوم؛ ماركات السيارات الإنجليزية، الأندية الليلية، بنات الهوى في شارع الجمهورية، والسمت البيروقراطي لهوية كبار الموظفين الذين يتسكعون ليلاً في شارع الجمهورية بسيارات مرسيدس فارهة؛ ذلك ما ترصده ذاكرة سوسو في فندق «دان بانوراما» في حين تطل على تلك الحياة من خلال شرفة المنزل التي ولدت فيه بشارع الجمهورية.
تعكس الرواية تصميماً مقصوداً لمعنى التيه كحالة مضاعفة أو مزدوجة. وهي حالة لا تنطبق إلا على يهود السودان الذين كان تعدادهم 1000 يهودي، في حين تجاوز تعدادهم في بعض دول العالم العربي كالمغرب 270 ألفاً.
في ختام الرواية، يتساءل المؤلف: «يهود السودان الذين تفرقوا في الأرض، أغلبهم باتوا ناجحين في مناصبهم الجديدة... هل فقدهم أم فقدوه؟» ص 250.
وإزاء سؤال كبير كهذا، ينهض سؤال آخر حيال الشروط التي حكمت منطق التفسير السياسي العدمي للأنظمة العروبية في الخمسينات؛ باتخاذها قرار عمليات تهجير اليهود من بلدانهم العربية (بعد أن ظلوا في بعض تلك البلدان لأكثر من ألف سنة) ـ وما إذا كانت تلك العمليات قائمة على منطق أو سوية موضوعية.
ذلك أن إلغاء حيوات مواطنين وإهدار تاريخهم الاجتماعي فقط بحجة مواجهة احتلال إسرائيلي غربي - وفقط، بحسبان أولئك المواطنين اليهود «صهاينة محتملين» وفق ذلك المنطق العدمي الأعمى؛ هو الذي جعل اغتراب اليهود السودانيين بخاصة اغتراباً مضاعفاً. فعبارة «أنا سوداني أكتر منكم» التي لطالما رددها اليهودي السوداني «جولدمان»، كلما شك بعض السودانيين في سودانيته (بسبب بشرته البيضاء) كانت كاشفة في دلالتها الحارقة على الانتماء إلى السودان.
هناك خيوط للواقع متذررة في ثنايا النص المتخيل للرواية، فالواقع يحضر هنا في أكثر من قصة، لكن حين أدرج المؤلف، في ثنايا نصه الروائي، اسماً لشخصية واقعية لا تزال على قيد الحياة (الفنان السوداني الكبير عبد الكريم الكابلي الذي يعيش في أميركا اليوم، وكان قد صرح مؤخراً بأن له جذوراً يهودية) كان يشي بكثير من تكرار تذكر الأسى الذي يمكن أن يتخيله الفرد حين يتعين عليه إخفاء هويته، فقط لكونه مختلفاً لوناً أو ديناً، كما يشي بعجز الآيديولوجيا عن تعميم رواياتها الرسمية مهما اشتغلت على ذلك بقوة السلاح، وأن الأصول هي الأصول ولن تتغير.



الفن التشكيلي السعودي بين الموجود والوجود

الفنانة لولوة الحمود
الفنانة لولوة الحمود
TT

الفن التشكيلي السعودي بين الموجود والوجود

الفنانة لولوة الحمود
الفنانة لولوة الحمود

إن الفن، بوصفه أداة تعبيرية متقدمة، يُمكِّن الإنسان من تجسيد مكنوناته ومشاعره، التي تظلّ عصيّة على الفهم بغير وسيلته. فالفن ليس مجرد كلمة أو صوت أو لون أو حجر، بل تجاوز لمادية هذه الأدوات واستخدامها لتعبر عن شيء آخر؛ هو التعبير المجازي، ليحمّلها معنى آخر. وهذا الأمر هو ما يستثير المتلقي، ويحيله لمعان وخبرات أو ذكريات وانفعالات أخرى. إن هذه المعاني التي يثيرها الفن هي ما تمنحه القدرة على التأثير، وهي ما تمثل جوهره وحقيقته وانفتاحه على معان عديدة وحقيقة متوارية، يمكن اكتشافها مراراً.

إن ما يميز الفن كما جاء في وصف «مارتن هايدغر»، تعبيره عما يتجاوز الموجودات؛ فهو يعبر عن العدم والوجود والحالات الإنسانية العميقة والمعقدة كالقلق، وهذه تعبيرات يصعب على العلم تفسيرها أو إدراكها.

لوحة (أحذية الفلاحين) لفنسنت فان جوخ

«أحذية الفلاحين»

وكمثال على المعنى الذي ذكره هايدغر عن الفن، لوحة فان جوخ «أحذية الفلاحين»، فهذه اللوحة ليست مجرد نقل مباشر وسطحي للواقع أو المشهد، بل كشفٌ عن كفاح الفلاح ومعاناته وتعبه وسيره في الحقول. لم تكن اللوحة تصويراً لشيء جميل أو نافع، كانت كشفاً عن حقيقة تتوارى خلف الحذاء، حقيقة الطبقة الكادحة، وسعيها الدائم في الحياة.

ومن اللوحات التي نجد فيها أيضاً هذا التعبير الوجودي العدمي أو عن حالة القلق، «المتأمل فوق بحر الضباب» لكاسبر ديفيد فريدريش، حيث تعكس هذه اللوحة شعور الرهبة والجلال أمام عظمة الطبيعة والخلق وضآلة الإنسان. وكذلك «الصرخة» الشهيرة لإدفارد مونخ، التي تعد أيقونة ورمزاً للقلق الوجودي، وحظيت باهتمام نقدي وفني واسع، وتناولتها بحوث ودراسات مستفيضة.

حقيقة الفن تكمن في قدرته على صياغة الأسئلة الكبرى وهو ما يتطلب مزيداً من التعمق والجرأة الفكرية

هل نجد أعمالاً فنية تعكس هذا التعبير الوجودي في الفن التشكيلي السعودي؟

اتجه الفن السعودي في تاريخه الحديث بشكل واضح للتعبير عن القضايا المجتمعية، والتاريخ والهوية، أو الجماليات الشكلية، وهذه التوجهات بطبيعتها هي محاولات تفسير أو تعبير للموجود - وليس الوجود - وهذا لا ينفي البتة حضور أعمال فنية تتبنى المفهوم الوجودي الذي طرحه هايدغر، ولكنها أقل تداولاً قياساً بالأعمال التي تحمل طابعاً اجتماعياً أو جمالياً مباشراً.

الفنان محمد السليم

ولعل تجربة الفنان محمد السليم قد عكست إلى حدٍ ما هذا القلق، وإن لم يكن قلقاً وجودياً، بقدر ما هو قلق وبحث عن معنى الأصالة التي تميز الثقافة السعودية. لقد مثلت تجربة السليم محاولة لإيجاد جوهر يميز الثقافة والفن السعودي بعيداً عن الاستنساخ الغربي، فقلقه الوجودي ينعكس في سياق ثقافي في تناوله الفراغ الصحراوي، واغتراب الذات في عالم الحداثة، فهو لا يسأل من خلال أعماله عن معنى أن يكون إنساناً، بقدر ما يسأل عن معنى أن يكون فناناً سعودياً أصيلاً، وهي تجربة قلق عميقة.

(المتأمل فوق بحر الضباب) لكاسبر ديفيد فريدريش

وتعد أعمال الفنانة لولوة الحمود بالمثل أحد أبرز الأمثلة في الفن السعودي المعاصر التي تتجاوز التعبير عن القضايا الاجتماعية والإسقاطات المباشرة والتعبير عن الحدث الزائل. فهي تبتعد عن تصوير الموجودات، والأشياء المحددة بزمان ومكان، وتتجه نحو الوجود الكوني المطلق الذي لا يحده شيء، لتلامس الأبعاد الجمالية والكونية، عبر تصويرها للمحال أو المستحيل الذي لا وجود له في الطبيعة، ولتعبر عن العقل والفكر وما يكمن وراءه (الباطن). وهي بذلك تنطلق من مرجعية دينية وروحانية عميقة، متجاوزة القلق العدمي بمفهومه الغربي، لتحتضن بدلاً منه الوحدة الروحية الكونية.

يُظهر مشهد الفن التشكيلي السعودي إمكانية كبيرة لتجاوز التعبير المباشر، فحقيقة الفن تكمن في قدرته على صياغة الأسئلة الكبرى. وهو ما يتطلب مزيداً من التعمق والجرأة الفكرية للارتقاء بالعمل الفني من مجرد موجود إلى وسيلة للكشف عن الجوهر الوجودي.

* كاتبة وناقدة سعودية


«البيت الفارغ» الفائزة بجائزة الغونكور... رحلة في أعماق الذاكرة العائلية

لوران موفينييه
لوران موفينييه
TT

«البيت الفارغ» الفائزة بجائزة الغونكور... رحلة في أعماق الذاكرة العائلية

لوران موفينييه
لوران موفينييه

فاز الروائي الفرنسي لوران موفينييه بجائزة الغونكور إحدى أرفع الجوائز الأدبية في فرنسا عن روايته «البيت الفارغ» (دار نشر مينوي)، حيث حصل على الجائزة من الدورة الأولى للتصويت بستة أصوات مقابل أربعة أصوات للكاتبة البلجيكية كارولين لامارش عن روايتها «الغامض الجميل»، في قرار وصفه فيليب كلوديل رئيس أكاديمية الغونكور على أمواج إذاعة «فرانس إنفو» بأنه «تحية لكاتب يملك إرثاً أدبياً مهماً للغاية».

غلاف الرواية الفائزة

تمتد رواية «البيت الفارغ» على مدى 750 صفحة من السرد المُحكم، يبدأ عام 1976 عندما يعيد والد الراوي فتح منزل ظلّ مهجوراً لفترة طويلة، كاشفاً عن آثار ماضٍ مدفون: آلة البيانو، وسام شرف، وصور فوتوغرافية مشوّهة، من خلال هذا الاكتشاف، ينسج موفينييه ملحمة عائلية تمتد عبر ثلاثة أجيال من النساء الفرنسيات اللواتي عشن تحولات القرن العشرين المضطربة: ماري - إرنستين، الجدّة الكبرى للراوي، موسيقيةٌ قُمِعت مواهبُها وحُرِمت من تحقيق ذاتها الفنّية، يرمزُ إليها البيانو المهجور في البيت. ثم تأتي مارغريت، الجدّة التي عانت من وصمة العار بعد أن حُلِق شعرُها عقاباً لها في زمن التحرير، فانزوت في عزلةٍ مريرةٍ حتى أُزيل وجهُها من جميع الصور العائلية بمقصٍّ حادٍّ أو طُمِس بقلمٍ غاضب. أمّا الشخصية الثالثة فهي جان - ماري، الزوجة السلطوية التي تحوَّلت من مجرّد امرأةٍ مُكلَّفةٍ بالمُربّيات وترقيع الجوارب إلى سيّدةِ البيت الحازمة وحارسةِ المظاهر الاجتماعية. وحول هؤلاء النسوة يدور رجالٌ كفيرمان صاحب المزرعة الأصلي، وجول الجدّ الأكبر المُتوفّى في الحرب العالمية الأولى والحائز وسام جوقة الشرف، وأندريه زوج مارغريت الذي عاد من الأسر مُحطَّماً فاقداً لصوابه. يُحرِّك هذه الشخصيات جميعاً صوتُ الراوي الذي يكتشف في عام 1976 أسرارَ عائلته المدفونة في ذلك البيت الذي ظلَّ مُوصَداً عشرين عاماً، ليُعيد بناء ذاكرةٍ جماعيةٍ مُمزَّقة بين الحروب والصمت والخيبات المتوارثة.

تتجاوز رواية «البيت الفارغ» كونها مجرد سرد عائلي، لتصبح شهادة حية على تحولات فرنسا الريفية والعمالية خلال القرن العشرين. يشرح موفينييه أن قصته العائلية تشبه قصة ملايين الفرنسيين، بمناطقها المظلمة وأجزائها الأكثر مجداً، حيث تستحضر أهوال الحربين العالميتين، وحرب الجزائر، وتأثيرها المدمر على الأجيال المتعاقبة. النساء يلعبن دوراً محورياً في السرد لأنهن «من يحملن العبء، كما كان الحال غالباً في الأرياف وبالأخص في أوقات الحرب».

عدّ موفينييه هذه الجائزة «إشارة ساخرة» لأصوله الاجتماعية البسيطة، حيث وُلد في السادس من يوليو (تموز) عام 1967 في مدينة تور، في أحضان أسرة عمالية بسيطة تضم خمسة أطفال استقرت في مدينة ديكارت بإقليم توران غرب فرنسا. والده كان عامل نظافة، وأمه خادمة في المنازل.

كانت طفولة لوران موفينييه محطّة حاسمة في تكوين وعيه الأدبي. ففي الثامنة من عمره، دخل المستشفى لفترة طويلة، وهناك تلقّى هدية غيّرت مجرى حياته: نسخة من رواية «شيطان صغير طيّب» للكونتيسة دو سيغور. فكانت تجربة قوية ومؤثرة: زرعت فيه رغبة عارمة في الكتابة، وفي الإبداع، حتى وهو طريح الفراش.

ولم تكن تلك المرة الوحيدة التي عرف فيها الكاتب الفرنسي المستشفيات. فطفولته كانت مطبوعة بالأمراض المتكررة والزيارات الطبية المتعددة. وكان يحتفظ من تلك الفترة بذكريات مريرة أهمها: الاستعلاء والتكبّر اللذان كان يبديهما الأطباء تجاه أمّه البسيطة. ثم جاءت الصدمة الكبرى. في عام 1983، عندما كان لوران في السادسة عشرة من عمره، أقدم والده على الانتحار. وبعد عقود، عندما شرع في كتابة روايته الضخمة «البيت الخالي»، عادت المحنة الصحية لتطرق بابه، حيث كتب جزءاً من هذا العمل الروائي البالغ سبعمائة صفحة وهو يصارع مرض السرطان، وكان غالباً ما يكتب من على سرير المستشفى.

استقبلت الصحافة الثقافية الفرنسية الرواية بحماس منقطع النظير. حيث أشادت مجلة نوفيل أوبس بالرواية، قائلة إن موفينييه حرّر النساء من قيودهن، ومنحهن النعمة والعدالة والمجد. صحيفة «لو بوان» وصفت الرواية بأنها «عمل يُعيد كل بريقه للأدب الفرنسي، بالجمع بين جواهر تاريخه وجرأة حداثته»، فيما عدّتها مجلة «ليزانروكس» «واحدة من أجمل روايات الموسم الأدبي... ونصاً لا يشبه أي نص آخر». صحيفة «لو فيغارو» عدّتها «واحدة من أعظم روايات القرن الحادي والعشرين»، مؤكدة أن موفينييه بلغ ذروة فنه الروائي مع هذا العمل الاستثنائي.

في الموقع الأدبي «في انتظار نادو»، وصف هوغو براديل في مقال بعنوان «مقاومة الأدب» رواية «البيت الفارغ» بـ«الرواية القوية»، وما يميزها ليس فقط عمق الموضوع، بل براعة الأسلوب، فنصّ الرواية يتميز بجُمل طويلة متدفقة تذكّرنا بأسلوب مارسيل بروست، يتلاعب فيها الكاتب بالزمن السردي ببراعة منقطعة النظير، متنقلاً بين الماضي والحاضر في حركة دائرية. وبالنسبة لصحيفة «لوموند»، الرواية رواية شاملة لأنها مع احتفاظها ببنيتها وقصتها الخاصة، تُلخّص جميع أعمال المؤلف السابقة. هذا التكثيف الأدبي يجعل من «البيت الفارغ» عملاً تأسيسياً في مسيرة موفينييه الإبداعية ومن بين أعماله المشهورة «بعيداً عنهم» (1999)، و«رجال» عن ذكريات حرب الجزائر، و«قصص الليل» (2020).

وقد بيع من رواية «البيت الفارغ» نحو 82.000 نسخة قبل الإعلان عن الجائزة، ومن المتوقع أن تشهد مبيعاتها ارتفاعاً هائلاً بعد وضع الشريط الأحمر لجائزة الغونكور على غلافها. هذا النجاح يأتي في وقت حرج لصناعة النشر الفرنسية التي تواجه تحديات اقتصادية. توماس سيمونيه، مدير دار نشر مينوي التي نشرت الرواية، وصف الفوز بأنه «أجمل شيء يمكن أن يحدث لدار نشر مينوي»، مؤكداً أن هذا التتويج يعني قبل كل شيء «انتصار الأدب».


سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي

سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي
TT

سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي

سر جاذبية إرث جلال الدين الرومي

يتناول دكتور حمدي النورج، أستاذ النقد وتحليل الخطاب بأكاديمية الفنون المصرية، في كتابه «الخطاب العرفاني – مقاربات حضارية»، الصادر عن دار «إضاءات» بالقاهرة، سر جاذبية إرث الشاعر والصوفي الشهير جلال الدين الرومي الذي عاش متنقلاً بين بلاد مختلفة قبل أن يستقر به الحال في تركيا منذ أكثر من سبعة قرون، ولا تزال أصداء أقواله تترد حتى اليوم.

ويُقصد بـ«الخطاب العرفاني» التعبير عن تجارب روحية ذات بعد صوفي باطني تتجاوز الماديات ومشاغل الدنيا والتخفف من أعباء وشهوات الجسد وترويضه لتحقيق رغبة الذات في العلو والاستكبار.

ويشير النورج إلى أنه يمكن على نحو ما من الإيجاز وصف خطاب الرومي بكونه يعتمد على أمرين: التسامح تجاه الآخر الغالب، ومهادنته حتى لا يُكسر نفسياً أمامه في لحظة انهيار عام، ومن هنا تتجلى قدرته على اجتياز حاجز اللغة والثقافة ليذيع صيته في جميع أنحاء العالم، ومن ثم فإن مقولاته باتت أكثر تعاطياً لبساطة التركيب ووضوحه مع لون التمثيل المفرط داخل الخطاب.

وربما تولدت خصوصية تجربته من رحلة الألم والمعاناة لأسباب تاريخية؛ منها اجتياح المغول للبلاد الإسلامية وما خلف ذلك من القتل والدمار، لقد أخذ هذا الحدث اهتماماً بالغاً لدى جلال الدين الرومي ليقدم حلاً لهذه المعضلة بلغة تحمل تحدياً تجاه الألم، فبينما يهرب الإنسان منه ينظر شاعرنا إلى الألم بعدّه ينطوي على شىء إيجابي ويدعو إلى احتضانه ومغالبته واستقباله كلطف من الله تختفي تحته ألوان من القهر.

كذلك يدعو الرومي إلى أن يخرج الإنسان من أسر الزمان، المصدر الثاني للهم والألم الذي يشغله بالماضي والمستقبل، ومن ثم يدعو إلى تحرر الإنسان من ذلك، فلا أحداث فائتة يندم عليها ولا أشياء قادمة تثير قلقه بشكل مبالغ فيه.

والشيء الثالث الذي يميز الرومي، بحسب المؤلف، هو مغالبة الأنا التي تريد العلو والسيطرة والنأي عن بذل الجهد. وعندما يتم التخلص من رغبة الإرادة في السيطرة والظهور يستوي الأخذ مع العطاء ومن ثم يذهب الألم. ويرى الرومي أن المسؤولية الأولى للإنسان هي المقاومة والنضال، سواء داخلياً أو خارجياً، من أجل التخلص من الألم عبر جهاد النفس والسيطرة عليها.

ويدعو الرومي إلى الصبر للتغلب على الألم، والصبر عنده هو «شهوة الأذكياء» و«الحلوى المفضلة لديهم»، كناية عن سهولته والتسليم بقضاء الله مع التفويض والتضرع إليه حتى يأتيه الفرج، لعل هذه المعارف فيها دواء ناجع للتغلب على منغصات الأمور.

وليس هناك أبلغ من تلك القصة التي يذكرها جلال الدين الرومي توضيحاً لمذهبه وطريقته، فيحكي في حكاية «النائم والحية» أن رجلاً كان نائماً تحت ظل إحدى الأشجار وقد فتح فاه، فإذا بحية متجهة نحوه حتى وصلت إليه ودخلت بطنه وهو لا يزال مستغرقاً في النوم. وفي تلك الأثناء صادف أن مر من هناك رجل صالح ممتطياً فرسه ولم يجد الفارس بداً من أن ينهال على النائم ضرباً بعصاه فاستيقظ الأخير وهرع مسرعاً نحو شجرة كان قد سقط تفاحها، فأمره الفارس بأكله حتى التخمة.

وعاد الفارس ليضربه بالعصا مجدداً فاستمر الرجل بالركض وهو يصيح شاكياً: «أيها الجبان لماذا تضربني وتظلمني، فلينتقم الله منك!». وإذا به يتقيأ كل ما في بطنه بما فيه تلك الحية. هنا أدرك الرجل مدى رأفة وشهامة ذلك الفارس الصنديد، فوقف أمامه بكل احترام وتواضع وشكره على لطفه ونسي كل ذلك الضرب المبرح والألم والأنين.

ويرى الرومي في تلك القصة أمثولة وبعداً رمزياً لافتاً حول الخير الذي يأتي في صورة الشر وكيف ينفر المرء من أشياء فيها نجاته، بل يقاومها بقوة ويحارب من يطلقونها، ظناً منه أنهم أعداؤه.