مافيا الرمال من الصين إلى المغرب

50 مليار طن سنوياً يستهلك نصفها في أعمال البناء

مافيا الرمال من الصين إلى المغرب
TT

مافيا الرمال من الصين إلى المغرب

مافيا الرمال من الصين إلى المغرب

بينما كانت بعض الدول العربية تشهد ما اصطلح على تسميته بـ«الربيع العربي»، كانت مدينة أصيلة في شمال المغرب تواجه ثورة من نوع آخر.
فخلال السنوات بين 2012 و2014، عرفت المدينة الساحلية زيادة غير مسبوقة في بناء الشقق والمنازل والفنادق والمنتجعات السياحية. وفي قلب طفرة التطوير العقاري هذه، كانت شركات البناء تبحث عن الخيارات الأرخص للتوفير في تكاليف الإنشاء، فوجدت غايتها في الرمال الشاطئية التي جرى استخراجها بأيادي المئات من الشباب الباحثين عن فرصة للعمل.
ونتيجة لتراجع الطلب على العقارات لاحقاً، توقف ضخ المال في هذه السوق، وتباطأ سحب الرمال. وأمام الشقق الفارغة وغير المكتملة، كشف الشاطئ الذي أزيلت رماله، وانخفض منسوبه، عن صخور أخذ المد يطالها ويخلف فيها بحيرات وبركاً. أمام هذه الخسائر الاقتصادية والثقافية والبيئية، قامت بلدية أصيلة في صيف 2016 باستيراد الرمل من أماكن أخرى لترميم أكثر الأماكن جلباً للسياح.
وفيما يعاقب القانون المغربي بالحبس من سنة إلى 5 سنوات على استغلال الرمال، بشكل غير قانوني، يستمر نهب الشواطئ في أصيلة، وعلى كامل السواحل المغربية، التي تمتد على طول 3500 كيلومتر. ويشير تقرير صدر مؤخراً عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أن نصف حجم الرمال المستعملة كل سنة في البناء في المغرب، أي ما يعادل 10 ملايين متر مكعب، يتم توفيرها بشكل غير قانوني. ويصف التقرير، الذي حمل عنوان «الرمل والاستدامة»، ما يجري على شواطئ المغرب، بأنه جريمة منظمة تديرها «مافيا» تنهب الرمال خلافاً للقانون أو بتجاوز للرخص الممنوحة، وتتهرب من دفع الضرائب، وتعمل على تبييض أموالها بطرق غير شرعية. الأوضاع في المغرب هي أقل سوءاً مما يحصل في أماكن أخرى، كالهند والصين مثلاً، وهذا يجعل البعض يتساءل: ما هي القيمة الحقيقية لهذه المادة التي تنتشر في كل مكان وتجري وراءها المافيات؟

- أساس الحضارة المدنية
تعد الرمال والحصى ثروات لا تشغل بال الكثيرين، على الرغم من أهميتها في الاقتصادات العالمية، باعتبارها أكثر المواد الصلبة استخراجاً، واعتمادنا عليها من حيث الحجم يأتي في المرتبة الثانية بعد الماء. وإلى جانب الحصى، يدخل الرمل في صناعات أساسية كالإسمنت والإسفلت، وفي حالته النقية يستخدم الرمل في تصنيع الزجاج والدوائر الإلكترونية المتكاملة التي تعتمد عليها الحواسيب والهواتف المحمولة وجميع الأجهزة الإلكترونية.
ويجري استخراج الرمال والحصى على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم، لكن هناك القليل من البيانات العالمية حول هذا النشاط. ويقدّر برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن مجموع ما يجري استخراجه من الرمال والحصى يبلغ نحو 40 إلى 50 مليار طن في السنة، حيث يتم استهلاك أكثر من نصف هذه الكمية في صناعة البناء وحدها. ووفقاً لدراسات شركة «زيون» الأميركية، بلغ حجم السوق العالمية للرمال والحصى في قطاع البناء 360 مليار دولار في سنة 2018.
وفي كل مكان، يشهد الطلب على الرمال ارتفاعاً سنة بعد سنة، مدفوعاً بتغير أنماط الاستهلاك وتزايد عدد السكان وزيادة التوسع الحضري وتطوير البنى التحتية. ومن المتوقع أن يقترب حجم السوق العالمية للرمال والحصى في قطاع البناء في سنة 2025 من 500 مليار دولار، بمعدل نمو عالمي يبلغ 4.6 في المائة سنوياً.
اللافت هو تضاعف الطلب على الرمال بمقدار ثلاث مرات خلال العقدين الماضيين، لا سيما في آسيا وأفريقيا، حيث تعد الاقتصادات الناشئة الأكثر شرهاً للرمال. فالصين وحدها تستخرج نحو ثلثي مجموع الرمال على مستوى العالم، حتى أن التقديرات تشير إلى استهلاكها في ثلاث سنوات ما استهلكته الولايات المتحدة طيلة القرن العشرين بأكمله. ومن النادر أن يخضع استخراج الرمال في الصين إلى تقييم للأثر البيئي، وفي كثير من الأحيان ينطوي هذا العمل على انتهاك القوانين المحلية بشكل روتيني. وعلى الرغم من وفرتها وانتشارها، لا يمكن استخدام الرمال الصحراوية في صناعة مواد البناء، لأن حبيباتها المكورة لا ترتبط جيداً بالخرسانة. لذلك يتم الحصول على الرمال من المقالع الجبلية، كما في لبنان، ويتم استخراجها بشكل متزايد من الشواطئ وتجريفها من النظم الإيكولوجية الهشة في البحار والأنهار، ما يتسبب بأضرار كبيرة.

- مشكلات بيئية واجتماعية
تفضل صناعة البناء استخدام رمل المقالع أو الرمل النهري على الرمل البحري، الذي يتوجب غسله جيداً لتنظيفه من الأملاح التي تؤدي إلى تآكل حديد التسليح المستخدم في الخرسانة الإنشائية. ونظراً لانخفاض كلفتها، تستخرج الرمال النهرية بالاعتماد على منصّات تجريف تتسبب بتغير كبير في تدفق الأنهار، وتآكل ضفافها، كما تؤدي إلى جفاف روافدها وانخفاض منسوبها.
ويُلحق تجريف الرمل لتنفيذ مشروعات البنى التحتية ضرراً واسعاً في النظم الإيكولوجية البعيدة عن مواقع هذه المشروعات. ففي إندونيسيا انخفضت كثافة مروج الأعشاب البحرية، وتراجعت أعداد سلاحف «تيرابين» النهرية المهددة بالانقراض في ماليزيا وبنغلاديش والهند، ولحق الضرر موائل تمساح «غاريال» النادر في شمال الهند ودلافين نهر الغانج. كما نتج عن تجريف الرمل في نهر اليانغستي الأدنى انخفاض كبير في مستوى المياه، ما أدى إلى خلل في النظام الغذائي للطيور المهاجرة في الصين.
ومع انتشار تجريف الرمال على نطاق واسع، لا يزال العالم حتى الآن يغض النظر عن البصمة البيئية الخطيرة لهذه الممارسة، في غياب معاهدات دولية تنظّم استخراج الرمال واستخدامها والتجارة بها. وتشير تقارير قام بجمعها الصندوق العالمي للطبيعة إلى حصول أعمال تنقيب واسعة عن الرمال الشاطئية والنهرية بشكل غير قانوني في 70 بلداً حول العالم. وتؤكد هذه المنظمة الدولية، في تقرير أصدرته عام 2018 بعنوان «آثار تعدين الرمل»، أن بعض أعمال التنقيب، بما فيها تلك الحاصلة على رخصة رسمية، كانت تجري في جوار المحميات الطبيعية أو داخلها.
وإلى جانب تأثيراته البيئية، يترك استخراج الرمال أثراً اجتماعياً متبايناً. فهو مورد عيش للكثير من الأسر، وفي المقابل يتسبب بقطع أرزاق أسر أخرى نتيجة إضراره بالمصائد السمكية والمقاصد السياحية وموارد الغابات. كما تشمل مخاطره السلامة المباشرة للعاملين في هذا القطاع، إذ سُجّل العديد من حوادث الغرق خلال استخراج الرمال من قاع الأنهار، إلى جانب حصول وفيات نتيجة الهبوط المفاجئ في التربة أو الانزلاقات الأرضية.
وكأي جريمة منظمة، لا يخلو التنقيب غير الشرعي عن الرمال من حوادث العنف، التي تصل أحياناً حد ارتكاب جرائم القتل. ففي الهند، ثاني أكبر بلد مستخرج للرمل في العالم، تدير عصابات منظمة استخراج الرمل غير الشرعي على نطاق واسع في البلاد. وتقوم هذه العصابات المارقة بتغطية أعمالها عن طريق الرشوة، وبلغ بها الأمر أن قتلت شرطياً حاول وقف أنشطتها في محمية وطنية للتماسيح في ولاية ماديا براديش. وتوفر العصابات المسلحة الحماية لعمال استخراج الرمال في محيط مدينة نيروبي، عاصمة كينيا. وفي ماليزيا، اتهم 34 مسؤولاً حكومياً بالتغاضي عن تهريب الرمل إلى خارج البلاد مقابل رشى. وفي العام الماضي، لقي ثلاثة أشخاص حتفهم في مظاهرات شعبية جرت في ولاية كومبو الغامبية احتجاجاً على التأثير الضار لاستخراج الرمل على حقول الأرز، الذي يشكل مصدر دخل السكان المحليين.
وفي العالم العربي، تتنوع المظاهر السلبية لإدارة الرمال ابتداءً بالعصابات المنظمة التي تنهب شواطئ المغرب والجزائر، مروراً بمافيا الكسارات والشواطئ في لبنان التي تدمر الثروات الطبيعية للبلاد، وانتهاءً بمشروعات التطوير العقاري في بعض الدول الخليجية، التي تقوم على استيراد الرمال وردم الموائل البحرية لإنشاء الجزر الاصطناعية. ومن المتوقع أن تؤدي الحروب المدمرة التي شهدتها بعض البلدان العربية إلى زيادة الطلب على الرمال والحصى. ففي العراق، تسعى العديد من البلديات إلى تعديل التشريعات الوطنية التي تحظر تجريف الحصى والرمال من أحواض الأنهار. وفي حال نجاحها في تحقيق ذلك، فإن مشكلة تهدّم المساكن والمنشآت سترخي بعبئها الثقيل على النظم البيئية المائية، خصوصاً في نهر دجلة.

- ما هي البدائل المتاحة؟
من الناحية التقنية، توجد بعض الخيارات للتخفيف من استهلاك الرمال، ومن ذلك مثلاً استغلال الطمي المتراكم في قاع السدود. في هذه الحالة، تكون المعادلة هي فوز جميع الأطراف. فمن جهة تحظى صناعة البناء بمادتها الأولية، ومن جهة أخرى يستفيد مشغلو السدود من خلال توفير سعة إضافية لتخزين المياه.
وفي البلدان المتقدمة، يحل البناء الجديد غالباً مكان البناء المهدم، وهنا تظهر أهمية تدوير أنقاض المباني في تقليل الحاجة لمواد بناء جديدة. ثلث مواد البناء المستخدمة للإسكان في بريطانيا هي مواد معاد تدويرها، وهذا الخيار يبدو واعداً في البلدان العربية التي دمرت حواضرها الحروب. كما أن تدوير مخلفات الزجاج يقلل من حاجة هذه الصناعة إلى الرمل الجديد. وتوجد بدائل للرمل في صناعة الخرسانة، كرماد محارق محطات الطاقة وغبار مقالع الصخور. إلا أن رخص سعر الرمل مقابل قيمة هذه البدائل يبقى عائقاً أمام تبنيها.
أياً تكن البدائل المقترحة، سيبقى استخراج الرمال أمراً لا مهرب منه. وأفضل الخيارات المتاحة هو تنظيمه في حدود قدرة الطبيعة على ضمان استدامته. وإلى أن يحصل ذلك، سيبقى استخراج الرمال جريمة منظمة تقع أمام أعيننا من دون أن نقيم لها وزناً.


مقالات ذات صلة

فيضانات منطقة المتوسط... تغير المناخ بات هنا

بيئة سيارات متضررة جراء الأمطار الغزيرة التي تسببت في حدوث فيضانات على مشارف فالنسيا إسبانيا 31 أكتوبر 2024 (رويترز)

فيضانات منطقة المتوسط... تغير المناخ بات هنا

زادت ظاهرة التغيّر المناخي نسبة حدوث فيضانات في منطقة البحر المتوسط، حيث تلعب الجغرافيا والنمو السكاني دوراً في مفاقمة الأضرار الناجمة عن الكوارث الطبيعية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
علوم 5 قضايا مناخية رئيسة أمام المحاكم عام 2025

5 قضايا مناخية رئيسة أمام المحاكم عام 2025

دعاوى مشروعة للدول الفقيرة وأخرى ارتدادية من الشركات والسياسيين

جيسيكا هولينغر (واشنطن)
بيئة أنثى «الحوت القاتل» الشهيرة «أوركا» أنجبت مجدداً

«أوركا» تنجب مجدداً... والعلماء قلقون

قالت شبكة «سكاي نيوز» البريطانية إن أنثى الحوت القاتل (التي يُطلق عليها اسم أوركا)، التي اشتهرت بحملها صغيرها نافقاً لأكثر من 1000 ميل في عام 2018 قد أنجبت أنثى

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق المَعْلم الشهير كان يميّز الطريق (مواقع التواصل)

«تخريب رهيب» للفيل البرتقالي الضخم و«الآيس كريم» بإنجلترا

أُزيل فيل برتقالي ضخم كان مثبتاً على جانب طريق رئيسي بمقاطعة ديفون بجنوب غرب إنجلترا، بعد تخريبه، وفق ما نقلت «بي بي سي» عن مالكي المَعْلم الشهير.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد جانب من المؤتمر الصحافي الختامي لمؤتمر «كوب 16» بالرياض (الشرق الأوسط)

صفقات تجاوزت 12 مليار دولار في مؤتمر «كوب 16»

يترقب المجتمع البيئي الإعلان عن أهم القرارات الدولية والمبادرات والالتزامات المنبثقة من مؤتمر الأطراف السادس عشر لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (كوب 16).

عبير حمدي (الرياض)

الأمم المتحدة: التغير المناخي تسبّب في ظواهر مناخية قصوى عام 2024

منطقة سكنية غارقة بالمياه جرّاء فيضان في بتروبافل بكازاخستان 13 أبريل (رويترز)
منطقة سكنية غارقة بالمياه جرّاء فيضان في بتروبافل بكازاخستان 13 أبريل (رويترز)
TT

الأمم المتحدة: التغير المناخي تسبّب في ظواهر مناخية قصوى عام 2024

منطقة سكنية غارقة بالمياه جرّاء فيضان في بتروبافل بكازاخستان 13 أبريل (رويترز)
منطقة سكنية غارقة بالمياه جرّاء فيضان في بتروبافل بكازاخستان 13 أبريل (رويترز)

أعلنت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية أن التغير المناخي تسبّب في أحوال جوية قصوى وحرارة قياسية خلال عام 2024، داعيةً العالم إلى التخلي عن «المسار نحو الهلاك».

ومن المتوقع أن يكون 2024 العام الأكثر دفئاً على الإطلاق، حسب المنظمة التابعة للأمم المتحدة. وقد شهدت هذه السنة أيضاً نسبة قياسية من انبعاثات غازات الدفيئة.

صورة عامة من مدينة داليان في مقاطعة لياونينغ بالصين تُظهر دخاناً متصاعداً من أحد المصانع 17 يوليو 2018 (رويترز)

وقالت الأمينة العامة للمنظمة سيليستي ساولو، إن «التغير المناخي يحدث أمام أعيننا بشكل شبه يومي مع ازدياد تواتر وأثر الظواهر المناخية القصوى»، حسب «وكالة الصحافة الفرنسية».

وأردفت: «شهدنا هذا العام تساقطات وفيضانات قياسية وخسائر فادحة في الأرواح البشرية في بلدان عدة، مما أثار الحزن في نفوس مجتمعات كثيرة عبر القارات».

رجل إطفاء يعمل على إخماد حريق مشتعل في سبراي بأوريغون في الولايات المتحدة الأميركية 21 يوليو 2024 (رويترز)

وأشارت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية إلى أن «الأعاصير المدارية خلّفت حصيلة بشرية واقتصادية هائلة، آخرها في إقليم مايوت التابع لفرنسا في المحيط الهندي».

الرياح المدمّرة هي أحد التأثيرات الناجمة عن إعصار «ميلتون» في فلوريدا أكتوبر 2024 (رويترز)

وذكّرت بـ«الحرارة القصوى التي طالت عشرات البلدان، متخطية 50 درجة مئوية في عدة مرات، والأضرار التي ألحقتها حرائق الغابات».

معدّل حرارة الهواء السطحي بين يناير وسبتمبر 2024 كان أعلى بـ1.54 درجة مئوية مقارنة بالمتوسّط الذي كان سائداً ما بين 1850 و1900 (رويترز)

ويقضي الهدف الطويل الأمد من اتفاق باريس حول المناخ المبرم سنة 2015 باحتواء الاحترار المناخي، وحصر ارتفاع معدل درجات الحرارة على الكوكب بما دون درجتين مئويتين، أو 1.5 درجة إن تسنّى ذلك، مقارنة بالمعدل الذي كان سائداً قبل الثورة الصناعية.

أشخاص يحملون أمتعتهم لعبور شارع غمرته المياه بعد هطول أمطار غزيرة في أحمد آباد بالهند 28 أغسطس 2024 (رويترز)

وأعلنت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أن معدل حرارة الهواء السطحي بين يناير (كانون الثاني) وسبتمبر (أيلول) كان أعلى بـ1.54 درجة مئوية، مقارنة بالمتوسط الذي كان سائداً ما بين 1850 و1900.