أسبوع لندن يركب موج القضايا السياسية والبيئية

دار «بيربري» تؤكد أنها لا تزال الحلقة الأقوى بضخامة عروضها وتنوع تصاميمها

من عرض «بيربري»
من عرض «بيربري»
TT

أسبوع لندن يركب موج القضايا السياسية والبيئية

من عرض «بيربري»
من عرض «بيربري»

عندما كان الحديث يتطرق إلى أسبوع الموضة بلندن في السابق، فإن الألوان الساطعة والتقليعات الغريبة، سواء داخل قاعات العروض أو خارجها، كانت المحور الذي تدور حوله كل المناقشات والتعليقات. لكن الموسم الحالي الذي انتهى يوم الثلاثاء الماضي، كان مختلفاً شكلاً ومضموناً. غابت التقليعات وحل محلها أزياء رومانسية تعبق بالأنوثة من دون أن تتخلى عن نكهتها الجريئة. أحد أسباب هذا الاختلاف أنه قد يكون آخر موسم تشهده لندن قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. كما أنه الموسم الذي يشهد فيه العالم زيادة الوعي بالقضايا البيئية والإنسانية، وهو ما كان واضحاً في لندن من خلال عدة مظاهرات تبنتها جمعيات رفعت شعارات وأشعارا تندد بتأثير الموضة، السريعة تحديداً، على البيئة. كما تجلت في عدة محاضرات وجلسات قامت بها منظمة الموضة البريطانية طوال الأسبوع لزيادة الوعي بأهمية الموضة المستدامة، وبأنها هي المستقبل.
من التغييرات اللافتة التي قامت بها منظمة الموضة البريطانية هذا الموسم أيضاً أنها حضرت نفسها، أو بالأحرى تصدت لكل التغييرات التي نتجت عن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. استبقت هذه التأثيرات باتخاذ تدابير واستراتيجيات مبتكرة، أهمها فتح أبواب الأسبوع أمام العامة من عشاق الموضة لقاء مبلغ. ما انتبهت له منظمة الموضة، هو أن عروض الأزياء لم تعد نخبوية كما كانت عليه أيام زمان حين كانت تجري في صالونات مقفلة لا يحضرها سوى قلة من وسائل الإعلام وعدد من الزبونات. فقد أخرجتها وسائل التواصل الاجتماعي والبث المباشر من بُرجها العاجي وباسم الديمقراطية، كشفت الكثير من أوراقها ووجوهها للناس... بضغطة زر. كالعادة، فكرت لندن بحس تجاري. عوض أن تعارض أو تعاند، قررت أن تستفيد من الوضع ببيع تذاكر لكل من يحب حضور هذه العروض والفعاليات. أمر لم يكن واردا في الماضي، وربما كان قد جعل بعض المصممين من أمثال الراحل إيف سان لوران، أن يغادروا المهنة أو يتقاعدون رفضا للوضع. فقد أعلن هذا الأخير تقاعده لمجرد أن أهمية العطور ومستحضرات التجميل في داره زادت على أهمية الأزياء، وهو ما رآه تجارة تنتقص من فن التصميم.
لكن في عصر تغيرت فيه كل المبادئ وأشكال العرض، فإن قرار لندن، يُعتبر خطوة ذكية وقراءة جيدة لنبض الشارع. لم تقبل أن تبقى مكتوفة الأيادي تنتظر ما ستتمخض عنه هذه الظاهرة، بل تفاعلت معها لضمان استمراريتها والإبقاء على وهج وقوة صناعة تدر على الاقتصاد البريطاني ما لا يقل عن 32 مليار جنيه إسترليني ككل، وتوظف نحو 100.000 أوروبي. رقم يفسر سبب مخاوف القائمين عليها واعتراضهم على الخروج من الاتحاد الأوروبي بـ90 في المائة صوت. في منشور وزعته المنظمة قبل انطلاق الأسبوع، أفادت بأنه في حال الخروج من دون اتفاق، فإن بعض المصممين الشباب والحرفيين سيضطرون للعودة إلى بلدانهم، فضلا عن أن الضرائب الجمركية على استيراد الأقمشة وعلى المعامل قد يكلف هذا القطاع نحو 900 مليون جنيه إسترليني. وغني عن القول إن كل هذا لن يؤثر على المصممين فحسب بل أيضا على المستهلك، بحكم أن أسعار الأزياء والأكسسوارات سترتفع، وهو ما قد ينتج عنه أيضا تدمير ما تم بناؤه على مدى عقود بعقد شراكات مع معامل لا تراعي حقوق الإنسان أو تهتم بالجوانب البيئية.
هذا على الأقل ما كتبه المتظاهرون بالبُنط العريض على لافتات خارج رقم «80 ذي ستراند» مقر عروض الأزياء الرسمي. بالنسبة لهؤلاء فإن صناعة الموضة هي المؤثر السلبي الأول على الأرض، لأنها «تفضل الربح على حساب الإنسان والمستقبل».
من جهتهم، واجه المصممون هذه التغيرات بطريقتهم، أي من خلال استعمالهم الأزياء كرسائل واضحة تارة ومبطنة تارة أخرى، للتعبير عن مخاوفهم وتنديدهم ببعض القرارات السياسية. فهم يرون أن «بريكست» سيكون له تأثير مباشر عليهم، بالنظر إلى أن نسبة عالية منهم إما من جنسيات أخرى أو يتعاملون مع دول أوروبية بشكل يومي.
في المقابل تبنى بعضهم الآخر قضايا البيئة والتنوع العرقي والإنسان بشكل ملموس. من هؤلاء المصمم الكندي الأصل مارك فاست، الذي افتتح أسبوع لندن يوم الجمعة الماضي بتشكيلة اختزل فيها حبه لغابات الأمازون، التي التهمتها النيران مؤخرا. قال المصمم إنه بدأ العمل على تشكيلته قبل وقوع الفاجعة، لأنه خلال زيارة لها افتتن بألوانها وكائناتها المتنوعة، من قرود وطيور ونباتات نادرة. كانت نيته أن يكون العرض حفلا صاخبا في الغابة، إلا أن اندلاع النيران غير نفسيته وفكرته، لكن لحسن الحظ لم يُغير من ألوان الأزياء ولا سخائها في استعمال الريش وطبعات مستوحاة من الأفاعي والثعابين وطيور الجنة وغيرها. كانت تشكيلة مفعمة بالأنوثة ذكرتنا بأنه كان من المصممين الأوائل، إن لم يكن الأول، الذين احتفلوا بالمرأة الممتلئة وقدموا لها تصاميم خاصة على منصات العرض، وهذا ما ظهر أيضا في عرضه الأخير لربيع وصيف 2020 مؤكدا على ضرورة التنوع.
مصمم آخر يعشق اللعب بتضاريس الجسد هو المصمم رولان موريه، الذي منذ أن أطلق ماركته في عام 1998 وهو يخاطب امرأة تضج بالأنوثة والإغراء، وليس أدل على هذا من فستان «غالاكسي» الذي حقق له في عام 2005 جماهيرية عالمية بعد أن ظهرت به معظم نجمات هوليوود تقريبا. كان تجسيدا لأسلوبه في النحت. لكن كان هناك تغير ملحوظ في تشكيلته الأخيرة لربيع وصيف 2020. لم تكن هناك تصاميم منحوتة على الجسم تعتمد الإثارة، بقدر ما ركزت التشكيلة على البساطة، فيما رآه المصمم تطوراً طبيعياً يعكس تطور المرأة وتطلعاتها. ترجم هذه الرؤية الجديدة من خلال بنطلونات طويلة وواسعة، وجاكيتات بلايزر مفصلة على الطريقة الرجالية، وفساتين منسابة، بعضها على شكل قمصان طويلة وبعضها الآخر من الصوف، لأنه كما قال كان يريد «أن تلعب الزبونة بهذه القطع بطريقتها لخلق أسلوبها الخاص».
أما المصمم التركي الأصل، بورا أكسو، فلم يحذ عن أسلوب عودنا عليه منذ سنوات. أسلوب رومانسي يمزج فيه أناقة راقية مع رشة شقاوة وحداثة. هذه المرة جسده في تشكيلة قال إنه استوحاها من الأميرة الفارسية تاج سلطانة، التي قادت في بداية القرن الماضي حركة نسوية غير مسبوقة. أسست عدة جمعيات تطالب بمساواة المرأة وحريتها من كل القيود التي كانت تكبلها بما في ذلك الأزياء التقليدية. هذه الرحلة الإنسانية والسياسية لأميرة وناشطة تجسدت في أزياء جمع فيها الأقمشة الناعمة والشفافة بأخرى سميكة وغنية مثل البروكار، وألوانا تتدرج من الفاتح إلى الساطع وخطوط بسيطة من حيث التصميم بعضها استقاه من خزانة الرجل من حيث تفصيلها الدقيق والمائل إلى الصرامة في بعض القطع.
كما استوحت كل من المصممة سيمون روشا ودار «برين» البريطانية تشكيلاتهما من أميرات من قرون ماضية، تميزن بالتمرد والسُخط على التقاليد المتوارثة المفروضة عليهن. مصمما دار «برين»، ثيا بريغازا وجاستين ثورنتون، توجها إلى الثقافة اليابانية ليغرفا من فنونها وحرفيتها وأضافا إليها لمسة «بانك»، وهو ما ظهر في فساتين بأحجام كبيرة ومعاطف مبطنة و«تي - شيرتات» مطبوعة بنقشات غريبة إضافة إلى أزياء تبدو وكأنها قطعت بسيف «ساموراي» من النصف. الكشاكش أيضا كانت حاضرة كما العادة إلى جانب تطريزات بالخرز لكن بأسلوب أكثر حداثة وجاذبية من ذي قبل بما لا يترك الشك أن المصممين يخاطبان جيلاً جديداً من الزبونات.
أما بالنسبة للمصممة الشابة سيمون روشا، فإن «ألكسندرا بالاس» كان المكان الذي اختارته لتقديم تشكيلتها. قصر افتتح في عام 1875 لكنه ظل متجاهلاً طوال الـ80 عاما الأخيرة قبل افتتاحه مرة أخرى في عام 2018. كان المكان المناسب بالنسبة للمصممة نظراً لشكله الدائري. السبب أنها استلهمت تشكيلتها من مجموعة غنائية دينية في آيرلندا تعرف باسم «رين بويز» يقدمون أغانيهم في يوم القديس ستيفن من خلال رقصات دائرية. الشكل الدائري ظهر أيضا في تنورات ضخمة بكشاكش ومزينة بالدانتيل الناعم. كما كانت هناك حقائب يد ومعاطف وأكسسوارات شعر مصنوعة من القش والرافيا في إشارة إلى بساطة الطبيعة وألوانها الترابية التي تماهت مع ألوان الورود.
في محكمة دوربار التابعة لوزارة الخارجية أقامت فكتوريا بيكهام عرضها لربيع وصيف 2020، وإذا كان هناك شيء أكده العرض أن الحصول على دعم مادي يحقق المعجزات. أمر يعرفه كل مصمم شاب، وحققته فكتوريا بيكهام مؤخرا. فبعد سنوات من التراجع وعدم تحقيق الربح، بدأت الأمور تنفرج بعد حصولها في عام 2018 على تمويل من شركة NEO Investment Partners وهي شركة استثمارية خاصة ومتخصصة في الماركات التجارية الفاخرة. بموجب هذه الشراكة ستتمكّن فكتوريا بيكهام من تعزيز وجودها الرقمي والمادي على حدّ سواء، وأيضا الدفع بعجلة النمو.
كل هذا انعكس على تشكيلتها الأخيرة، بدءاً من الألوان التي تخلت فيها عن الدرجات القاتمة لصالح درجات منعشة تضج بالحيوية والحياة، إلى التصاميم التي اكتسبت انسيابية ملحوظة قالت إنها تعكس أسلوبها الشخصي وتطورها كامرأة وأم وسيدة أعمال «فأنا لا أطرح أي شيء لا يمكنني أن ألبسه في حياتي اليومية». فكتوريا تعيد سبب نجاحها إلى هذه الاستراتيجية تحديدا لأنها، وحسب قولها، تعطيها مصداقية أكبر. لكن لا يمكن أيضا تجاهل أنها تصاميم يسهل تنسيقها مع بعض كونها عملية حتى فيما يتعلق بأزياء المساء والسهرة. ويبدو أن الألوان كانت مُلحة على بال المصممة كونها أطلقت مجموعة مستحضرات تجميل منذ فترة قصيرة جدا. تشعر كما لو أنها وضعت الألوان، التي حددت حقبتي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، في خلاط لتحصل على تركيبة شهية تعبق برائحة الماضي الجميل، ظهرت مثلا في قمصان من الحرير بالأخضر التفاحي أو الأصفر الليموني، نسقتها مع تنورات مفصلة بلون الشوكولاته أو فساتين منسابة من الحرير بلون البسكويت. وبين الفينة والأخرى تطالعنا زخات من الوردي في بنطلون طويل يتسع من الأسفل مثلا، أو في جاكيت أزرق. هكذا تزاوجت ألوان الأزياء مع ألوان الماكياج التي أطلقتها المصممة وقالت عنها المصممة إنها تحتفل بموجة جديدة من مستحضرات التجميل تحترم البيئة ومتطلبات المرأة العصرية.
مرة أخرى أكدت «بيربري» أن عرضها هو الأهم خلال أسبوع لندن للموضة، سواء من ناحية الإخراج أو نوعية الحضور أو الديكورات أو مشاركة عارضات عالميات من مثيلات جيجي حديد وكيندل جينر وإيرينا شيخ، وطبعا الأزياء وتنوعها. تنوع أراده مصممها الإيطالي ريكاردو تيشي أن يعكس كل الثقافات ويصل إلى كل العالم، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط. فقد ظهرت في العرض عارضة محجبة تلبس تايورا مكونا من جاكيت وبنطلون واسع، بلون البيج مرصع بالأحجار. كانت لفتة ذكية منه لإيصال رسالة إلى زبونة منطقة الشرق الأوسط أن تصاميم الدار تحترمها وتتوجه إليها، أيا كان ذوقها أو عمرها.
لم يركز المصمم على التنوع في اختيار العارضات والثقافات فحسب بل أيضا فيما قدمه من أزياء تتباين بين الـ«سبور» وبين المفصل بأسلوب رجالي يجمع حرفية «سافيل رو» وخفة وانطلاق الأسلوب الإيطالي، فضلاً عن فساتين سهرة ربما تكون موجهة لجيل الشابات أكثر. وطبعا ليس هناك أكثر منه يفهم الجيل الجديد. فسنواته في دار «جيفنشي» التي ارتقى فيها بالأحذية الرياضية إلى مستوى غير مسبوق من الأناقة، تشهد على ذلك. كما تشهد عليه السترات الواسعة بالأبيض والأسود والبنطلونات الفضفاضة والقمصان ذات الأكتاف المتدلية، التي طرز بعضها بأحجار الكريستال أو الدانتيل، التي قدمها يوم الاثنين الماضي في مسرح «تروبادور» بمنطقة وايت سيتي شرق لندن. القطع المفصلة اكتسبت بدورها قوة وتفاصيل أكثر تظهر حينا في تقويسات أمامية لجاكيت طويل أو في سلاسل تزين جاكيت توكسيدو أو جيوب ضخمة تضفي على بدلة مفصلة الكثير من الشبابية والديناميكية وما شابه. تعتبر هذه ثالث تشكيلة يقدمها المصمم الإيطالي للدار، وربما تكون أكثر واحدة تحمل بصماته الشخصية. ففي التشكيلتين السابقتين، كان يحاول أن يفهم جينات الدار وتطويعها لتناسب العصر. أما هذه التشكيلة فكانت أكثر ثقة، ويبدو واضحاً أنه ضخها بجرعة إيطالية لن تجد أي مقاومة من قبل المساهمين، لأنها، وبلا شك ستحقق لهم الربح التجاري المطلوب، الذي برهن أنه قادر عليه منذ التحاقه بالدار. فقد سجلت الدار في شهر يونيو (حزيران) الماضي ارتفاعاً في أرباحها بنسبة 4 في المائة مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، والبقية تأتي.


مقالات ذات صلة

غادر هادي سليمان «سيلين» وهي تعبق بالدفء والجمال

لمسات الموضة توسعت الدار مؤخراً في كل ما يتعلق بالأناقة واللياقة لخلق أسلوب حياة متكامل (سيلين)

غادر هادي سليمان «سيلين» وهي تعبق بالدفء والجمال

بعد عدة أشهر من المفاوضات الشائكة، انتهى الأمر بفض الشراكة بين المصمم هادي سليمان ودار «سيلين». طوال هذه الأشهر انتشرت الكثير من التكهنات والشائعات حول مصيره…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة كيف جمع حذاء بسيط 6 مؤثرين سعوديين؟

كيف جمع حذاء بسيط 6 مؤثرين سعوديين؟

كشفت «بيركنشتوك» عن حملتها الجديدة التي تتوجه بها إلى المملكة السعودية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة الملك تشارلز الثالث يتوسط أمير قطر الشيخ تميم بن حمد وزوجته الشيخة جواهر والأمير ويليام وكاثرين ميدلتون (رويترز)

اختيار أميرة ويلز له... مواكبة للموضة أم لفتة دبلوماسية للعلم القطري؟

لا يختلف اثنان أن الإقبال على درجة الأحمر «العنابي» تحديداً زاد بشكل لافت هذا الموسم.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة تفننت الورشات المكسيكية في صياغة الإكسسوارات والمجوهرات والتطريز (كارولينا هيريرا)

دار «كارولينا هيريرا» تُطرِز أخطاء الماضي في لوحات تتوهج بالألوان

بعد اتهام الحكومة المكسيكية له بالانتحال الثقافي في عام 2020، يعود مصمم غوردن ويس مصمم دار «كارولينا هيريرا» بوجهة نظر جديدة تعاون فيها مع فنانات محليات

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة الممثلة والعارضة زانغ جينيي في حملة «بيربري» الأخيرة (بيربري)

هل يمكن أن تستعيد «بيربري» بريقها وزبائنها؟

التقرير السنوي لحالة الموضة عام 2025، والذي تعاون فيه موقع «بي أو. ف» Business of Fashion مع شركة «ماكنزي آند كو» للأبحاث وأحوال الأسواق العالمية، أفاد بأن…

«الشرق الأوسط» (لندن)

دار «كارولينا هيريرا» تُطرِز أخطاء الماضي في لوحات تتوهج بالألوان

تفننت الورشات المكسيكية في صياغة الإكسسوارات والمجوهرات والتطريز (كارولينا هيريرا)
تفننت الورشات المكسيكية في صياغة الإكسسوارات والمجوهرات والتطريز (كارولينا هيريرا)
TT

دار «كارولينا هيريرا» تُطرِز أخطاء الماضي في لوحات تتوهج بالألوان

تفننت الورشات المكسيكية في صياغة الإكسسوارات والمجوهرات والتطريز (كارولينا هيريرا)
تفننت الورشات المكسيكية في صياغة الإكسسوارات والمجوهرات والتطريز (كارولينا هيريرا)

في مجموعته من خط «الريزورت لعام 2020» أثار مصمم دار «كارولينا هيريرا» ويس غوردن موجة من الاستياء والغضب في المكسيك. اتُهم حينها بالسرقة الفنية والثقافية، لأنه استلهم من تطريزات تراثية مكسيكية بشكل شبه حرفي من دون أن يطلب الإذن من أصحابها ولا أشار إليهم. وصل الأمر إلى تدخل حكومي، جاء على لسان وزيرة الثقافة المكسيكية آليخاندرا فراوستو التي وجَهت رسالة تتهم فيها دار «كارولينا هيريرا» بالانتحال الثقافي وتطالبها بتفسير علني لاستخدامها رسوماً منسوخة من تراث الشعوب الأصلية المكسيكية، وما إذا كان هؤلاء سيستفيدون بأي شكل من الأشكال.

جاءت كل إطلالة وكأنها لوحة مرسومة بالأزهار والورود (كارولينا هيريرا)

كان رد المصمم سريعاً وهو أن فكرة الانتحال لم تكن تخطر بباله، وأن ما قصده كان تكريم الثقافة المكسيكية والاحتفال بها، مُعترفاً أنه لا ينفي أن «المكسيك بالفعل حاضرة بقوة في هذه المجموعة. لكن حرصي على إبراز هذا التراث هو دليل على المحبة التي أكنّها لهذا البلد ولإبداعاته الحرفية التي طالما أعجبت بها وكانت من أهم مصادر إلهامي».

ريزورت 2025

مرت أربع سنوات وأشهر عديدة، وها هو يؤكد أن قوله لم يكن لمجرد التبرير للخروج من ورطة غير محسوبة. هو فعلاً يحب الثقافة المكسيكية، وإلا ما عاد إليها في عرضه الجديد من خط «الريزورت لعام 2025». الاختلاف هذه المرة أنه اتخذ كل التدابير التي تقيه أي جدل أو هجوم. فالعرض كما تشرح الدار «رحلة من الاستكشاف تُعززها العلاقة الممتدة على مدى عقود طويلة بينها وبين المكسيك».

استلهم المصمم ألوانه من غروب الشمس في مكسيكو سيتي والطبيعة المحيطة (كارولينا هيريرا)

عُرضت التشكيلة في منتصف شهر فبراير (شباط) الماضي. اختار لها المصمم غروب الشمس توقيتاً، ومتحف أناهواكالي، مكاناً.

اختيار متحف «اناكاهوالي» مسرحاً للعرض له دلالته. فهو يحتوي على قطع أثرية تعود إلى ما قبل كولومبوس وتحيطه مناظر خلابة تشكلها النباتات المحلية مما جعله مثالياً لعرض يزخر بالتاريخ والفن والجمال. يُعلَق المصمم غوردن «إن مكسيكو سيتي لها مكانة رائدة كمركز عالمي للفنون والإبداعات المعمارية وتجارب الطهو والثقافة، فضلاً عن المهارة العالية التي يتمتع بها الحرفيون المحليون».

اختار المصمم مزيجاً من الألوان التي تتناغم مع بعضها رغم تناقضها (كارولينا هيريرا)

كان واضحاً أنه اتبع هنا مبدأ «ابعد عن الشر وغني له». اكتفى بألوان الطبيعة المستلهمة تحديداً من غروب الشمس والصخور الركانية في مكسيكو سيتي والمناطق المجاورة لها، و تعاون مع أربع فنانات مكسيكيات، ليُرسِخ احتفاءه بالمهارة الفنية والثقافة المكسيكي من دون أن يتعرَض لأي هجوم أو انتقاد.

وهكذا على طول الفناء الأمامي للمتحف الذي تم بناؤه على حجر بركاني منحوت، تهادت العارضات وهن يتألق في تصاميم تراقصت فيها الألوان الزاهية مثل الأزرق والأخضر العشبي، والعنابي، والأصفر الساطع، إلى جانب قطع بالأبيض والأسود. لم يخف المصمم ويس غوردن أنها لوحة رسمها وطرَزها بالتعاون مع فنانات مكسيكيات لهن باع وشغف في مجالات متنوعة، ساهمت كل منهن بضخها بالألوان والديناميكية الجريئة التي تتميز بها الفنون المكسيكية، وهن:

الفنانة ناهنو Nähñu

فنانات برعن في التطريز لهن يد في تشكيل مجموعة من التصاميم (كارولينا هيريرا)

وهي خبيرة تطريز تعود أصولها إلى نانت في تينانجو دي دوريا في ولاية هيدالغو. تفنّنت في ابتكار ثماني قطع قطنية مطرزة مع تدرجات لونية متباينة ظهرت في قمصان وفساتين وسراويل. وتعليقاً على هذا الموضوع، علَقت الفنانة: «تمنحني الأقمشة مساحة للتعبير عن أسلوبي الإبداعي وحالتي المزاجية في مختلف الأوقات. فعندما أشعر بالسعادة أستخدم ألواناً حيوية، بينما أعتمد الألوان الداكنة للتعبير عن شعوري بالحزن». وأضافت ابنتها بيبيانا هيرنانديز، التي ساهمت هي الأخرى في هذه الإبداعات: «نجحنا في هذا المشروع بالتعبير عن أسلوبنا المميز في عالم التطريز. فهو الذي يفسح لنا المجال لإبراز مواهبنا والتعبير عن مشاعرنا المختلفة في الوقت ذاته».

فيرجينيا فيرونيكا آرسي آرسي

من الطبيعة والثقافة المحلية استلهمت الفنانات المتعاونات تطريزاتهن (كارولينا هيريرا)

هي أيضاً فنانة متخصصة في التطريز. أبدعت للدار تطريزات مستوحاة من جمال الطبيعة المحيطة بمدينتها، سان إيسيدرو بوين سوسيسو، بولاية تلاكسالا، التي تشتهر بامتداد منحدرات جبلها البركاني المعروف باسم لا مالينشي.

اكتسبت فيرجينا مهارة التطريز من والدها وهي في سن الـ15، وتعهدت منذ ذلك الحين أن تحافظ على هذه الحرفة وتعمل على تطويرها كلغة فنية لما تُشكله من جزء هام من هوية المجتمع. وتبرز أعمالها في ثلاثة فساتين من الدانتيل المطرز.

جاكلين إسبانا

خزف تالافيرا المُتميز باللونين الأزرق والأبيض كان حاضراً في هذه التشكيلة (كارولينا هيريرا)

مساهمتها تجلّت في تخصصها في خزف تالافيرا المُتميز باللونين الأزرق والأبيض، والذي يشكل جزءاً رئيسياً من النسيج الثقافي في سان بابلو ديل مونتي بولاية تلاكسالا.

عشقت جاكلين هذا النوع من الخزف منذ طفولتها، فعملت على استكشاف مزاياه الإبداعية بعد إنهاء دراستها في مجال الهندسة الكيميائية. وقالت في هذا الصدد أن خزف تالافيرا «يشكل في منطقتنا إرثاً عريقاً نحرص باستمرار على الحفاظ عليه واستخدامه كزينة في المناسبات الخاصة فقط. ولذا، وقع عليه اختياري لاستخدامه في أعمالي الفنية عموماً، وفي هذه التشكيلة خصوصاً».

استلهمت الفنانة من الخزف ألوانه ومن الطبيعة المكسيكية أشكالها (كارولينا هيريرا)

كان دورها أن تبتكر تفاصيل ومجوهرات من الخزف المرسوم يدوياً لتزين بها قطع أزياء وأقراط، كما تشرح: «بصفتي متخصصة بخزف تالافيرا، ألتزم بالحفاظ على إرث هذا الخزف المتوارث عبر الأجيال، والاحتفاء بجوهره والعمل على تطويره من خلال وضعه في أروع الإبداعات».

ورشة «آراشيلي نيبرا ماتاداماس»

تعاونت الدار مع ورشات مكسيكية لإبداع إكسسوارات لافتة بألوانها (كارولينا هيريرا)

تعاونت الدار أيضاً مع ورشة «آراشيلي نيبرا ماتاداماس»، التي تتخذ من أواكساكا دي خواريز بمدينة أواكساكا مقراً لها. وتعتبر مركز الأعمال الحرفية في المكسيك، إذ تتعاون الورشة مع أبرز الفنانين لإعادة ابتكار بعض القطع التقليدية برؤية عصرية. لهذا المشروع عملت الورشة مع حدادين متخصصين في النحاس ومطرزين ورسامين لتزيين الخيكارا، وهي أوعية تقليدية مصممة من قشور القرع المجففة، تُستخدم فيها الألوان وفن التطريز وأنماط المقرمة وغيرها من المواد.

تقول مؤسسة الورشة نيبرا: «أستمد إلهامي من الطبيعة من حولي، بما تحمله من نباتات وأزهار حسب المواسم التي تظهر فيها، إضافة إلى ألوان غروب الشمس». لهذه التشكيلة، نجحت نيبرا وفريقها في ابتكار مجموعة من المجوهرات الملونة يدوياً تشبه أعمالها فن الخيكارا.

لمسات كارولينا هيريرا

حافظت التشكيلة على أسلوبها الراقص على نغمات من الفلامينكو (كارولينا هيريرا)

لم تكتف «كارولينا هيريرا» بهذه التعاونات. عرضت أيضاً مجموعة مصغرة من ألبسة الجينز بالتعاون مع شركة «فرايم دينم»، إلا أن مصممها وبالرغم من شغفه بالثقافة المكسيكية، لم يتجاهل جينات الدار الأساسية، التي ظهرت في أزياء المساء والسهرة. فهذه حافظت على أسلوبها المعروف بأناقتها الكلاسيكية الراقصة على نغمات من الفلامنكو، إضافة إلى تلك الفخامة التي تعتمد فيها دائماً على الأقمشة المترفة والأحجام السخية، والورود المتفتحة.