اللاعبون الأساسيون في السياسة الإسرائيلية في ضوء انتخابات الكنيست الـ22

لا حكومة في المدى القريب

اللاعبون الأساسيون في السياسة الإسرائيلية في ضوء انتخابات الكنيست الـ22
TT

اللاعبون الأساسيون في السياسة الإسرائيلية في ضوء انتخابات الكنيست الـ22

اللاعبون الأساسيون في السياسة الإسرائيلية في ضوء انتخابات الكنيست الـ22

المهمة الأولى في إسرائيل الآن، بعد انتخاب الكنيست الـ22 هي تكليف أحد زعيمي الكتلتين الأكبر؛ بيني غانتس، أو بنيامين نتنياهو، تشكيل الحكومة المقبلة. غير أن المسألة المعقدة حقاً هي أن هناك عدة لاعبين في الساحة الحزبية يؤثرون على رئيس الدولة، رؤوبين ريفلين، في اتخاذه القرار، بينهم أفيغدور ليبرمان، وأيمن عودة، ومجموعة لاعبين يتحركون في الخفاء سيحسم أحدهم اللعبة.
مَن هو هذا اللاعب المرشح لحسم النتيجة؟ ما أوصافه وحساباته؟ وهل سيفلح... أم أن نتنياهو سيتمكن من حرق كل الأوراق عبر إشعاله حرباً ما تؤدي إلى تأجيل كل شيء، بما في ذلك تأجيل محاكمته بتهمة الفساد؟
ينشغل متابعو السياسة الإسرائيلية منذ ظهور نتائج انتخابات الكنيست (البرلمان) الـ22. في هوية وشكل الحكومة المقبلة، وبحق. فالسياسة الإسرائيلية باتت تؤثر على حيّز أوسع بكثير من شؤون الدولة العبرية الصغيرة. وصارت ذا تأثير على الشرق الأوسط وحتى بعض جوانب السياسة الدولية.
لكن هذه الحكومة لن تقوم في القريب، لأن نتائج الانتخابات أسفرت عن وضع شائك يحمل سمات الأزمة. ورئيس الدولة، رؤوبين ريفلين، صاحب صلاحية تعيين رئيس حكومة مكلف، حائر أكثر من الجميع. فلديه مرشحان لهذا المنصب، هما: خصمه اللدود رئيس الحكومة الحالي وزعيم «الليكود» بنيامين نتنياهو، ورئيس حزب الجنرالات «كحول لفان» (أزرق - أبيض)، بيني غانتس.
مشكلة ريفلين الأولى أن نتنياهو وجه له صفعة مجلجلة، ويمكن القول إنها مهينة، في الانتخابات قبل الأخيرة التي أجريت في 9 أبريل (نيسان) الماضي. ففي حينه، كلف ريفلين نتنياهو تشكيل الحكومة، لكنه فشل في مهمته. ومن ثم، كان عليه أن يعيد كتاب التكليف لرئيس الدولة كي يلقي بالمهمة على عاتق نائب غيره في «الكنيست». لكن نتنياهو التفّ على ريفلين، ولجأ إلى خدعة سياسية كانت بمثابة ضربة لمكانة وهيبة رئيس الدولة. إذ مرّر قانوناً معجّلاً في الكنيست حل بموجبه البرلمان نفسه، ما جرّ البلاد إلى انتخابات أخرى، وهو الأمر الذي لم يحدث من قبل في تاريخ السياسة الإسرائيلية.
وهكذا، فالقضية الآن هي: هل سيعيد ريفلين هذه التجربة... ويكلف نتنياهو مرة أخرى؟
حسب القانون، على ريفلين إجراء مشاورات مع قادة الأحزاب ليستمع منهم إلى توصياتهم بشأن هوية رئيس الحكومة المقبل، حسب وجهات نظرهم. فإذا كان هناك 61 توصية على أحد النواب سيكون رئيس الدولة ملزَماً بتكليفه لتشكيل الحكومة. ولكن، إذا لم يكن هناك 61 توصية، فإن القانون يتيح له أن يعين نائباً آخر يعتقد أنه قادر على تنفيذ هذه المهمة. وهنا يعطيه القانون مساحة واسعة لتحديد رئيس الحكومة المكلف. بناءً عليه، فإن كل الأنظار متجهة حالياً نحو ريفلين. ويخشى نتنياهو أن يصدر القرار بهذا الشأن بدافع من رغبة الانتقام منه، علماً بأنه كان قد اتهم ريفلين قبل شهرين بأنه يتآمر عليه مع أحد نواب «الليكود»، جدعون ساعر، الذي يحاول الإطاحة بنتنياهو من رئاسة «الليكود».
ريفلين، من جهته، قرر البدء في المشاورات مع قادة الكتل البرلمانية سريعاً، مع أن لديه مشكلة كبرى. فنتائج الانتخابات لم تعطِ صورة واضحة وقاطعة، واللاعبون في الحلبة السياسية الإسرائيلية اليوم لا يساعدونه على اتخاذ القرار الصحيح. ولكن من هم اللاعبون الأبرز:

بنيامين نتنياهو (الليكود)
بنيامين نتنياهو، رغم نكسته بالأمس، يظل أخطر اللاعبين في الحلبة؛ فنتائج الانتخابات دلت بوضوح على انخفاض قوته الحزبية والشعبية بصورة كبيرة، إذ دخل الانتخابات وهو يرأس كتلة برلمانية تضم 39 نائباً («الليكود» بـ35 مقعداً، وحزب «كلنا» برئاسة وزير المالية موشيه كحلون بـ4 مقاعد)، ومعه حزب جديد يدعى «موريشت» بقيادة موشيه فغلين، الذي أقنعه نتنياهو بأن ينسحب من المعركة ويدعو الناس إلى التصويت لـ«الليكود» مقابل قطع وعد له بأن يعينه وزيراً. وعليه، إذا قدّرنا قوته بمقعدين اثنين، يكون نتنياهو خاض المعركة بـ41 مقعداً. ولكن النتائج دلت على أنه حصل على 31 مقعداً فقط، أي أنه خسر 10 مقاعد.
جاءت خسارة نتنياهو لعدة أسباب:
أولاً، هو الذي تسبب بإعادة الانتخابات والجمهور يعاقب عادة من يجره إلى انتخابات زائدة، كلفتها تقارب مليار دولار أميركي.
وثانياً، خسر نتنياهو أصوات الإثيوبيين، فقبل ثلاثة شهور قتلت الشرطة شاباً إثيوبياً لأسباب تافهة، وأثار هذا الحادث غضباً شديداً على الشرطة والحكومة.
وثالثاً، خسر نتنياهو أصوات سكان البلدات اليهودية المحيطة بقطاع غزة، لأن هؤلاء يشعرون بأن نتنياهو فشل بوقف صواريخ «حماس». وهم يتهمونه بأنه يجري مفاوضات للتفاهم مع «حماس»، ويسمح لقطر بتمويلها بقيمة 30 مليون دولار تدخل إلى القطاع في كل شهر، ومع هذا، الصواريخ لم تتوقف.
ورابعاً، بدأت وسائل الإعلام تنشر مقاطع من بروتوكولات التحقيق مع نتنياهو وبقية المتهمين والشهود في ملفات الفساد الموجهة ضده، وفيها تفاصيل مذهلة عن مستوى الفساد ورخصه. وعلى سبيل المثال، كشفوا كيف اتصلت زوجته سارة، ذات مرة، من القدس، بجارها الثري في بلدة قيساريا الساحلية، وطلبت منه أن يرسل لها صابونة حلاقة في يوم السبت. فتساءل: «أنت تريدينني أن أرسل إليك صابون حلاقة من قيساريا إلى القدس اليوم (السبت)؟ ألا يوجد عندكم صابون حلاقة حقّاً؟ فأجابته: هل تريد أن يخرج رئيس الحكومة من البيت من دون صابون حلاقة؟»، فأرسل إليها الصابون بسيارة أجرة خاصة. وتوجد مثل هذه القصص وأكثر.
وخامساً، الجمهور بدأ يمقت نتنياهو ويشعر بضرورة تغييره.
رغم كل هذا، نتنياهو لا يستسلم. فهو يعرف بأنه في حال خسارة منصبه في رئاسة الحكومة سيجلس في قفص الاتهام بسبب ملفات الفساد الثلاثة المفتوحة ضده. وهو لذا يسابق الزمن. ففي الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، سيعقد المستشار القضائي للحكومة جلسة استماع له، ليقرّر بعدها توجيه أو عدم توجيه لائحة اتهام ضده. والمقرّبون من الملفات يؤكدون أن المستشار أبيحاي منلبليت، كان يتمنى أن يستطيع منح حبل النجاة لنتنياهو، فهو الذي شغل منصب سكرتير حكومته. ونتنياهو هو الذي عيّنه مستشاراً قضائياً. لكن الملفّات قوية، وفيها أدلة راسخة، لدرجة أنه لا يستطيع الامتناع عن توجيه لائحة اتهام ضده.
بالمختصر إذن، فإن نتنياهو يريد أن يبقى رئيس حكومة بأي ثمن، لأنه في رئاسة الحكومة يستطيع إدارة المحكمة من مركز قوة. لكنه في حال تعيينه وزيراً في حكومة برئاسة غانتس، مثلاً، سيكون عليه الاستقالة من الوزارة في حال توجيه لائحة اتهام ضده. وعندما نقول: «بأي ثمن»، نقصد ذلك. فمن شأن نتنياهو أن يسعى لإشعال حرب إذا استطاع، كما كشف عشية الانتخابات، إذ سبق أن حاول شنّ حرب على قطاع غزة لكن قادة الجيش رفضوا، والمستشار القضائي أبلغه بأن هذا غير قانوني. في الوقت الحاضر يحاول نتنياهو الاكتفاء بالألاعيب السياسية؛ إذ خرج إلى الجمهور بعد الانتخابات، يخطب وكأنه حقق النصر. وجمع رؤساء الأحزاب اليمينية والدينية، واتفق معهم على التوجه إلى مفاوضات الائتلاف ككتلة واحدة، مؤلفة من 55 نائباً (الليكود: 31 وحزب اليهود الشرقيين المتدينين «شاس»: 9 مقاعد، وحزب اليهود المتدينين الغربيين «يهدوت هتوراة»: 8 مقاعد، وحزب «يمينا» المتطرف: 7 مقاعد). ووقعوا على وثيقة أعدها لهم يتعهدون فيها بألا يدخلوا أي ائتلاف حكومي إلا جماعة معه.
وبعد هذا توجه إلى غانتس يقترح عليه اللقاء معه للتحدّث حول إمكانية تشكيل «حكومة وحدة وطنية» معه.

بيني غانتس (أزرق - أبيض)
بيني غانتس، اللاعب الأول، من حيث عدد الأصوات، والثاني من حيث الأهمية، إذ حصل على 33 مقعداً، أي بخسارة مقعدين عن الانتخابات الأخيرة. وتُعتبر هذه النتيجة بمثابة نجاح كبير نسبياً لحزبه، الذي أصبح منافساً جدياً على السلطة في غضون ثمانية شهور من تأسيسه. وتفوّق على نتنياهو رغم أنه أدار معركة انتخابية باردة، بلا إثارة وبلا حماس.
أهمية غانتس تكمن فيما يمثله ويعبر عنه من مصالح؛ فهو جنرال في الجيش شغل منصب رئيس الأركان حتى عام 2015. ومعه أربعة رؤساء أركان سابقون، بينهم وزير دفاع سابق. ومعه ضباط كبار سابقون في الاستخبارات والشرطة.
إنه ببساطة يمثل مصالح «المؤسسة الأمنية» الإسرائيلية بكل صنوفها. وعندما فُرزت نتائج التصويت بين الجنود، تبين أن غانتس حظي بعدد أصوات أكبر بكثير من نتنياهو. ووفقاً لحسابات مهنية، فلو كان الإسرائيليون يسلمون الانتخابات للجيش لكانوا انتخبوا غانتس بلا منازع، إذ حصل على 38 في المائة من الأصوات مقابل 31 في المائة لنتنياهو.
غانتس رفض دعوة نتنياهو، ورد عليه بالقول إنه هو الفائز في الانتخابات. وفي محادثات سرّية غير مباشرة بينهما قال غانتس إنه وعد الجمهور بحكومة وحدة مع «الليكود» لكن من دون نتنياهو، ولكن إذا كان يصرّ على الاستمرار في الحياة السياسية فإنه (أي غانتس) مستعد لقبوله وزيراً في منصب كبير، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية مثلاً. لكن غانتس يعرف أن نتنياهو لن يوافق على هذا العرض؛ فهو يريد فقط منصب رئيس حكومة، لذا بدأ يجس النبض لدى بقية الكتل.
مع غانتس يوجد الآن 44 نائباً مضموناً، هم 33 من حزبه، و6 من حزب العمل - جيشر بقيادة عمير بيرتس، و5 من حزب «ميرتس» المتحالف مع إيهود باراك. وهو يحاول التفاهم مع أفيغدور ليبرمان، الذي حصل على 8 مقاعد، فيصبح له 54 نائباً. ولكي يتغلب على نتنياهو، يحتاج غانتس إلى تأييد النواب العرب في «القائمة المشتركة». وهنا توجد معضلة مزدوجة: فأولاً، ليبرمان يرفض أن يوصي على غانتس عند رئيس الدولة إذا كان العرب سيوصون عليه أيضاً. وثانياً، في «القائمة المشتركة» نفسها يوجد خلاف محتدم حول الموضوع، فرئيس القائمة، أيمن عودة، يؤيّد التوصية على غانتس في حال التوصل معه إلى اتفاق يتعهَّد فيه بأن يستأنف المفاوضات السلمية مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ويتعهَّد بإلغاء قانون القومية، ويلتزم بتحقيق المساواة للعرب. ولكن هناك قسماً غير قليل يرفض أي تفاهم مع أي حزب صهيوني على أي شيء.

أيمن عودة (القائمة المشتركة)
في الحلبة السياسية ثمة إقرار بأن شخصية أيمن عودة أسهمت إسهاماً كبيراً في نجاح «القائمة المشتركة». ولم يكن ذلك فقط بسبب قربه من الناس ومن جيل الشباب، بل بالأساس بسبب طروحاته السياسية الجديدة والجريئة؛ إذ قال إنه يؤيد الدخول في ائتلاف حكومي مع قوى اليسار والوسط الإسرائيلية، إذا وافقت على شروطه، باستئناف عملية السلام على أساس حل الدولتين مع الرئيس الفلسطيني، وتعهَّدت بإنهاء سياسة التمييز، وإلغاء قانون القومية، وانتهجت سياسة مساواة كاملة للعرب. وكمن يقرأ الخريطة السياسية العربية في إسرائيل، يعرف عودة أن 72 في المائة من الجمهور العربي و80 في المائة من مصوّتي «القائمة المشتركة» يريدون للنواب العرب أن يؤثروا على الحياة السياسية في إسرائيل، وألا يبقوا في موقع المعارضة وسياسة الاحتجاج والرفض.
غانتس أبدى تجاوباً مع عودة بشكل مبدئي، طالباً أولاً أن يوصي عليه كرئيس حكومة مكلّف، وأن يصوت مع مندوب حزب «كحول لفان» لتولي منصب رئيس «الكنيست» في 3 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. وسيكون على عودة أن يقنع رفاقه في «القائمة المشتركة» بذلك، وهذه مهمة تبدو صعبة للغاية، وفيها يواجه عودة معارضة من داخل حزبه (الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة)، وليس فقط في بقية أحزاب «القائمة المشتركة». مع هذا، يحاول عودة إقناعهم بذلك من خلال التحذير بأن عدم التوصية على غانتس يعني أن يحظى نتنياهو بهذا التكليف، والتخلف عن دعم مرشح «كحول لفان» لرئاسة «الكنيست» يعني أن يتولاها ممثل نتنياهو، يولي أدلشتاين.

أفيغدور ليبرمان (إسرائيل بيتنا)
منذ بداية المعركة الانتخابية الأخيرة، وضع أفيغدور ليبرمان خطة لأن يكون «بيضة القبان» في الحلبة السياسية؛ فهو يصرّ على تشكيل «حكومة وحدة وطنية» بين «الليكود» و«كحول لفان»، يكون هو فيها الإشبين. وهو يرفض سعي نتنياهو إلى ضم الأحزاب الدينية لهذه الحكومة، وفي المقابل، يرفض رغبة غانتس في ضم العرب.
بفضل هذا الموقف، حظي ليبرمان بثمانية مقاعد، بعدما كانت كتلته من 5 نواب فقط في انتخابات أبريل. ولكن ليبرمان يُعتبر أحد أكثر السياسيين مَنهجية. ولقد سهّل المهمة على غانتس عندما قال إنه سيمنع إجراء انتخابات ثالثة هذه السنة، أي أنه في النهاية سيسهم في وضع حلول للعقبات. ولهذا يحاول غانتس إقناعه حالياً بأن التعاون مع «القائمة المشتركة» سيكون مؤقتاً. ويقول له: «نحصل على تأييد العرب فقط للتوصية أمام الرئيس فهم ليسوا معنيين بالدخول إلى الائتلاف. وهكذا، فنقيم حكومة من دونهم، وندخل إليها (حزب الليكود) من دون نتنياهو لاحقاً. فنتنياهو سيسقط عن الحلبة بمجرد تكليفي بتشكيل الحكومة، لأن المستشار القضائي للحكومة سيوجه له لوائح الاتهام».
وهكذا يبني غانتس كثيراً على تعاون ليبرمان، لكن هذا لا يفصح بعد عن قراره النهائي. وفي هذه الأثناء يجري محاولات لسحب نواب من «الليكود» لصالحه، من أولئك المتذمرين بصمت من نتنياهو.

من أين يمكن أن يأتي الحل ؟
> هناك إجماع في الوسط السياسي الإسرائيلي على أنه لن تقوم حكومة في هذه المرة إلا إذا تراجع أحد اللاعبين الكبار عن تصريحاته الانتخابية، وأعلن أنه «بسبب حالة الطوارئ التي وصلنا إليها، وبسبب القناعة بأن التوجه لانتخابات ثالثة أمر خاطئ بشكل فاحش لا يجوز تكراره... قرّر تغيير موقفه».
مَن سيكون هذا اللاعب؟ حتماً، نتنياهو لن يكون، لأن تراجعه يعني دخوله السجن. لكن هناك من ينصحه علناً بأن يبرم صفقة شاملة: الاتفاق مع النيابة على إلغاء الاتهامات ضده مقابل اعتزاله السياسة. مثل هذا الأمر حصل في إسرائيل ذات مرة، إذ جرى إقناع رئيس الدولة عيزر فليتسمان بالتخلي عن منصبه مقابل إغلاق ملفات فساد ضده. ومن ثم، نزل عن كرسيه باحترام.
غانتس كان قد أعلن أنه لن يخدم في حكومة واحدة مع نتنياهو، وبالتأكيد، ليس تحت رئاسة نتنياهو. وعن هذا يصعب التراجع. لكنه في حال قبول «الليكود» برئاسة نتنياهو في حكومته ومنحه وزارة مهمة، يمكن أن يكون هذا الإجراء مؤقتاً إلى حين يتقرر مصير لوائح الاتهام. وعندها يستقيل نتنياهو وتصبح كتلة «الليكود» صالحة أكثر للتحالف. ولذا، فإن ليبرمان يبدو أقرب الشخصيات السياسية إلى التراجع، ولعب دور المسؤول الذي يضع مصلحة البلاد فوق مصلحته الشخصية. وبما أنه تعهَّد بأنه لا يسمح بإعادة الانتخابات، فهو من أجل الإيفاء بالوعد يمكن أن يتراجع عن أحد، أو بعض، مطالبه.
طبعاً، هناك آخرون يمكنهم أن يتراجعوا عن مواقفهم من الأحزاب الأخرى، مثلاً:
- أرييه درعي، رئيس حزب «شاس». فمع أن درعي التزم لنتنياهو، فإنه في حال تكليف غانتس، والتوصل إلى قناعة بأن نتنياهو لن يستطيع تشكيل حكومة، قد يغير موقفه وينضم إلى غانتس. وللعلم، كان قد صرح بعيد الانتخابات بأن «اليهود يدخلون الآن إلى شهر التسامح ويزيلون خلافاتهم ويتآخون من جديد». وربما تكون هذه إشارة إلى التسامح مع خصومه، وبالذات، يائير لبيد، من حزب غانتس، وأفيغدور ليبرمان.
- أييلت شكيد (وزيرة العدل السابقة) ونفتالي بنيت، من حزب «يمينا». هذان السياسيان المتطرفان سارعا إلى الانفصال عن حزب «يمينا» والعودة إلى حزبهما السابق (البيت اليهودي)، ولهما اليوم 3 من نواب حزب «يمينا». ومن غير المستبعد أن يتقدّما خطوة أخرى إلى اليسار وينضما إلى غانتس، خصوصاً أنهما على خلاف شديد مع نتنياهو.
- عمير بيرتس، رئيس حزب العمل. بيرتس في اليسار اليوم، وكان من القلائل في هذه الانتخابات الذين تحدثوا عن عملية السلام، ودعا غانتس إلى إدخال العرب في الائتلاف الحكومي معه، لكنه في الوقت نفسه يرى أن لديه مسؤولية كبرى لإنقاذ حزبه من الاندثار. فـ«حزب العمل»، هو الذي قاد الحركة الصهيونية منذ تأسيسها قبل 120 سنة، وأسس إسرائيل وقادها بلا منازع من 1948 وحتى 1977، وعدة سنوات بعدها. ويرى كثيرون فيه أنه لن تقوم قائمة لهذا الحزب إلا إذا انعطف يميناً واسترد مؤيديه.
- أعضاء في حزب غانتس، يسعى نتنياهو لسحبهم من صفوف حزبهم، وضمهم إلى «الليكود» مقابل مغريات كثيرة.
كل هذه احتمالات واردة، سبق أن شهدت الحلبة السياسية الإسرائيلية مثيلاً لها في التاريخ. فإذا لم يكن هناك تغير جماعي لدى أحد الأحزاب أو أكثر، سيكون تغير وخيانات فردية تؤدي إلى تغيير في القوى. ولكن التغيير الذي يمكن أن يحدث ولا أحد يصمد فيه، هو أن يقنع نتنياهو الجيش بشن حرب، وعندها يتأجل كل شيء، بما في ذلك محاكمة نتنياهو.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.