لن تموت الرواية

حاجة إنسانية وجودية ووريث شرعي للأساطير والملاحم البطولية

لن تموت الرواية
TT

لن تموت الرواية

لن تموت الرواية

ليس القول بموت الرواية (والأدب بعامة) موضوعا جديدا أو غير مطروق من قبل؛ فقد تواترت النبوءات المبشرة بموت الرواية منذ بواكير الحداثة الروائية عقب الحرب العالمية الأولى ثم تعاظمت تلك النبوءات وعلت نبرتها المنذرة في العقود اللاحقة، وغدا في عداد الموضوعات الشائعة أن الرواية الحديثة فتحت بوابة الموت أمام الفن الروائي الذي كان موطّد الأركان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. يمكننا - مثلاً - أن نذكر العبارات الافتتاحية التالية التي كتبها الناقد الأدبي الراحل ذائع الصيت فرنك كيرمود Frank Kermode قبل ما يزيد على الخمسين سنة، وهي منشورة في سياق مقالة بعنوان (حياة الرواية وموتها Life and Dath of the Novel) في (مراجعة نيويورك للكتب) بتاريخ 28 أكتوبر (تشرين الأول) 1965: إن القدر الخاص للرواية - باعتبارها نوعاً أدبياً - هو أن تنتهي دوماً إلى حالة الاحتضار، والسبب الجوهري وراء هذا الأمر هو الإدراك الواعي والدائم للروائيين والقرّاء الأكثر ذكاءً بتلك الفجوة - المحشوة سخفاً والتي لا تنفكّ تتّسع - بين العالم على الشاكلة التي يبدو بها لنا وبين ذلك العالم المفترض في الروايات. بالطبع الروائيون وحدهم وقرّاؤهم الأكثر ذكاء هم من يتجرّأ على التصريح باحتضار الرواية، في حين تبدو الغالبية من العامة سعيدة بما تُتاحُ لها قراءته من الروايات التي تحوز على الرؤى والمثابات الرئيسية للفن الروائي - تلك المعالم الجوهرية للفن الروائي التي دعاها سكوت (المقصود هو السير والتر سكوت Walter Scott) بأنها (موطن الرواية) في سياق حديثه عن الرواية الإنجليزية في القرن الثامن عشر.
قيل هذا قبل ما يزيد على النصف قرن من الزمان، ولكن الرواية لم تحتضر ولم تمت، ولا أحسبها ستموت أبداً. سأناقش في الفقرات التالية بعضاً من الأسباب التي تجعل من الرواية فناً يستعصي على الاحتضار والموت اللذين يبشّر بهما بعض النقاد التوّاقين لسيناريوهات النهايات الكارثية للعالم والإنسان:
1- الرواية حاجة إنسانية وجودية: ثمة الكثير من الحاجات المرتبطة بالوجود البشري، وبالطبع تندرج الرواية في فئة الحاجات التي تعزّز نوعية الحياة البشرية وتدفعها فوق مستوى الحاجات البيولوجية البدائية كما تعزّز ملكات التخييل البشري وتمنعها من الذبول والانطفاء. من الضروري هنا التأكيد على أن الحاجة الوجودية للرواية (مثل غيرها من الحاجات البشرية مثل الحب، والصداقة، والخيال...) لا ترتبط بمستوى تقني معين أو أي تغيّر يطرأ على أشكال العلاقات البشرية المستجدة والمتغيرة باستمرار وذلك لأن الرواية، وبغضّ النظر عن أي تحليل أو نسق نظري معتمد في دراستها، هي فعالية فردية يوظف فيها الروائي ملكاته الخاصة في مديات مملكة الإبداع التي لا تحدّها تخوم ولا تُحَدّد تضاريسها وفقاً للمتطلبات التقنية الكامنة خارج العقل المبدع، وفي الوقت ذاته ثمة إقبال متزايد من جانب القرّاء لقراءة الأعمال الروائية في جميع الأوقات وكيفما كانت الوسائط التقنية السائدة، ولم يُؤشّرْ يوماً خفوتٌ أو ميلٌ للانكفاء عن قراءة الأعمال الروائية في كافة أجناسها.
2- الرواية ترياق مضاد للعقلانية الديكارتية الصارمة: تعدّ الرواية - كما هو معروف على نطاق واسع - وريثاً شرعياً للأسطورة والملاحم البطولية؛ حيث يجري إطلاق العنان للخيال البشري لبلوغ تخوم تمثل عائقاً أو استحالة فيزيائية في الأحوال الطبيعية، وبعد حلول عصر التنوير الأوروبي طغت النزعة التحليلية الديكارتية بثنائيتها الصارمة (العقل - الجسد) والتي أمست واحدة من أهم موضوعات التحليل الفلسفي بعد ديكارت، وقد تسبب هذا التغوّل العقلاني الصارم في ابتعاد الرواية عن فكرة الأبطال البشريين الأسطوريين ذوي القدرات الفائقة والتركيز بدلاً من ذلك على قيم الفضيلة والأخلاقيات التي شهدت نوعاً من الانسحاق، ثم صار الميل الروائي تجاه إحياء شعلة التخييل البشري والحفاظ على توهجها وبخاصة في أعقاب الثورة الصناعية الأولى التي كرّست التنظيم العقلاني الصارم وأسرت الفرد في شبكة لانهائية من الضوابط الصارمة المفروضة من قبل الحكومات التي نشأت مع بزوغ مفهوم الأمّة - الدولة.
تواصلت أشكال التنظيم المؤسساتي وتنوعت وازدادت تعقيداً في أعقاب الثورة الصناعية الثانية والثورة المعلوماتية، وبتنا نشهد مع كل ثورة تقنية ظهور أشكال روائية جديدة ترمي لفتح آفاق جديدة أمام الخيال البشري.
3- الرواية معرفة وأخلاقيات لا يمكن الاستغناء عنها: أرى أن هذا موضوعا يحتاج شيئا من التوضيح.
ساد شعور لدى الآباء المؤسسين للفن الروائي أن الرواية هي شكل من أشكال المعرفة، ولكنها تختلف عن المعرفة المواضعاتية التي تقوم على قواعد العلم المنطقية وأساسيات البحث العلمي، في حين أن المعرفة الروائية هي أقرب إلى الحفر الفلسفي في الذات البشرية باعتماد وسائل غير معتمدة في العلوم الراسخة وإنما تقوم على قاعدة من التخييل الخلاق المرتبط بالخزين التطوري الهائل للإنسان. أما بالنسبة للأخلاقيات فنحن هنا أمام مفهوم قد يبدو غريباً بعض الشيء؛ إذ كانت الرواية توصف بالأخلاقية متى ما ساهمت في اكتشاف جوانب من المعرفة البشرية بوسائلها الخاصة.
إن كون الرواية وسيلة تساهم في توسيع مديات المعرفة البشرية وتسعى في الوقت ذاته لتعزيز الجانب الأخلاقي (بالمفهوم الروائي الذي وصفناه) هو بالضبط أحد العوامل التي تجعل الحديث عن احتضار الرواية وموتها الوشيك هراءً خالصاً لا يُحتمل؛ إذ هل يمكن مثلاً أن تموت الفيزياء أو الكيمياء أو غيرهما من العلوم التي تعزّز الرصيد البشري من المعرفة؟
4- إعادة تكييف الشكل الروائي لا تعني موت الرواية: واجهت الرواية تغييرات عظمى في الوسائل والتقنيات والأشكال السردية؛ حيث بدأت رواية ملحمية ثم غدت واقعية تصويرية، ثم دخلت عصر الرواية الحداثية، ثم ما بعد الحداثية، ثم انتهت رواية معاصرة أقرب إلى شكل الرواية «الكلاسيكية المحدّثة» التي يمكن معها قول أي شيء وكلّ شيء بعد أن لم يعُد أي موضوع بشري عصياً على التشريح بمبضع الروائي المعاصر.
ثمة إشكالية لا بد من الإشارة لها، يحدث دوماً عقب كل انعطافة تحصل في الشكل الروائي تبشيرٌ باحتضار الرواية وموتها الوشيك في توهّمٍ واضحٍ بأن الشكل الروائي المستجد سيكون نوعاً فنياً متمايزاً عن الرواية السابقة إلى حدّ يكفي لإعادة توصيفه بوصف جديد مختلف عن الرواية، وهو الأمر الذي أثبت دوماً أنه محض هوس عابر بالمخالفة والخروج على السياقات الفنية المعتمدة بتأثير دافع سيكولوجي يرى في المخالفة نوعاً من الانغماس في روح التغيير الحداثي الثوري.
إن المآل الذي انتهت إليه الرواية المعاصرة لهو البرهان الأعظم على خطأ القول بموت الرواية، إذ تبدو الرواية المعاصرة أقرب إلى تأكيد الشكل الكلاسيكي في الرواية مع تطعيمه بأشكال سردية حداثية فرضتها التغيرات التقنية التي جاءت بها الثورة الرقمية والمعضلات الإشكالية غير المسبوقة في الوضع البشري.
5- الرواية وسيط معرفي ثري غير قابل للاستبدال: نشهد اليوم وفي كل بقاع عالمنا انحساراً معرفياً كبيراً لدى الأجيال الناشئة في مقابل تفجر معلوماتي هائل، وتكمن المشكلة دوماً في كيفية تحويل ذلك التفجر المعلوماتي - الذي يشبه الانفجار الكوني العظيم - إلى معرفة موجهة لتحقيق صالح الفرد والمجتمع معاً، وقد جاءت لنا الوسائط الرقمية الشائعة بنوع من القدرات السهلة والجاهزة للحصول على المعلومة إنما دون توظيفها اللاحق في صيغة معرفة هادفة تقود إلى خبرة تحليلية منتجة، ثم تفاقمت هذه الإشكالية حتى على صعيد المؤسسات التي كانت تُعتبر تقليدياً مصادر مزوّدة للمعرفة (مثل المدرسة والجامعة والصحيفة اليومية) بعد انحسار الرغبة في القراءة الرصينة والاستعاضة عنها بالمتعة الصورية العابرة والمفتقدة لأي قيمة فلسفية، ووصل الأمر حداّ بلغ معه مرتبة المعضلة القومية في كثير من الدول بعد أن شهدت مُخرجات التعليم تباطؤاً واضح المعالم في القدرات الجمعية؛ إذ بات التفوق والإنجاز الأكاديمي وغير الأكاديمي غارقاً في الفردانية وبعيداً عن التمثلات الجمعية أكثر من ذي قبل. يمكن للرواية، وسط بيئة بهذه المواصفات، أن تكون وسيطاً معرفياً مقصوداً أكثر من أي وسيط آخر لتوفير المعرفة الهادفة عبر توظيف وسائلها اللامحدودة في المناورة والقدرة على تمرير الأفكار في إطار جمالي مغلّف بالمتعة.
تلمّستُ في قراءاتي للرواية العالمية المعاصرة - وعبر ترجماتي لحوارات كثيرة - ميلاً طاغياً للروائيين المعاصرين نحو جعل الرواية نصاً معرفياً بحدود ما يمكنهم توظيفه ويأنسون له، وسنلمس في روايات القرن الحادي والعشرين قبساتٍ متزايدة من المعرفة العلمية والفلسفية والسيكولوجية والتاريخية تتواشج مع الصفات الخاصة لكل شخصية وتبرز اهتماماتها وأحلامها ونمط سلوكها، ويتفق هذا الأمر مع القناعة المتزايدة بأن الرواية الحديثة ستلعب في السنوات المقبلة دور (الحاضنة المعرفية) التي تزوّد الأجيال القادمة بقدر معقول من تلاوين المعرفة المتجددة للفئات المسحورة بالعالم الرقمي، وسيكون بوسع الروائي المتمكّن (عبر مقاربة مفردات المعرفة بوسائل ناعمة وسلسة) إعادة التوازن بين المعرفة التحليلية والرقمية المهيمنة ليساعد بعمله الإبداعي على تعزيز كفاءة قرائه الشغوفين في استخدام الطاقات الخلاقة المتاحة للعقل البشري.
الرواية حيّة باقية لن تموت، وليس هذا ضرباً من التفكير الرغائبي بقدر ما هو تأكيد لحاجات بشرية لها جوانبها البراغماتية وإن كانت تتطلّع إلى مثابات مثالية ضرورية لبقاء الجنس البشري واستدامته وسط ظروف صراعية معقّدة تعاكس ارتقاء حياة الكائن البشري في الجوانب العقلية والسيكولوجية والروحية.
- كاتبة وروائية ومترجمة عراقية مقيمة في الأردن



انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية
TT

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

صدر حديثاً عن دار «سطور» ببغداد كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» للمؤلّف السعودي محمد رضا نصر الله، الذي عُرف منذ السبعينيّات إعلامياً اتخذ من الصحف والمجلات والتلفزيون وسيلة للتعبير عن أفكاره ورؤاه.

انفتح عنوان الكتاب على لفظ أصوات وهي تلاحق الأَثر المسموع الذي يصل الآذان جرّاء تَمَوُجات قادمة من مصدر ما ينتمي إلى الأدب المكتوب بجنسيه المعروفين الشعر، والنثر، وما يتناسل منهما من أنواع أدبيّة معروفه، وأنماط، فضلاً عن أصوات الفكر التي تعامل معها المؤلّف بروح الأدب، وخفايا أخرى اتخذت من المجتمع ظواهر حاول المؤلّف نصر الله أن يقف عندها موقفاً يبعده عن أسلوب العرض، ليقرّبه نحو ممارسة النقد، وحضور المساءلة المنفتحة على البيئات الحاضنة للأدب سواء كانت تاريخيّة أم جغرافيّة أم اجتماعيّة أم لسانيّة؛ تلك التي تحيل على مقولات عامرة بالمعنى.

وتفضي قراءة الكتاب إلى الوقوف عند ظواهر ثقافيّة تنتمي إلى ثقافة الوطن العربي جميعه من مشرقه إلى مغربه، وهذا دليل على سماحة الفكر الذي حمله المؤلّف واتساع معرفته بالثقافة العربيّة القديمة والحديثة، بل تجد في الكتاب أشتاتاً من الإحالات التي تلاحق ما في آداب الشعوب الأخرى، ولا سيّما تلك التي لها أثر في ثقافتنا المعاصرة.

من هنا وجدتُ المؤلّف منفتحاً على الأدب العربي من دون أن يشعر بعقدة الانتماء إلى أدبه الوطني، فهو يتحدّث عن الأدب العراقي والمصري والمغربي والخليجي والفلسطيني، والسوري، والسوداني بوصف كلّ منها جزءاً من أدب أكبر هو الأدب العربي بتيّاراته المحافظة المعروفة، ومحاولات التجديد فيه. وبالنظر لسعة حجم الكتاب (449 صفحة)، فإنّ هذه المقالة ستلاحق مضمون الكتاب من خلال النافذة التي رأت الأدب العراقي، واتخذت منه وسيلة للقراءة، والتحليل المفضي إلى بيان ما ودّ المؤلّف قوله فحسب؛ بسبب حجم المقالة وحرصها على عدم الاتساع.

بدءاً لا بد من التأكيد على أن المؤلّف امتلك معلومات مهمّة عن الأدب العراقي مصدرها القراءة، والملاحقة الميدانيّة، والانفتاح الثقافي على أحوال العراق، والمشاركة في قسم من فعّالياته التي كانت علامة في تاريخ الثقافة العراقيّة مثل: مهرجان المربد، فضلاً عن علاقاته المتميّزة مع أدباء العراق ممن رحل إلى دار البقاء، أو ممن يعيش الآن منتجاً للثقافة والفكر، وعندي أنّ المؤلّف في انفتاحه الثقافي على الحياة العراقيّة كان جزءاً من حال الثقافة السعودية في جميع عصورها وهي ترنو صوب بغداد، والكوفة والبصرة، والموصل ليكون لها تواصل تامّ، ورغبة حميمة في جمع الشمل لمن يقرأ ويكتب بحروف لها تاريخها المضيء بعمر آلاف السنين، فهو - المؤلّف - متحسّس لتراب العراق، وروحه منغمرة في مياه دجلة والفرات - بحسب قوله - في إشارة كنائيّة إلى قربه من العراق أرضاً وشعباً، وقد زاره في أوائل الستينيّات كما ذكر، ولي أن أشير هنا إلى أنّ الموضوعات العراقيّة في الكتاب ظهرت مستقلة في مقالات سأتخذها مجالاً للقراءة، فضلاً عن ظهورها مختلطة مع مقالات أخرى لا شأن لها بالعراق لكنّ طبيعة الحديث في المقالة أفضى إلى الإحالة على ما في العراق، مثالها مقالة «صور معهم» التي تحدّث فيها نصر الله عن البحرين، وعن والده، والشاعر المصري أمل دنقل، ثمّ كانت الإحالة على ديوان بدر شاكر السياب «إقبال وشناشيل ابنة الجلبي» المُهدى إلى المؤلّف من غيلان ولد السياب البكر، وقد طوّف الحديث بالمؤلّف إلى استرجاع زيارته إلى جيكور في عام 1979.

اخترت الوقوف الأول عند مقالة «خطى المتنبي الهاربة بين ميمين»، وهي مقالة تابعت إشارة د. عبد الرحمن السديري التي مؤداها أن «بسيطة» التي وردت في قصيدة للمتنبي هي على مرمى من عيون ضيوفه، في إشارة إلى مكانها السعودي المعاصر، وهذه الإشارة أوحت إلى د. عبد العزيز المانع أن يتتبّع خطى المتنبي، فعمل أولاً على تحقيق «المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب المتنبي» للأزدي، ليتمكّن فيما بعد من تحقيق «قشر الفسر» للزوزنيّ، ولم يكتف بذلك فتناول «الفسر الصغير في تفسير أبيات المعاني في شعر المتنبي» لابن جني فحقّقه، ثمّ عكف على السير على خطى المتنبي من مصر إلى حدود العراق مستعيناً بخرائط المساحة العسكريّة في عشر رحلات بين مصر والأردن وسوريّا، ولم يتمكّن من دخول العراق بسبب سوء الأمن يومها.

رأى مؤلّف الكتاب أن يوسف الشيراوي أصدر قبل المانع كتابه «أطلس المتنبي أسفاره من شعره وحياته»، وهو من الكتب الجليلة التي تابعت رحلات المتنبي الشهيرة، ويعود المؤلّف إلى قرن من الزمن مضى ليقف عند ألويز موزيل الرحّال والمستشرق النمساوي التشيكي الذي عاش أربعة عشر شهراً في قبيلة «الرولة»، مكتشفاً امتداد الصحراء وأهلها، فضلاً عن أنه رافق قوافل «عبدة» و«سنجار» إلى النجف، وقد وقف على موقع الخورنق الوارد في قصيدة المنخّل اليشكري، تاركاً كتباً أخرى في وصف مناطق من العراق تتبّع في بعضها طريق المتنبي الهارب من الفسطاط إلى دمشق، وتبوك والجوف والسماوة والرهيمة ثمّ الكوفة في شرح دقيق متعلّق بالأمكنة.

قام د. عبد العزيز المانع بعشر رحلات منطلقاً من أرض مصر ليصل الأردن وسوريا وشمال المملكة العربيّة السعودية وصولاً إلى حدود العراق، وقد ناقش في تلك الرحلات ذوي الخبرة، وهدفه إثبات رحلة المتنبي الحقيقية على الأرض في كتاب أنيق عنوانه «على خطى المتنبي»، وإذ أنتهي من قراءة المقالة أتساءل ما دلالة لفظ الميمين في عنوانها؟ لعلّه أراد بها مصر والمانع وقد شكَّلا فضاء تلك الرحلة عن قرب.

ووقفت ثانية عند مقالة «أسماء متنازع عليها بين المملكة والعراق»، التي أتى فيها على طبيعة العلاقات الثقافيّة التي ربطت السعودية بالعراق من خلال وقائع ماديّة، وثقافيّة مشتركة بين البلدين من خلال أسماء عاشت في العراق وهي تردّ إلى أصول نجديّة معروفة من أمثال: عبد اللطيف المنديل، وسليمان الدخيل، وسلمان الصفواني، ومحمد القطيفي، وعبد الحسين القطيفي، وعبد الرحمن منيف، ومحمود البريكان، وآخرين، وعندي أن أسماء أخرى ربّما غابت عن المؤلّف بسبب دورها المحدود في الحياة الثقافيّة والسياسيّة، ولا عجب من كثرة تلك الأسماء إذا ما علمنا أن أصل القبائل العربيّة في العراق يردّ إلى شبه الجزيرة العربيّة، وأنّ العلاقة بين الأرضين قديمة قدم الإنسان نفسه.

يممتِ الوقفة الثالثة شطرها نحو مقالة «ما لم تنقله الكاميرا... في حديث الجواهري»، وفيها أماط اللثام عمّا قاله الجواهري خارج حدود اللقاء الإعلامي الذي أجراه معه، وقد كشف المؤلّف عن كرم الشاعر، ومعرفته ببعض العوائل السعودية وأحوالها، وفي لقاء اليوم الثاني بعد المقابلة حاول الجواهري التقرب من السعودية مذكّراً مؤلّف الكتاب بقصيدته التي مدح فيها الأمير فيصل بن عبد العزيز حين زار العراق ممثّلاً لأبيه التي منها:

«فتى عبد العزيز وفيك ما في... أبيك الشهم من غرر المعاني»

تلك القصيدة التي مدح فيها الملك عبد العزيز، والأمير فيصل معاً، وقد نشرت في جريدة أم القرى في الثلاثينيات من القرن المنصرم، ثمّ قدّر للجواهري زيارة المملكة مشاركاً في مهرجان الجنادريّة في 21- 7- 1994.

ووقفت في وقفة رابعة عند «جنتلمانية الاستعمار بين الطيب صالح والجواهري»، وفيها أماط المؤلّف اللثام عن رؤية النقد الآيديولوجي الذي عدّ الطيب صالح أنموذجاً للمثقف العربي المنبهر بحضارة الغرب، والمتمثّل لقيمها الإمبرياليّة من خلال روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، فضلاً عن عدّه منيف الرزاز في رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» أنموذجاً للمثقف الثوري المدافع عن قضايا الفلاحين، وكأنّ المؤلف أراد أن يكشف عن مضمر ذلك النقد الذي أثبتت الأيام خطله وهو يعتمد الصراع الذي يختزل العالم بين معسكرين لا ثالث لهما: الماركسي والرأسمالي رافضاً أن يكون الفن من أجل الفن نفسه، وقد استعان برأي الشاعر الجواهري الذي تباكى على عصر الملكيّة العراقيّة في مذكراته رغم معارضته الشديدة لذلك النظام بعد أن تخلّص من أهواء الآيديولوجيا.

وفي الوقفة الخامسة قرأت مقالة «مذكرات الجواهري» التي كان متنها مفاجأة للمؤلف، وقد وعى فيها الشاعر طبيعة الحياة السياسيّة التي عاشها في العراق وخارجه، وقد كتبها نثراً ذهبيّاً صافياً مسبوك العبارة بديباجة تكشف عن أسلوب رفيع، وهو الشاعر المطبوع فكأنه - والكلام للمؤلّف - جمع بين الصناعتين: الشعر والنثر، فقد وجد المؤلّف تلك الذكريات سرديّة صادقة انفتحت على تجربة الشاعر الاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة التي لاحق فيها حياة قرن كامل وهو يسبر أغوار الأمكنة بين بغداد والمنافي التي اختارها.

وأخذني الكتاب نحو ريادة د. علي جواد الطاهر في تدريس الأدب السعودي وصناعة معجم مطبوعاته، ففي تلك المقالة سرد المؤلّف حكاية الطاهر الذي نزل الرياض أستاذاً في جامعتها في الستينيّات، فكان عليه أن يلمّ مبكّرا بشؤون الأدب السعودي بدءاً من كتاب «وحي الصحراء» لمحمد سعيد عبد المقصود، وعبد الله عمر بلخير، مروراً بكتابي «شعراء نجد المعاصرون» لعبد الله بن إدريس و«أدب الحجاز» لمحمد سرور الصبان، وانتهاء بما وجد من جرائد ومجلّات تسدّ حاجة قلمه، حتى قدّر له الاجتماع بأهمّ أدباء السعودية من أمثال: حمد الجاسر، وعبد الله بن خميس، وعبد الله بن إدريس، وقد طرح عليهم فكرة مشروعه الموثّق لتاريخ النشر في البلاد في معجم يعنى بالمطبوعات السعودية، فكان له أن بدأ بنشر أجزاء من ذلك المعجم في مجلّة العرب التي أحبها أولاً، ثمّ طوّر فيما بعد تلك المقالات كتاباً مستقلاً، فكانت للطاهر يد بيضاء في تاريخ الثقافة السعودية، وليس هذا بالغريب على شخصيّة الطاهر التي كانت دائمة الحضور ثقافيّاً بعيداً عن الإقليميّة والنظر الذي يضيقُ بالمكان.

ووجدتُ المؤلّف في «أيها العراقي هلَّا خرجت من مزرعة البصل؟» ينادي بصوت عالٍ العراقي المعاصر الذي يريده أن يخرج من دائرة الزعامة القاتلة التي يرى فيها نفسه كبيراً في ظل تعدد رؤوس الكبار؛ تلك التي ترى في نفسها ما يراه هو، وقد أحال على قصيدة الشاعر العراقي علي الشرقي «مزرعة البصل»، التي فضح فيها الرؤوس الأولى في أول عهد الحكم العراقي الوطني، وهي تتشابه وحجم رأس البصل!، يبدو أن التاريخ يعيد بعض أنساقه المضمرة كي تكون ظاهرة للعيان، فكانت وقفتي السابعة مع تلك المقالة.

وكانت الوقفة الأخيرة عند مقالة «الجاحظ يحذّر العرب»، التي فضح فيها مبكّرا الخصومات بين العرب والشعوب الأخرى، وبين العرب أنفسهم، وكأنّ المؤلف أراد التأكيد على أن الحياة العراقيّة المعاصرة ترفض رفضاً كليّاً الصراعات القوميّة، والإقليميّة، والقبليّة في ظلّ مجتمع حديث متسامح تتنوع في مقاماته الثقافة، وتتوزّع لتكون في النتيجة وجهاً من وجوه تسامح الإنسان مع نفسه والآخر.

إنّ كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» كتاب ثقافة حاول أن يقرأ عدداً من الموضوعات التي تشمّ من متونها رائحة الأدب بمفهومه الذي يتماس وطبيعة المجتمع العربي، وهو يتساوق والدعوات التي تحيل على أهميّة الممارسات التي تكشف عن وظائف ثقافيّة تتماس وحاجة المجتمع، فضلاً عن إحالته على عدد ليس بالقليل من المتون الأدبيّة ذات النَفَس الثقافي المبهر لتظلّ الحاجة ملحّة لإعادة طبعة في متن جديد بعد أن يقف من الملاحظات الآتية موقف المصحح الوفي لكتابه:

أولاً: جاء في الصفحة 239 أنّ (الأديب العراقي هلال ناجي الذي يعمل لدى د. علاء حسين الرهيمي عميد كلية آداب جامعة الكوفة) والكلام ملتبس بلا شك؛ لأنّ الأستاذ المحقّق الثبت هلال ناجي - رحمه الله - لم يعمل موظفاً في جامعة الكوفة، بل كان ملحقاً ثقافيّاً في القاهرة في الستينيّات، تمّ تفرّغ للتحقيق والمحاماة، فأرجو أن يفكّ ذلك الالتباس لصالح الحقيقة، والمقالة.

ثانياً: جاء في الصفحة 310 من الكتاب عن محمد حسين آل نمر أنه أيّد (ثورة 23 تموز 1958. بقيادة عبد الكريم قاسم)، والصحيح (14 تموز)، وأنها لم تكن ثورة بل انقلاب عسكري ليس غير، وهذا ما أدركه المؤلّف فيما بعد في ص325.

ثالثاً: تحدّث المؤلّف في الصفحة 315 من الكتاب عن اغتيال الشاعر محمود البريكان محدّداً إياه (في منزله بالزبير)، والصحيح الذي لا خلاف عليه أنّ الاغتيال كان في بيت البريكان في البصرة حي الجزائر يوم 28 فبراير (شباط) 2002.

- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

* أكاديمي وناقد من العراق.