التغيير في الأرجنتين قد يكون على الأبواب مع الانتخابات الرئاسية في أكتوبر

بين دولة المؤسسات الزراعية والطبقة الوسطى ودولة الصناعيين والعمّال وسكان المدن الكبرى

مظاهرات في العاصمة بوينس آيرس خلال الإضراب العام الأسبوع الماضي طالبت من خلاله النقابات بتعديل الأجور لتتناسب مع نسبة التضخم (إ.ب.أ)
مظاهرات في العاصمة بوينس آيرس خلال الإضراب العام الأسبوع الماضي طالبت من خلاله النقابات بتعديل الأجور لتتناسب مع نسبة التضخم (إ.ب.أ)
TT

التغيير في الأرجنتين قد يكون على الأبواب مع الانتخابات الرئاسية في أكتوبر

مظاهرات في العاصمة بوينس آيرس خلال الإضراب العام الأسبوع الماضي طالبت من خلاله النقابات بتعديل الأجور لتتناسب مع نسبة التضخم (إ.ب.أ)
مظاهرات في العاصمة بوينس آيرس خلال الإضراب العام الأسبوع الماضي طالبت من خلاله النقابات بتعديل الأجور لتتناسب مع نسبة التضخم (إ.ب.أ)

لكل دولة أسطورة تستمدّ منها عناصر هويّتها، وتمدّ بالحياة مؤسساتها السياسية والاجتماعية. للولايات المتحدة «الحلم الأميركي»، كما لفرنسا «الحريّة والأخوّة والمساواة»، كما لمصر هرميّتها الفرعونيّة، ولليابان عزلتها التاريخية في محيطها الجغرافي وقدرتها الخارقة على النهوض بفعل روح التضحية والانتظام.
لكن للأرجنتين أسطورتين تنعكس فيهما الصورة الانفصامية لهذه الدولة التي يعتقد أهلها أنها تقوم في الموقع الجغرافي الخطأ، وأن ثمّة لعنة تلاحقهم مثل قدَر محتوم منذ عقود: أسطورة الشعب، وأسطورة الطبقة الوسطى. الأرجنتين دولة في دولتين. دولة المؤسسات الزراعية الضخمة والمدن والطبقات الوسطى، ودولة الصناعيين والعمّال وسكان المدن الكبرى. الأولى يحمل لواءها الرئيس الحالي ماوريسيو ماكري، والثانية تجسّدها الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنير، وكلتاهما تتواجهان اليوم في صدام تاريخي يشكّل مسرى الحياة السياسية على وقع اهتزازاته المفاجئة وارتداداته المتواصلة منذ أكثر من سبعة عقود. وهو صدام جعل من التاريخ الأرجنتيني الحديث رحلة مكوكية دائمة بين القمّة والهاوية. لكن ثمّة بوادر توحي بأن التغيير قد يكون على الأبواب مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية أواخر أكتوبر المقبل. فالقرار الذي أقدمت عليه كريستينا كيرشنير بتعيين ألبرتو فرنانديز رجل الحوار في الحركة البيرونية، مرشحاً للرئاسة، والعرض الذي قدّمه الرئيس الحالي ماوريسيو ماكري لزعيم المعارضة في مجلس الشيوخ ميغيل آنخيل بيكتّو ليكون مرشّحاً لمنصب نائب الرئيس، يؤشران بأن المعسكرَين السياسيين الرئيسيين قد أحاطا علماً بالإنهاك الذي يعاني منه نموذج الاستقطاب المتطرف بعد أن تكشّف عجزه عن توليد مرحلة طويلة من النمو تنقذ البلاد من الانهيار الكبير الذي باتت قاب قوسين من بلوغه.
هذا النزوع نحو الوسطية من قطبي النزاع التاريخي يفتح الباب، لأول مرة، منذ سبعة عقود، للتخفيف من حدّة الصراع السياسي والاجتماعي الذي مزّق البلاد، لا بد له أن يتأكّد ويترسّخ بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة عندما تنكبّ الحكومة الجديدة على معالجة الأزمة الاقتصادية التي تهدد بانفجار اجتماعي قد يتجاوز تداعيات الأزمة الكبرى عام 2001.
هذا الانفصامية العميقة في السلوك الأرجنتيني ليست مقصورة على المشهد السياسي فحسب. فهي في كرة القدم مثلاً، تأخذ أبعاد المأساة الإغريقية في الصراع العميق بين فريقي «بوكا» و«ريفير»، وفي رقصة «التانغو»، مفخرة الأرجنتين الأولى وأهمّ صادراتها الثقافية والفنيّة، التي تعكس صورة بلد ممزّق من خلال الغناء الذي يدور حول التنازع التراجيدي بين المرأة المحبوبة التي تجسّد الطيبة والوفاء والاطمئنان، وتلك المشتهاة التي تجذب بتحرّرها من الضوابط والقيود.
لكن الانفصاميّة الأرجنتينية هي اقتصادية في أساسها. فالبلاد تعيش منذ عقود على وقع صراع بين تيّارَين متضاربين، ترجح كفّة أحدهما لفترة غير كافية كي تترسّخ كنموذج مستديم للتنمية: التيّار الليبرالي الذي يراهن على الزراعة كمحرّك لقطار النموّ، والتيّار التقليدي الذي يقيم ركيزته الأساسية على قطاع الصناعة والطبقة العاملة التي تمدّه بمقوّمات النمو والاستمرار.
والأرجنتين، الدولة الوحيدة في العالم التي تجتمع فيها كل المناخات، هي قوّة زراعية من الدرجة الأولى (المصدّر الثالث في العالم للصويا، والأوّل للحمضيّات والسادس للحوم). والزراعة هي من القطاعات الاقتصادية القليلة التي تتمتّع فيها بقدرة تنافسية عالية على الصعيد العالمي، والمصدر الرئيسي لعائداتها من العملة الصعبة. لكن هذا القطاع يعيش في تجاذب دائم مع قطاع صناعي مهم يستقطب 20 في المائة من اليد العاملة، ولم يتمكّن بعد من بلوغ قدرة تنافسيّة بمستوى الدول الصناعية الكبرى.
وعلى مرّ العقود المنصرمة، كان القطاع الزراعي يضغط باستمرار في اتجاه الانفتاح الاقتصادي الذي يتيح له تصدير إنتاجه بلا قيود، مع ما يستتبع ذلك من انخفاض في الضرائب وتحرير لشروط المبادلات التجارية، ونهج سياسة خارجية متناغمة مع الدول الكبرى التي هي أيضاً الأسواق الرئيسية للصادرات الزراعية الأرجنتينية. كلٌّ من هذين التيّارَين يقتضي نموذجاً اجتماعياً مختلفاً. فالتيّار الأول الذي أرست قواعده الديكتاتورية العسكرية الأخيرة، ويحاول الرئيس الحالي ماوريسيو ماكري إحياءه، منذ سنوات، يتطلّب سوقاً أضعف لليد العاملة مقارنة بالقطاع الزراعي، ما يؤدي إلى تعميق الفوارق الاجتماعية التي تفاقمت في الفترة الأخيرة. أما الثاني، الذي ترفع لواءه الحركة البيرونية الشعبويّة، فهو يدفع باتجاه التركيز على القطاع الصناعي وتمكين الهيئات النقابية التي غالباً ما تطلق شرارة النزاعات الاجتماعية في الأزمات. لكن أيّاً من التيّارَين لم يتمكّن من أن يسود لفترة كافية تسمح له بدحر التيار الآخر، كما حصل بالنسبة للتيّار الليبرالي في تشيلي أو في البرازيل، حيث تمكّن من الاستمرار خارج تقلّبات اللعبة السياسية. هذا الصراع المزمن هو الذي جعل الاقتصاد الأرجنتيني في حال دائمة من الاضطراب الشديد والتغييرات المفاجئة التي ما زالت تدقّ على الأبواب إلى اليوم. فقد انتقلت الأرجنتين من أكثر النظم شعبويّة في المنطقة مع الحركة البيرونية الأولى في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلى مرحلة طويلة من الحكومات الديمقراطية الضعيفة التي تخللتها أنظمة عسكرية ليبرالية الاتجاه أسفرت في النهاية عن واحد من أبشع النظم الديكتاتورية من 1976 إلى 1983. ومع عودة الديمقراطية المترنّحة على وقع الأزمات الاقتصادية والتضخّم حتى عام 1989، جنحت الأرجنتين نحو الليبرالية الجديدة، قبل أن تعود مجدداً إلى الشعبويّة البيرونية التي أعادت تأميم الشركات الكبرى على عهد كيرشنير، لتجنح مجدداً نحو الليبرالية مع الرئيس الحالي.
لكن يسود الاعتقاد اليوم بأن هذا التاريخ المضطرب قد يكون على أبواب نهايته مع الانتخابات الرئاسية التاسعة منذ عودة الديمقراطية. فبعد أن اكتملت عناصر مواجهة تراجيدية جديدة بين التيّارين، قرّر الطرفان إجراء تغيير جذري في استراتيجيتيهما، واختار كل منهما شريكاً يعكس بوضوح إرادة مشتركة للبحث عن صيغة للحكم تتيح للبلاد القدر الكافي من الاستقرار اللازم لوقف النزف ومنه الانهيار الكبير.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟