قيس سعيّد... «مثقف فقير» أيده شباب تونس ونساؤها

يدخل جولة انتخابات الرئاسة الثانية الحاسمة مدعوماً بتأييد معظم منافسيه السابقين

قيس سعيّد... «مثقف فقير» أيده شباب تونس ونساؤها
TT

قيس سعيّد... «مثقف فقير» أيده شباب تونس ونساؤها

قيس سعيّد... «مثقف فقير» أيده شباب تونس ونساؤها

صدمت نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية التونسية غالبية المراقبين وصنّاع القرار داخل تونس وخارجها، بعدما احتل المرتبة الأولى المرشح قيس سعيّد، المثقف والحقوقي المستقل عن كل الأحزاب و«اللوبيات» السياسية والمالية والجهوية. ولقد وصفت وسائل الإعلام، وكذلك شخصيات تونسية بارزة، تصدُّر سعيّد الجولة الأولى بـ«الصاعقة» و«الزلزال» لأن حظوظه وافرة جداً في كسب الدورة الثانية من الانتخابات التي يتنافس فيها مع رجل الأعمال الموقوف في السجن نبيل القروي. وللعلم، أزاح سعيّد والقروي من السباق 24 مرشحاً، بينهم مَن أنفقوا أموالاً طائلة في حملاتهم الانتخابية داخل البلاد وخارجها، بينهم رئيس الحكومة يوسف الشاهد، ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدي، ورئيس الحكومة الأسبق المهدي جمعة، ورئيس الجمهورية الأسبق المنصف المرزوقي، وعبد الفتاح مورو رئيس البرلمان القيادي في «حركة النهضة»، والوزير السابق زعيم حزب «مشروع تونس» محسن مرزوق، وزعيمة الحزب الدستوري عبير موسي...
فمن هو قيس سعيّد الذي أعلن معظم منافسيه في الدور الأول وأحزابهم دعمه في الدور الثاني رغم انتقاداتهم السابقة له؟ ولماذا نال ثقة عشرات الآلاف من المتطوّعين الشباب والنساء والمثقفين المستقلين؟
عرفت أجيال من طلاب الجامعة التونسية، منذ أكثر من 30 سنة، قيس سعيّد مدرّساً «جدّياً جداً» وخلوقاً ومتواضعاً، لا يتغيب أحد عن دروسه التي يعشقون فيها عمقه وفصاحته باللغتين العربية والفرنسية، وتمضيته ساعات أسبوعياً معهم للرد على أسئلتهم وتوجيههم منهجياً... في مكتبة كلية الحقوق القانونية والسياسية والاجتماعية وقاعات محاضراتها، ثم في المقهى التابع لها.

نظافة يد وعمق معرفي
ولد قيس سعيّد عام 1958 في العاصمة التونسية تونس لعائلة شعبية تنحدر من بلدة بني خيار، في محافظة نابل بمنطقة الوطن القبلي الزراعية والسياحية، على بعد 80 كلم جنوب شرقي العاصمة. ولقد برز من بين عائلة سعيّد عدد من القضاة وكبار المثقفين والنشطاء السياسيين والمسؤولين، بينهم شقيقه المحامي والأستاذ الجامعي في العلوم السياسية والقانونية نوفل سعيّد، ومفتي الديار التونسية السابق الشيخ حمدة سعيّد.
يكتشف كل من واكب الشعبية الكبيرة التي حصل عليها قيس سعيّد، المثقف والإنسان، في المواقع الاجتماعية منذ ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 أن المعجبات والمعجبين بشخصيته والمطالبين منذ سنوات بتكليفه مسؤولية عليا في الدولة «ليحارب معهم الفساد» يقدّرون تواضعه ونظافة يديه وعمقه المعرفي ونقده اللاذع للفساد والرشوة ومنظومة الاستبداد كاملة.
كذلك، ينوّه هؤلاء بوقوفه على مسافة واحدة تقريباً من كل التيارات الفكرية والسياسية والحزبية؛ ما جعله يكتسب مصداقية عند انتقاده ثغرات «دستور 2014» وغلطات السياسة وصنّاع القرار والأحزاب، مع نأيه في الوقت نفسه عن كل أنواع السبّ والشتم أو التزلّف والنفاق.
ولقد شهد كبار أساتذة المدرّس الشاب قيس سعيّد وزملاؤه مثل عياض بن عاشور، وعبد الفتاح عمر، والصادق بلعيد، وهيكل بن محفوظ، وفرحات الحرشاني، ورافع بن عاشور بما تميّز به سعيّد منذ التحاقه بأسرة الأساتذة في جامعة الوسط في سوسة عام 1986، ثم في جامعة قرطاج في العاصمة عام 1994، من جدّية وإقبال على الدراسات والأبحاث التي تربط بين إصلاح نظام الحكم في البلاد ومحاربة الفساد والاستبداد بتعديل القوانين والدستور. وحقاً، أهّله هذا الإقبال ليصبح عضواً ثم نائباً لرئيس الجمعية التونسية للقانون الدستوري، ويبرز ناشطاً في المجتمع المدني من أجل تغيير النظام السياسي عبر بوّابة تغيير القوانين و«دستور 1959».
ورغم إحجام سعيّد عن الانخراط في منظومة الحكم قبل 2011 وبعدها، ساهمت دراساته وكتاباته ومحاضراته القانونية السياسية في أن تصنع منه شخصية عمومية لها حضورها في وسائل الإعلام الجدية والمؤسسات الثقافية والعلمية والسياسية النخبوية. أيضاً، برز سعيّد خصوصاً بمقترحاته وحول عدد من مشاريع الانتقال الديمقراطي، واستبدال فصول «الزجر والردع» في القوانين المنظمّة للشأن العام والعلاقة بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية تحرّرية وديمقراطية.

«ثورة الصندوق»
من جهة أخرى، تحرّك تيار من المُعجبات والمُعجبين بقيس سعيّد عشية انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2011 ونوفمبر (تشرين الثاني) 2014 لترشيحه الانتخابات، لكنه اعتذر، واتفق معهم على ألا يشارك فيها لامتناعهم عن انتقاد كامل المشهد السياسي وقتها ودور «لوبيات» المال والإعلام فيها.
بل، واعترف سعيّد للصحافيين بأنه لم يشارك سابقاً في أي عملية اقتراع. وشاءت الأقدار، قبل أيام، أن يشارك في انتخابات 2019 لأول مرة ناخباً ومرشحاً، ثم أن يكون الفائز الأول في الدور الأول... والأوفر حظاً بالفوز في الدور الثاني بعدما أعلنت غالبية القوى السياسية دعمه ضد منافسه نبيل القروي.
سعيّد برّر موافقته هذا العام على الاقتراع والترشح للرئاسة بقناعة تولّدت لديه بعد حوارات استمرت لسنوات مع عدد من أصدقائه والمعجبين به ممن صاغ معهم مشروعاً شاملاً لإصلاح الحياة السياسية. يبدو أن هؤلاء اعتبروا أنه قابل للتطبيق إذا انتصرت «ثورة الصندوق»، أي صندوق الاقتراع، بما سيفتح أبواب التفاؤل أمام ملايين الشباب العاطل عن العمل والمهمّش... والفقراء والمثقفين وضحايا الرشوة والاستبداد.
وكانت كلمة السر في تصريحات سعيّد بعد الإعلان عن نتائج الدور الأول من انتخابات 15 سبتمبر (أيلول) هي نجاح «ثورة الصندوق» في إعادة الاعتبار لشعار شباب الثورة في 2011 الذي وضعه شعاراً لحملته الانتخابية «الشعب يريد»، أي يريد تغيير النظام وإصلاح أوضاعه.

من الجامعة إلى مخيمات «شباب الثورة»
هذا، وفي حين يعتبر البعض قيس سعيّد «صندوقاً أسود» و«شخصية غامضة ومجهولة»؛ لأنه من أكثر الخبراء والحقوقيين حرصاً على الابتعاد عن الأضواء، فإن أنصاره من شباب المواقع الاجتماعية والجمعيات الحقوقية يروّجون حوله منذ أكثر من 8 سنوات نصوصاً وفيديوهات تبرزه في موقع المُصلِح حيناً والمصارع البطل في الحلبة حيناً آخر. ولا يخلو الأمر، كذلك، من التهجّم على الذين يسخرون منه لإصراره على استخدام اللغة العربية الفصحى بأسلوب خطابي ورفضه التكلّم باللهجة العاميّة التونسية.
ولكن بعد فترة غير قصيرة من التهكّم على سعيد وأنصاره بين «جيش» «فيسبوك» و«يوتيوب» و«تويتر»...الخ، برزت قصة نجاح لأكاديمي «فقير» راتبه في حدود 700 دولار أميركي (1600 دينار تونسي) يمتلك سيارة صغيرة متواضعة وشقة أنجزها مع زوجته القاضية في محكمة العاصمة تونس.
أصبح قيس سعيّد من أبرز المتخصّصين في الدراسات القانونية والسياسية الأكاديمية، لكنه نزل من علياء الجامعة، وغادر أسوارها. وجرّب النضال الميداني من خلال زياراته للجهات المُهمَّشة والفقيرة ولمخيمات المعتصمين والمضربين من الشباب العاطل عن العمل في العاصمة تونس والمدن الداخلية الفقيرة، وخاصة في المحافظات التي اندلعت فيها الانتفاضة الشبابية والثورة الشعبية في أواخر 2010 ومطلع 2011 مثل سيدي بوزيد والقصرين والقيروان.
وعرف سعيّد مع ثلّة من المثقفين والحقوقيين القريبين من تيار اليسار المعتدل بالتقرب من «شباب الثورة» وتمضية ساعات معهم كل مرة تخصص للحوار والاستماع إلى مقترحاتهم للتغيير.
إلا أنه عشية انتخابات 15 سبتمبر اختار سعيّد ألا ينظم حملة انتخابية تقليدية وتجمّعات ضخمة تلقى فيها الخطابات، بل جلس ومجموعة من رفاقه مع عموم الناس في الأسواق والساحات العامة والمقاهي للاستماع إلى مشاغلهم ومطالبهم ومقترحاتهم.

تجارب مع اليسار «الراديكالي»
وكان من بين مفاجآت سعيّد أنه، مثلما أوضح بنفسه، رفضه التمويل الذي تمنحه الدولة للمرشّحين والعروض المالية لرجال الأعمال، كما امتنع عن المشاركة في معظم الحوارات التلفزيونية والإذاعية. وتبين لاحقاً أن بعض منافسيه البارزين خسروا عشرات الآلاف من الأصوات بسبب قبولهم إجراء حوارات في قنوات يتّهمها تيار شعبي كبير بالانحياز والرداءة، وبتوظيف إعلاميين ومنشطين من خريجي السجون بسبب ملفات فساد مالي كبيرة.
في حينه، انتقد بعض خصوم سعيّد سلوكه واتهموه بالانتماء إلى «التيار الفوضوي» وتقليد «الفوضويين» الأوروبيين الذي تمرّدوا على كل منظومات السلطة والمجتمع، إلا أن أصدقاء سعيّد وزملاءه وطلبته في الجامعة يفنّدون هذه التهمة. إذ يشير هؤلاء إلى أنه كان قريباً من التيار الطلابي اليساري عندما كان شاباً. بل كان أقرب إلى الزعماء اليساريين والنقابيين الذين انشقوا عن الحزب الشيوعي التونسي وعن أنصار الزعيم الصيني ماو تسي تونغ... وتبنّوا أفكار «القادة البراغماتيين» في الصين الذين انتفضوا على «الماوية» داعين إلى الانفتاح على القيم الديمقراطية وتجاوز المقولات الدوغمائية السابقة.
وبالفعل، كانت حصيلة هذه التجربة، أن أسند قيس سعيّد رئاسة فريق حملته الانتخابية لأحد زعماء اليسار الطلابي السابقين، ورفاقه في الجامعة قبل 35 سنة، رضا شهاب المكي الذي عُرف وقتها باسم «رضا لينين» نسبة إلى زعيم الثورة البلشفية الماركسية اللينينية في أكتوبر1917، لكن المعروف عن سعيّد أنه كان طوال العقود الماضية أبعد ما يكون عن الماركسية وعن مواقف لينين، لدى اقترابه من التيار الديمقراطي الاجتماعي الذي يطالب بالإصلاح والتغيير، مع التأكيد على شعارات التحرّر الوطني اقتصادياً وثقافياً، وعلى الاعتزاز بالثقافة العربية الإسلامية.

ليبرالي سياسياً
واستطراداً، حرص سعيّد على تثبيت استقلاليته السياسية والحزبية خلال مشاركاته في مهمات علمية وقانونية في تونس، وفي القاهرة مع الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وفي عدد من العواصم الأوروبية. وأغضب ذلك المسؤولين في الدولة والحزب الحاكم، وخاصة عامَي 2001 و2002، عندما انتقد في سلسلة حوارات نظمتها صحيفة «الصباح» التونسية مع خبراء في العلوم السياسية حول مشروع الاستفتاء العام الذي تقدّمت به السلطات لتعديل الدستور. وكان الهدف السماح بترشّح الرئيس زين العابدين بن علي لدورة جديدة وإلغاء شرط منع البقاء في الحكم أكثر من 15 سنة.
وتميّز سعيّد بانتقاداته للمشروع الحكومي الذي وعد بانتقال تونس من «الجمهورية الأولى» إلى «الجمهورية الثانية»، ورد عليه متهكماً بجملة شهيرة «تونس لن تنتقل من الجمهورية الأولى الجمهورية الثانية، بل إلى الجمهورية الأولى مكرّر».
المصطلح نفسه استخدمه سعيّد بعد ثورة يناير 2011 والمصادقة على «دستور 2014»، وعودة الحديث عن «جمهورية جديدة» و«جمهورية ثانية» فقال «إنها جمهورية عدد واحد مكرّر»، وانتقد انتهاكات السياسيين في الحكم والبرلمان لروح الدستور والقانون وتبادلهم الترضيات السياسية. ولعله، اكتسب جانباً كبيراً من شعبيته بسبب تلك الانتقادات التي وجد فيها المعارضون والشباب به «زعيماً جريئاً».

حداثي... أنصاره من النساء والشباب
في هذه الأثناء، وظّف خصوم سعيّد ماضيه اليساري الظرفي، عندما كان طالباً، ثم دفاعه عن الهوية العربية الإسلامية واستشهاده ببعض الآيات القرآنية، ولا سيما المتصلة بالإرث منها، ليتهموه حيناً باليسراوية وحيناً آخر بالسلفية والتحالف مع المتشدّدين دينياً. لكن سعيّد والمقربين منه فنّدوا دوماً تلك الاتهامات. وجاء رد سعيّد تعقيباً على الحملات التي تستهدفه بتأكيد عراقة مواقفه الحداثية والوسطية ورفض التطرف بأنواعه. كذلك، ردّ المتطوّعون من أنصاره على تلك الحملات بنشر صورة نادرة التقطها الصحافيون له مع زوجته القاضية إشراف شبيل التي ظهرت إلى جانبه بلباس أوروبي أنيق لأول مرة يوم الاقتراع في مدرسة ابتدائية عمومية بالقرب من مسكن أسرته في حي النصر بأريانة (ضواحي تونس العاصمة) حيث درس أبناؤهما الثلاثة.
ولقد نوهت كلثوم كنو، القاضية اليسارية المعارضة والرئيسة السابقة لجمعية القضاة، بسمعة زوجة سعيّد وهي مستشارة في محكمة الاستئناف في العاصمة تونس ونائبة رئيس المحكمة الابتدائية بتونس.
ختاماً، هل يكون قيس سعيّد بعد الجولة الثانية الحاسمة للانتخابات الرئاسية التونسية أول رئيس تونسي «صنعه الشباب وأبناء الطبقات الشعبية» من المتمردين على الأحزاب والطبقة السياسية التقليدية؟ وهل تصبح القاضية إشراف شبيل «سيدة تونس الأولى» بعدما كانت بدورها مغمورة بين مكاتب المحاكم؟



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.