قوة المرأة وضعف الرجال

دعابات من الأدب والتاريخ

نابليون
نابليون
TT

قوة المرأة وضعف الرجال

نابليون
نابليون

صيغ القانون المدني الفرنسي الذي درج العرف على تسميته «القانون النابليوني - Code Napoleon»، وكما هو معروف فإن الرجل كان مشهوراً بولعه الشديد بالنساء. ويُقال إن امرأة جميلة استفسرت منه عن سبب غياب حقوق المرأة في هذه الوثيقة فردّ عليها بما يبدو أنه كان يغازلها قائلاً: «إن الطبيعة منحت المرأة سلطات واسعة على الرجال فارتأى القانون بحكمته أن يُحجمها»... فلا خلاف على أن المرأة مظلومة تاريخياً، فالسواد الأعظم من التاريخ البشري سواء الواقعي أو الأدبي يعكس هذا بوضوح، فالمرأة ظلت على مدار ألفيات مُصنفة إما أنها مخلوق تابع للرجل و إما أنها وعاء متعة وإنجاب وحكر، وانتقصوا من حقوقها ووجودها، وحتى عندما منحها الإسلام الحريات والحقوق، أتى علينا بعض التفسيرات التضييقية.
وأمام هذا الغبن لم تجد المرأة سبيلاً لكسر هذه القيود إلا بالتحايل عليها عبر استمالة الرجل، حتى تأثر بهن كثير من الرجال بدرجات متفاوتة. ويثبت التاريخ والأدب أن أشطرهن على الإطلاق هي التي كانت تسيطر دون أن تُشعر زوجها. وقد ورد في كتاب الله العزيز إشارات في هذا الاتجاه، والعهد القديم يؤكد ذلك في مواضع عديدة منها تأثير «سالومي» على الملك «هيرود» حتى استمالته فأمر بقطع رأس «يوحنا المعمدان»، وقصة «شمشون الجبار» الذي سلم مصيره لزوجته فقامت بقص شعره (مصدر قوته) فاستيقظ الرجل من دون شعره وقوته.
وأياً كانت مصادر قوة المرأة التي أشار إليها «نابليون»، فالثابت أنهن كانت لديهن قدرات فائقة عوّضن بها غبن الرجل وسلبه حقوقهن سواء بشكل إيجابي مهم أو سلبي... والأدب والتاريخ شاهدان على ذلك، فمَن منّا لا يتذكر رائعة «شكسبير» العظيمة «ماكبث» والدور الكارثي لزوجته «الليدي ماكبث» والتي دفعت زوجها دفعاً للقتل والكذب والافتراء وصياغة المصائب حتى صار زوجها مسلوب الإرادة فاضطر إلى اللجوء للكبت النفسي لينسى ما اقترفت يداه. ولكن تظل شخصية «كليوباترا» في رائعتَي شكسبير «يوليوس قيصر» أو «أنتوني وكليوباترا» تجسيداً رائعاً لهذه الظاهرة، فكليوباترا استطاعت تركيع عظيم روما «يوليوس قيصر» بسحرها، ونفس الشيء مع المحدود سياسياً الذي تبعه «ماركوس أنطونيوس» فكانت النتيجة انتحارهما في النهاية أمام قوة وذكاء غريمهما الشاب «أوكتافيوس»، وقد كان شكسبير رائعاً في توصيفه لسبل ربط الطموح بالأنوثة المغلّفة بالذكاء، حتى إن الكاتب اليساري العظيم «إيمانويل والرشتاين» كتب يستفسر: «ماذا كانت ستصبح مسيرة التاريخ لو أن منخار كليوباترا كان طويلاً ومقززاً»؟». وعلى النقيض فلا يُنسى الدور الإيجابي للمرأة، ومن أمثلتها خارج نطاق تاريخنا العربي «الليدي جودايفا» في التأثير على زوجها الملك لثنيه عن سياساته الضريبية البائسة تجاه الرعية وإقناعها له بالتراجع عنها، كما لا يُنسى أيضاً الدور العظيم لـ«ثيودورا» زوجة الإمبراطور البيزنطي «جاستنيان» التي كانت أول من أدخل الإصلاح السياسي والاجتماعي وحقوق المرأة في الجسد البيزنطي المترهل، والأمثلة كثيرة ومتعددة للتأثير الإيجابي للمرأة على الرجل.
ولا يخلو أي أدب من إبراز مفهوم القوة الكامنة للنساء وفقاً لكل أديب، ولكن تقديري أن كل الأدبيات تنحني أمام عظمة «هند بنت النعمان» وأدبياتها، فكانت امرأة جميلة وشاعرة عظيمة من سلالة عراقية عريقة تزوجها الحجاج بن يوسف الثقفي عنوة، فكانت الوحيدة التي أعتقد أنها أذلّته كما لم يذلّه أحد، فأنشدت فيه شعر هجاءٍ تضمّن:
«وما هند إلا مهرة عربية
سليلة أفراس تحللها بغل
فإنْ ولدتْ فرساً فلله درُّها
وإنْ ولدتْ بغلاً فجاء به البغل»
وعندما نما ذلك لعلم الحجاج واستعدادها لإبراء نفسها طلّقها بكلمتين «بنتي فكنتي»، وعندما بلغت القصة الخليفة البليغ عبد الملك بن مروان أُعجب بها رغم أنه لم يرها، فبعث يَخطُبها فردت عليه برسالة قصيرة تضمنت: «فاعلم يا أمير المؤمنين أن الوعاء ولغ فيه كلب»، فانفجر عبد الملك ضاحكاً وازداد تمسكاً بها، فكان شرطها أن يقود الحجاج موكب زفافها إليه، فكان لها ما طلبت، وفي الطريق استمر كيدها للحجاج وعندما حاول الأخير التلميح بشعر مبطن بالهجاء ردّت عليه بكيد بليغ قائلة:
«وما نبالي إذا أرواحنا سلمت
بما فقدناه من مال ومن نشب
فالمال مكتسَب والعز مرتجَع
إذا النفوس وقاها الله من عطب»
وإمعاناً في المذلة والكيد أمرت جاريتها وهي في الطريق برمي درهم تحت رجل الحجاج وقالت إنها فقدت ديناراً، فلما جاءها به الحجاج قالت بكل برود وذل: «الحمد لله... سقط منا درهم فعوضنا الله ديناراً» في إسقاط مباشر على ضآلة الحجاج أمام الخليفة.
وأمام هند وبنات نوعها، فمعشر القراء من الرجال مطالَبون بمسح ابتساماتهم والتفكر الفوري... فإذا ما أدركنا أن الطبيعة قد منحت المرأة سلطات لا بأس بها وأن التوجه المحق والشرعي لإعادة الحقوق للمرأة في شتى الميادين، فإنني آمل ألا تدفع أجيالنا ومن بعدنا من الرجال فاتورة كل الكوارث والغبن الذي اقترفه جدودنا من الذكور ضد المرأة عبر الزمن، فالتاريخ ثابت والمستقبل واضح وقدر الله واقع.



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.