خالد الفرج.. سيرة رجل جسد حلم الوحدة بين الخليجيين

الشبيلي والعوامي في ندوة بالقطيف عن حياته تستحضر دوره في الاندماج الوطني

جانب من ندوة خالد الفرج
جانب من ندوة خالد الفرج
TT
20

خالد الفرج.. سيرة رجل جسد حلم الوحدة بين الخليجيين

جانب من ندوة خالد الفرج
جانب من ندوة خالد الفرج

أعادت ندوة أدبية في القطيف، شرقي السعودية، إلى الواجهة سيرة الشاعر خالد الفرج، أحد أهم الشخصيات الأدبية التي أثرت على الحياة الشعرية والثقافية على ساحل الخليج خلال النصف الأول من القرن الماضي.
هذه الندوة أقيمت عشية اليوم الوطني السعودي، وهدفت إلى استجلاء سيرة رجل جسد حلم الوحدة بين الخليجيين، والتواصل العابر للحواجز والانقسامات، وكانت فترة حياته التي توثقت صلة بالملك المؤسس عبد العزيز، عنوانا لقدرة الإداري المثقف على تعزيز التلاحم وبناء الثقة.
حملت الندوة عنوان: «خالد الفرج: الشاعر والوطن»، وحضرها نخبة من المثقفين السعوديين حضر كثير منهم من الرياض، وبعضهم من الكويت، مع جمهور غفير من المنطقة الشرقية، ونظمها «منتدى الثلاثاء» الذي يديره الكاتب المهندس جعفر الشايب، بالتعاون مع دارة الملك عبد العزيز في الرياض، وشارك في الندوة كل من: الدكتور عبد الرحمن الشبيلي والأديب عدنان العوامي.
ولد الشاعر خالد الفرج، في الكويت، منتصف ربيع الثاني عام 1898، وذكر الباحث الدكتور عبد الرحمن الشبيلي أنه «ينحدر من أصول سعودية تعود إلى البدارين من الدواسر، وقد ولد من أسرة ميسورة الحال، ووالدته هي شيخة بنت ثنيان عبد الرحمن الثنيان من قبيلة الخليفات القطرية، عاش في الهند، فالبحرين، ثم في المنطقة الشرقية السعودية، وأمضى العامين الأخيرين من عمره في بلاد الشام»، وتوفي في أحد مستشفيات لبنان سنة 1954.
وفي ترجمة معجم البابطين لشعراء العربية، يشير إلى أن اسمه الكامل هو: خالد بن محمد بن فرج الصراف الدوسري، وأنه ولد في الكويت وتوفي في لبنان، وقضى حياته العملية متنقلا من الكويت إلى مومباي والبحرين والسعودية (القطيف والأحساء والدمام) وتلقى علومه المبكرة في الكتاب، وعند افتتاح المدرسة المباركية عام 1911 التحق بها، ونشط في الاطلاع على كتب التراث المختلفة، ثم بدأ حياته العملية مدرسا في المباركية، فكاتبًا عند أحد كبار الكويتيين في الهند، وأسس في مومباي المطبعة العمومية التي طبع فيها مجموعة من الكتب كان بعضها على نفقة الملك عبد العزيز، وقد درس اللغة الإنجليزية والهندسة خلال عمله هناك، ثم انتقل إلى البحرين ليصبح مدرسا بمدرسة الهداية الخليفية في البحرين، وعضوا في المجلس البلدي البحريني، ثم صار مسؤولا في بلدية الأحساء ورئيسا لبلدية القطيف.

* شاعر الخليج
* ولذلك، فإن عددا من الأقطار الخليجية والعربية تتنازع انتماء هذا الشاعر إليها، هي الكويت والبحرين والسعودية. وكانت الفترة الذهبية في حياته التي عرفته على الشعراء والأدباء في السعودية والبحرين، خلال تكليفه من قبل الملك عبد العزيز بتولي بلدية القطيف. وعن هذه المرحلة يتحدث المؤرخ الراحل محمد سعيد المُسلم، صاحب كتاب «ساحل الذهب الأسود»، قائلا: «إن خالد الفرج قضى معظم حياته في القطيف، وكان لها الفضل في استقراره النفسي، وقد منحها في المقابل إخلاصه ووفاءه وعصارة أفكاره، واندمج في مجتمعها، وأصبح فردا منهم، وغذى الحركة الأدبية فيها، وترك أثرا كبيرا في تطور الحياة الفكرية، وكان يلتقي الأدباء والمثقفين من أبناء القطيف».
الشاعر والمحقق عدنان العوامي، ناقش في دراسته عن سيرة الشاعر خالد الفرج، ما يثار غالبا بشأن هويته وانتمائه، ففي حين جزم أن الشخصيات الأدبية تنسب لبلد المنشأ غالبا، فقد أعطى تفسيرا اقتصاديا لاجتذاب الشخصيات الأدبية في الخليج، وقال: «قبل ظهور النفط في منطقتنا الشرقية هذه لم تكن الظروف مهيأة لنشوء حركة ثقافية أو صحافية، وإن كان فيها أدباء وعلماء، وشعراء متابعون للحركة الثقافية، وتصلهم الصحف والكتب من الخارج، ومنهم من مارس النشر في صحف تصدر في الخارج كالعراق والبحرين ولبنان، وكان المؤلفون يُضطرون للسفر إلى العراق أو الهند لطباعة مؤلفاتهم». ويضيف: «لكن حين تفجر النفط، واتجهت المنطقة نحو النهوض والازدهار باتساع موارد الرزق فيها، بدأ الناس يتقاطرون عليها من كل حدَب وصوب، فكان فيهم التاجر، والأديب، والشاعر، والمثقف. فانتقل إليها شخصيات أدبية وصحافية، وأخرى مثقفة لم تكن منها في الأصل، لكنها استوطنتها، وشاركت في صنع نهضتها الثقافية والصحافية التي نشهدها اليوم»، وبينهم بالطبع خالد الفرج.
وكان العلامة حمد الجاسر من أقدم من تناول سيرته ومؤلفاته وشعره بالتفصيل؛ إذ رثاه بُعيد وفاته بمقال مطول في مجلة «اليمامة» عام 1954 استعرض فيه أبرز محطات حياته وإنتاجه الفكري، متتبعا هجرة أسرته - ولأسباب غير معروفة - في أواخر القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي) من بلدة نزوى في وادي الدواسر لتستقر في بلدة الزبارة في شمالي شبه جزيرة قطر، ثم رحلت إلى عُمان، ومنها اتجهت إلى الكويت، وقد خرج من هذه الأسرة ابنُ عمه الأديب الكويتي المعروف عبد الله محمد الفرج المتوفى في الكويت عام 1902 وهو موسيقي وملحن، وله ديوان شعر بالفصحى والعامية أعده وطبعه خالد الفرج عندما كان في الهند في حدود عام 1338هـ (1919م) ثم أعيد طبعه مرارا.
وكما كان لخالد الفرج دور مهم في ترسيخ الاهتمام بالأدب، فقد اهتم أيضا بالنشر. يقول الدكتور الشبيلي: «بحكم هوايته للطباعة من خلال تجربته السابقة في الهند، بادر الفرج إلى تبني إنشاء أول مطبعة في المنطقة الشرقية (المطبعة السعودية بالدمام) التي سعى إلى تأسيسها بدعم من الملك سعود، وقد سافر إلى ألمانيا من أجل شرائها، وتابع تركيبها خلال إقامته الاستشفائية في سوريا ولبنان في العامين الأخيرين من حياته، لكنه لم يحضر تشغيلها، وقد أتاح تأسيسها للصحف الأهلية الناشئة في المنطقة الشرقية آنذاك أن تطبع محليا».
يقول الشبيلي: «عاش خالد الفرج نحوا من ثمانية وخمسين عاما من التنقل المكاني عبر كل إمارات الخليج تقريبا، ليجد ضالته في التوطن أخيرا في المنطقة الشرقية حيث تكونت أسرته، ووجد من الاستقرار النفسي والمعيشي والوظيفي والأسري ما جعله يتفرغ للفكر والإبداع، مع أنه أقام في الكويت والبحرين والهند والأحساء والقطيف والدمام وتردد عليها، ثم أقام في بلاد الشام قبيل وفاته».
وعن إقامته في القطيف يقول: «كانت إقامته في المنطقة الشرقية الفترة الأكثر خصوبة وحيوية في حياته الفكرية والإدارية، والأطول من الناحية الزمنية؛ قرابة نصف عمره».
أما سفر وتنقلات خالد الفرج، فقال عنه الشبيلي، إنه جسد وحدة المنطقة، وإن أشعاره عبرت عن هموم الأمة، «وكان في زمنه ملء السمع والبصر.. كوّن صداقات، وتبادل المراسلات والقصائد الإخوانية مع عدد من رموز الثقافة في الكويت من أمثال عبد اللطيف النصف، وعبد الرحمن النقيب، ويوسف القناعي، وخالد العدساني، وصقر الشبيب.. وفي البحرين من أمثال قاسم الشيراوي، وعبد الله الزايد، وفي المنطقة الشرقية من أمثال آل الجشي، وآل الخنيزي، والعوامي والخطي، علاوة على زميل دربه هاشم الرفاعي مدير الجمارك».
كلف خالد الفرج من قبل الملك عبد العزيز بإنشاء بلدية القطيف، لكنه وجد هناك بيئة ثقافية وشعرية وعلمية، فتأثر بها وتفاعل معها.
يذكر خالد سعود الزيد أن الفرج استجاب لتشجيع هاشم الرفاعي (الكاتب آنذاك في الديوان السلطاني) للعمل في المملكة، وأن السلطان عبد العزيز (حينها) استقبله أحسن استقبال واختاره مشرفا على بلدية الأحساء ثم القطيف، بينما يُستفاد من سيرة الفرج التي كتبها بنفسه أنه كُلف ببلدية القطيف وكان مؤسسها سنة 1346هـ. يقول الشبيلي: «وبتتبع علاقته بالمجتمع الثقافي في أثناء إقامته، التي قيل إنها امتدت نحو خمسة وعشرين عاما في المنطقة الشرقية، تذكر المراجع أنه قدم من البحرين مع النزوح الجماعي المعروف لعشيرة الدواسر مطلع الأربعينيات من القرن الهجري الماضي (العشرينات الميلادية)».

* تأثيره الثقافي
* الشاعر عدنان العوامي، اهتم في دراسته بتتبع العلاقة الوثيقة التي ربطت خالد الفرج بشخصيات القطيف العلمية والأدبية، والإخوانيات والمساجلات التي ربطت بينه وبينهم، والقصائد التي نظمها في مناسبات متعددة خاصة ما يتعلق بمراسلاته الشعرية مع الشيخ فرج العمران، أو الشيخ ميرزا حسين البريكي، أو نظمه قصائد رثائية في مناسبات وفاة أحد، كرثاء الشيخ منصور الزاير، ورثائه السيد سعيد العوامي، أو تأبينه السيد ماجد العوامي. وفي سنة 1363هـ توفي الشيخ علي أبو الحسن الخنيزي، الذي عرف بلقب زعيم القطيف، فرثاه خالد الفرج بقصيدة قال فيها:
ابكوا بدمع أو نجيع
شيخا يعز على الجميع
وتصوروا البدر اختفى
في غامض الليل المريع
يضيف العوامي: «نلمس مبلغ تفاعل الفرج بالبيئة الأدبية في القطيف في رثائه كذلك الشاب أحمد البيات، إبن صديقه الشيخ منصور البيات:
اقرأوا، خاشعين، أمَّ الكتاب
ثم ضجوا بالنوح والاكتئاب
واملأوا موضع الخشوع عويلا
في عظيم الأحزان والاكتئاب
الشاعر عدنان العوامي، قال إن «ارتباط خالد الفرج بالقطيف لم يقف عند حده هو، بل كان السبب في ارتباط غيره من الشخصيات بالقطيف ومثقفيها وأدبائها كالشيخ حمد الجاسر، حيث اصطحب الفرج الجاسر إلى مجلس الأديب أحمد بن حسين السنان، وكان بمثابة الصالون الأدبي لمثقفي القطيف، فكان ذلك اللقاء بداية صلة امتدت بين الشيخ الجاسر ومثقفي القطيف حتى وفاته».

* رائد الملاحم
* في الجانب الشعري لخالد الفرج، تحدث الباحث الدكتور عبد الرحمن الشبيلي عن الحياة الشعرية لخالد الفرج، فـ«هو مثقف وشاعر ومؤرخ اشتهر من نظمه ملحمة (أحسن القصص) التي طبعت في القاهرة في 130 صفحة في حدود عام 1929 من تقديم محمد علي الطاهر، ثم راجعها عالم قطر الشيخ عبد الله الأنصاري وطبعت في الدوحة عام 1982، وهي مطولة شعرية غطت العقود الخمسة الأولى من حياة الملك عبد العزيز منذ ولادته سنة 1876، وحتى دخل الحجاز في حكمه سنة 1925.
وأضاف الشبيلي: «والملحمة مقسمة إلى 20 فصلا تشتمل على 800 بيت (..) وقد نظمها وطبعها إبان عهد الملك عبد العزيز عندما كان ملك الحجاز ونجد وملحقاتها».
يضيف الشبيلي: «كما اشتهر من آثاره الشعرية القصيدة البائية (الخبر والعيان في تاريخ نجد) في خمسمائة بيت، نظمها على مرحلتين في عامي 1367 و1368هـ (1947 و1948م) قائلا في مطلعها:
إلى مجدك العلياءُ تُعزى وتنسبُ
وفي ذكرك التاريخُ يُملى ويُكتبُ».
ويرى الشبيلي أن خالد الفرج أبدع في شعر الملاحم، «بل إنه ربما كان الأسبق من بين عدد من الشعراء الذين عرفوا بهذا الفن، أمثال أصحاب الملاحم: محمود شوقي الأيوبي، وبولس سلامة، وفيكتور البستاني، ومحمد عبد الله العوني، وعبد الله العلي الزامل، وأحمد إبراهيم الغزاوي، وحسين سرحان، وخير الدين الزركلي، وعبد الله بالخير، وفؤاد شاكر، ومحمد بن عبد الله العثيمين.. وغيرهم»، ورجح أن «يكون الفرج الأسبق بينهم في هذا النوع من الشعر الملحمي ذي الطابع السردي التاريخي».
ويضيف: «تضمن التراث الفكري لخالد الفرج مجموعةً من الكتب المطبوعة والمقالات التي نشرها في حياته، وبعض مخطوطات لم يتمكن من استكمالها أو من طباعتها قبل وفاته». وقد تولى الباحث عبد الرحمن الشقير تحقيقها ونشرتها مكتبة «العبيكان» عام 1420 هـ (2000م) في مجلد يزيد على 500 صفحة. وبحسب المحقق خالد سعود الزيد، توجد للفرج قصيدة لامية طويلة ثالثة سماها «الملحمة الذهبية» نظمها بمناسبة الذكرى الخمسين لدخول الرياض.

* شاعر عروبي
* تحدث الشبيلي عن عقيدة خالد الفرج الشعرية، فقال إنه عاش بدايات المخاض السياسي في الوطن العربي، «ومن يتابع سيرته يجد أنه تفاعل مع التحولات السياسية التي مرت بتلك الحقبة، كالاحتلال البريطاني للخليج، وقيام الشيوعية، واغتصاب فلسطين، وبروز القومية العربية، والحربين العالميتين، وقضية الجزائر. وغلبت على شعره نبرة التندر أحيانا تجاه بعض التيارات، لكنه لم ينهج في تفكيره منهجا متطرفا..».
ويستحضر الشبيلي ما ذكره حمد الجاسر في هذا الشأن: «خرج في شعره إلى مجال أرحب، فعالج النواحي الاجتماعية العامة للأمة العربية، وتعدى ذلك إلى الإشادة بعظماء العالم الذين خدموا بلادهم، فرثى شاعر العروبة أحمد شوقي، وصديقه أمين الرافعي، ومجد الزعيم الهندي غاندي. وبجانب مديحه للزعماء العرب وجه نقدا لاذعا لآخرين رأى فيهم اعوجاجا، وكانت له خبرة بمسألة إصلاح الحروف العربية وألّف في ذلك».
عن وعد بلفور قال خالد الفرج:
ما وعد بلفور إلا بدء سلسلة
من المظالم في التاريخ كالظـلم
وما فلسطين إلا مثل أندلسٍ
قضى على أهلها بغي وعدوان
وله قصيدة طويلة معروفة باسم «الشرق والغرب» ألقاها بمناسبة احتفاء النادي الأدبي في الكويت به (31 – 8 – 1927) جاء فيها:
الغَرْبُ قد شدّدَ في هَجْمَتِهْ
والشَرْقُ لاهٍ بعدُ في غَفْلَتِهْ
وكُلّمَا جَدَ بأعْمَالِهِ
يَسْتَسْلِمُ الشَرْقُ إلى رَاحَتِهْ
فيجمعُ الغربِي وحْدَاتِهِ
والشرق مقسوم على وحدتِهْ
وذاكَ يبني العِلْمَ في بحثِهِ
وذا يُضيعُ الوقتَ في نظرته
ومنها:
يا قومُ في أحوالنا عِبرَةٌ
فليقم النائم من رقدته
فَمَنْ تَغدّى بأخي ضحوةً
حتما تعشَى بي في ليلتِهْ
وكلنا يُنشِدُ في سِرِهِ
ما قالَهُ الشاعرُ في حِكمتِهْ:
«مَنْ حُلِقتْ لِحْيةُ جارٍ لَهُ
فلْيسكبِ الماءَ على لِحيتِهْ»



استعادة الهوية الممحوة

استعادة الهوية الممحوة
TT
20

استعادة الهوية الممحوة

استعادة الهوية الممحوة

رواية «العائد من غفوته» للروائي جاسم عاصي، الصادرة عام 2024، رواية موجعة ومحتشدة بالمعاناة والفواجع الشخصية لبطلها سعيد الناصري، الذي تحول بطلاً تراجيدياً حقيقياً. وعلى امتداد أكثر من أربعين عاماً يلاحق الروائي سيرة بطله المؤلمة، كاشفاً عن الكثير من دخائل الشخصية الإنسانية، حتى لتكاد الرواية أن تتحول رواية سيكولوجية، ربما أساساً لأنها تدور حول شخصية مصابة بداء فقدان الذاكرة والشيزوفرينيا، نلتقيها مصادفة في مستشفى الرشاد للأمراض العقلية، حيث يضطلع أحد الأطباء، وهو الدكتور صفاء بمهمة علاجه الشاقة، ومساعدته تدريجياً على استعادة ذاكرته وشخصيته. والرواية بقدر ما هي ملاحقة لاستعادة الوعي المغيّب قسراً بسبب التعذيب السياسي، فهي أيضاً وبالقدر ذاته، رواية عن استعادة الهوية الممحوة.

والرواية تعتمد على بنية حداثية، وسرد بوليفوني تعددي تنهض به عدد من الشخصيات، في مقدمتها السارد الرئيسي الدكتور صفاء، الذي تكفل علاج هذا المريض، وكان يفكر بوصفه أديباً أيضاً في أن يصنع من قصة مريضه رواية يكتبها في المستقبل.

السرد يبدأ عبر ضمير المتكلم (أنا) والراوي هو الدكتور صفاء الذي يلاحق بشغف تجربة خروج مريضه التدريجي من غيبوبته التي استمرت أكثر من أربعين عاماً، عندما تعرَّض إلى التعذيب عام 1961، وأودع بعدها مستشفى الرشاد للأمراض النفسية، ولم يخرج منه إلا بمساعدة معالجة الدكتور صفاء بعد عام 2003، حيث نسمع هدير همرات الاحتلال الأميركي في الشوارع. ونتيجة للجهود الكبيرة التي بذلها الطبيب المعالج، بدأ المريض يستعيد جزءاً من ذاكرته ووعيه ويعود من غفوته، في إشارة واضحة إلى عنوان الرواية «العائد من غفوته»، والذي يحمل بدوره إشارة إلى أفق توقع محدد هو عودة المريض من غفوته واستعادة ذاكرته. لكن الروائي لم يشأ أن يختتم روايته بهذه العودة فقط، بل عمد إلى خلق انتكاسة جديدة لاحقة في مسار حالة المريض النفسية في نهاية الرواية، جعلت منه بطلاً تراجيدياً، أو ضحية من ضحايا الاضطهاد السياسي في العراق.

يستهل الروائي روايته ببداية مثيرة ومشوقة بوصول إشعار للدكتور صفاء سارد الرواية الرئيسي، من دائرة البريد، لاستلام طرد بريدي:

«استلمت إشعاراً من دائرة البريد يدعوني من خلاله الحضور إلى الدائرة المركزية لاستلام طرد وصلني من شخص بدا مجهولاً لديّ لحظتها». (ص 5)

والروائي بهذا الاستهلال، إنما يقفز إلى نهاية الرواية تقريباً عندما ودع مريضه الذي قرر العودة إلى مدينته (ن) لمعرفة مصير والدته وأصدقائه ومعارفه في المدينة، وهي عملية قد تساعده على استكمال علاجه وعودة ذاكرته. ولم يستلم الطبيب المعالج الدكتور صفاء الطرد إلا في نهاية القسم الأول من الرواية (ص 125) لنكتشف أن هذا الطرد هو المتن الذي كتبه سعيد الناصري عن تفاصيل رحلته إلى مدينته (ن)، حيث يشغل هذا المتن القسم الثاني من الرواية، ويتحول هذا المتن إلى مخطوطة مرويّة من قِبل سعيد الناصري نفسه؛ ما يؤكد الجوهر الميتاسردي للرواية. وبذا يمكن أن نقول إن الرواية هي ثمرة صوتين سرديين أساسيين، هما صوت الدكتور صفاء الاستهلالي، وصوت سعيد الناصري في مخطوطته التي أرسلها إلى الدكتور صفاء. والرواية بهذا ذات بنية سردية مبأرة؛ لأن السرد فيها يتم من خلال وعي مبأر لساردين مشاركين في الحدث الروائي.

وتتصاعد الأحداث الروائية في نهاية الرواية بطريقة دراماتيكية مثيرة وفاجعة، حيث يفجع سعيد الناصري بوفاة أمه بين يديه، فيصاب بحالة جديدة من الهستيريا، حيث يحمل جسد والدته ويركض به في العراء، متجهاً إلى مقبرة (سيد خضير أبو حياية)، ويعمد بشكل شخصي إلى حفر قبر لوالدته ودفنها بيديه، رافضاً أي مساعدة مدت له في حينها. ويبلغ سعيد الناصري الدكتور صفاء بأن ضريح (السيد خضير) سيكون آخر المحطات له، ويرجوه أن يكتب بدلاً عنه. (ص 250)

وعندما تصل الدكتور صفاء رسالة سعيد الناصري هذه يصاب بالهلع، ويقرر أن يفعل شيئاً والسفر إلى مدينة (ن) لإنقاذه مما هو فيه:

«سوف يضيع سعيد لأعجّل في إنقاذه». (ص 251)، لكنه اكتشف ملاحظة على الظرف الذي وصله من شخص اطلق على نفسه كنية (فاعل خير) يخبره بأنهم قد وجدوا قرب ضريح (السيد خضير أبو الحياية) رجلاً يتكئ على جدار الضريح، وحين حاولوا إيقاظه سقط مثل خشبة، حيث قاموا بدفنه قرب ضريح أمه. كان لهذا الحدث وقع الصاعقة على الدكتور صفاء، فكتب لصديقه الدكتور عبد السلام هذه الرسالة التي يختتم بها الروائي سرده الروائي:

«خذها، فقد كتب سعيد الناصري نهاية حياته بيده، بل كتب روايته، ولا حاجة إلى إعادة صياغة ما كتب، فقد كان كاتباً حاذقاً». (ص 253)

وهذه الإشارة تنطوي على أن الراوي الحقيقي للسرد هو سعيد الناصري الذي كتب روايته بنفسه كما يشير النص، وبشكل خاص من خلال المخطوطة التي كتبها، ودوّن فيها وقائع زيارته إلى مدينته، والتي وصلت لاحقاً إلى الدكتور صفاء بشكل طرد بريدي.

ويمكن أن نلاحظ تفاوتاً بارزاً بين القسم الأول الذي يرويه الدكتور صفاء، والقسم الثاني الذي يمثل المتن الذي يرويه المريض عن زيارته إلى مدينته.

فالقسم الأول، الذي يسرده الدكتور صفاء، يتصف بالانضباط وسيادة العقلية التحليلية ذات الطابع السيكولوجي لشخصية المريض، من خلال متابعة ملفه الشخصي في المستشفى وملاحقة سلوكه وعلاقاته بالآخرين وبالأطباء. ولذا فقد احتشد هذا القسم بتحليلات وبيانات نفسية وطبية قلما نجد مثيلاً لها، ربما الا فيما كتبه القاص الراحل خضير ميري عن تجربته الشخصية، بوصفه مريضاً في المصح النفسي، وما دوَّنه القاص إسماعيل سكران في روايته «جثث بلا أسماء» عما كان يدور في مستشفى الأمراض العقلية في الشماعية من جرائم يرتكبها نظام صدام حسين الدكتاتوري بحق المعارضين السياسيين الذين كان يدفع بهم إلى المصح عمداً؛ لتدمير قواهم العقلية، وقتلهم تدريجياً في ردهة مخصصة لذلك سميت بــ«القاووش الأحمر». ونجد الدكتور صفاء، في مستهل الرواية، وهو في طريقه إلى جناح الكندي في المستشفى، منشغلاً بمرأى أحد المرضى النفسيين، الذي سيتابع حالته المرضية لاحقاً:

«كان أهم ما لفت نظري قامة الرجل الساكنة تحت شجرة اليوكالبتوز التي تبعد قليلاً عن نافذة الغرفة في الجناح الذي أعمل فيه». (ص 12) وقد استهوت الدكتور صفاء شخصية هذا المريض، وقرر مع نفسه أن يكتب، بوصف أدبي أيضاً، رواية عن حالته الصحية وتاريخه وسبب أزمته النفسية.

وكان أول اكتشاف مهم للدكتور صفاء عن مريضه معرفة اسمه ومدينته عندما سلمته الممرضة ملف هذا النزيل:

«جلست وراء المنضدة، حدّقت بالغلاف الخارجي للملف، حيث كتب عليه المريض سعيد الناصري... فتح الملف بتاريخ 18/10/1970» (ص 52)

وازداد اهتمام الدكتور صفاء بالمريض سعيد الناصري الذي سيساعده في مشروعه الروائي المرتقب. (ص 36)، وكان يشعر بأن سعيد الناصري سيكشف له عن أمور مثيرة:

«إنه جزء من تاريخ مضمر ومسكوت عنه». (ص45)

ويكتشف الدكتور صفاء أن هذا المريض مناضل سياسي، وأنه تعرَّض إلى التعذيب وفقدان الذاكرة، وبالتالي دخوله في هذه الغيبوبة الطويلة التي استمرت لمدة أربعين عاماً. وانتبه الدكتور صفاء إلى أن تاريخ اعتقاله يعود إلى عام 1961، وهو تاريخ مثير، كما سنلاحظ ذلك لاحقاً.

أما القسم الثاني من الرواية الذي يحمل عنوان «القادم من غفوته». (ص 129)

فيشكل المتن الذي كتبه المريض سعيد الناصري عن زيارته لمدينته (ن)، والذي أرسله لاحقاً بشكل طرد بريدي. ويتسم هذا القسم بأسلوب وصفي يقدمه مشاهد لمدينة يراها لأول مرة في حياته. فالراوي سعيد الناصري؛ بسبب فقدانه للذاكرة ينظر إلى تفاصيل زيارته ومعالم مدينته وكأنه غريب يراها لأول مرة.

ومن الواضح أن مثل هذا التكنيك في السرد ينتمي إلى ما أسماه الناقد الشكلاني الروسي شكلوفسكي بنزع المألوفية Defamiliarization، وذلك في دراسته الموسومة «الفن بوصفه تكنيكاً» المنشورة عام 1917. ويذهب شكلوفسكي إلى أن وظيفة الفن هي جعل الأشياء تبدو «غير مألوفة» Unfamiliar؛ لأن عملية التلقي هذه تمنح الأشياء جدةً وحضوراً وبراءة، ويرتبط هذا المفهوم بمفهوم التغريب estrangement، وقد وفّق بعض الروائيين في استثمار منظور الطفل البريء، وهو يصطدم بمجموعة من المرئيات والوقائع التي يبدأ بوصفها بحيادية تامة، مؤكداً على طابعها الحسي والمرئي. كما عمد روائيون آخرون، ومنهم الروائي جاسم عاصي في روايته هذه «العائد من غفوته» لاستثمار خاصية فقدان الذاكرة أو عطبها، لوصف الأشياء والأماكن وكأنها تكتشف للمرة الأولى. ويمكن أن نعدّ أدب الرحلات مثالاً جيداً لمثل هذا السرد؛ لأن السائح يصف أماكن ومشاهد وأحداثاً يراها لأول مرة.

لقد كان الروائي جاسم عاصي موفقاً إلى حدٍ كبير في استثمار خاصية «نزع المألوفية» هذه، التي شخَّصها شكلوفسكي في طريقة تلقي بطله سعيد الناصري للمرئيات والأماكن والأشخاص والوقائع التي اصطدم بها أثناء زيارته لمدينته (ن). فقد كان يبدو مشدوهاً وهو يتساءل مع نفسه فيما إذا كان ما يراه جزءاً من مدينته التي عرفها جيداً؛ لأنها كانت قد نزعت مألوفيتها التي تعوّد عليها سابقاً، وبدت له مغايرة تماماً، وكأنها تخلق لأول مرة، لتدخل شاشة وعيه المتشظية.

فالمرئيات تبدو له وكأنها تولد لأول مرة. وزاوية الرؤية هذه تساعد في تقديم وصفٍ بريء محايد إلى حدٍ كبير:

«واصلت السير، غير أني شعرت بالتعب جراء العودة من بدء استقامة الجسر حتى منتصفه؛ بحثاً عن دالة أو شاهد أعرفه... وتولدت لدي قناعة على شكل سؤال مفاده هل أنا فعلاً في مدينتي». (ص 132)

لقد كان سعيد الناصري يسير في مدينته التي عاش فيها، لكنه كان يشعر بأن كل شيء كان ضبابياً، وبلا ملامح يعرفها من قبل. وبهذه الطريقة يقوم سعيد الناصري برحلة مضنية لإعادة اكتشاف وتشكيل مدينة ضائعة.

وهذا الفصل بالذات يركز بشكل خاص على إعادة اكتشاف المكان الأليف، مكان الطفولة، حسب باشلار، في رحلة بحث مضنية مليئة بالمكابدات والإحباطات المريرة.

وفنياً، يمكن أن تعدّ هذه الرواية بوليفونية، متعددة الأصوات؛ بسبب تعدد الأصوات السردية فيها، كما أنها أيضاً يمكن النظر إليها بوصفها رواية ميتاسردية، حيث ينمو هاجس كتابة الرواية لدى الدكتور صفاء، ويساعده في ذلك مريضه سعيد الناصري، الذي اختتم مدوّنته التي أرسلها له، بدعوته لمباشرة الكتابة؛ لأنه شخصياً غير مؤهل لذلك؛ لذا ترك للدكتور صفاء مهمة كتابة الرواية:

«ربما نفدت قدرتي على الكتابة.. هذا ما سوف يربكه أثناء تحرير أحداث روايته، مستعيناً بما يقع بين يديه من وثيقة حياتي الحالية». (ص 246)

كما نجد الدكتور صفاء مصدوماً هو الآخر بالنهاية التراجيدية الموجعة لمريضه سعيد الناصري فيدفع بالأوراق لصديقه الدكتور عبد السلام:

«خذها، فقد كتب سعيد الناصري نهاية حياته بيده، بل كتب رواية ولا حاجة إلى إعادة صياغتها». ص 253)

كما تتخذ الرواية مبنى سردياً دائرياً، من خلال محورية السرد الروائي للدكتور صفاء الذي استهل السرد الروائي، كما اختتم به هذا السرد أيضاً.

رواية «العائد من غفوته» عمل روائي متميز ومُتقَن فنياً، وكل الأحداث والوقائع مبأرة من خلال وعي شخصياتها، حتى يبدو المؤلف غائباً، والأحداث الروائية هي التي تقدم نفسها للقارئ دونما وسيط.

يبقى السؤال الإشكالي يتعلق بتأطير التأريخ السياسي لحالة المريض التي بدأت عام 1961 وليس بعد عام 1963 والتي شهدت أبشع صنوف التعذيب والقتل للمعارضين، على أيدي جلادي «البعث» آنذاك، والتي لم نجد لها أية إدانة مباشرة على امتداد الرواية، بينما خصص مقاطع مهمة لإدانة ما تعرض له الشعب العراقي من اضطهاد وقتل في مختلف المراحل ومنها فترة الاحتلال الأميركي.

ومن الغريب أن الروائي قدم توصيفاً لما تعرَّض له بطله عام 1961 من تعذيب، في الوقت الذي كان فيه شعار الحكم آنذاك مقولة «عفا الله عما سلف».

إن تأطير أي تجربة روائية زمنياً ليس بالأمر الاعتباطي ويخضع لحسابات خاصة يدركها المؤلف ويرغب في أن ينقلها إلى المتلقي بشكل رسائل خاصة، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن سر هذا الاختيار، ويجعلنا نتحفظ عليه.