العراق وهيمنة الميليشيات الإيرانية

تعزز قدراتها خلف واجهة مؤسسات الدولة

عناصر من «الحشد الشعبي» العراقي في حالة انتشار واستعراض للقوة في مركزهم الرئيسي في النجف (إ.ب.أ)
عناصر من «الحشد الشعبي» العراقي في حالة انتشار واستعراض للقوة في مركزهم الرئيسي في النجف (إ.ب.أ)
TT

العراق وهيمنة الميليشيات الإيرانية

عناصر من «الحشد الشعبي» العراقي في حالة انتشار واستعراض للقوة في مركزهم الرئيسي في النجف (إ.ب.أ)
عناصر من «الحشد الشعبي» العراقي في حالة انتشار واستعراض للقوة في مركزهم الرئيسي في النجف (إ.ب.أ)

عاد «الحشد الشعبي»، برئاسة أبو مهدي المهندس، إلى الأضواء إثر عزم هذه «القوات» على تشكيل قوة جوية، وفق وثيقة رسمية بتاريخ 4 سبتمبر (أيلول) الحالي، رغم نفى قائد القوة الجوية في العراق، الفريق ركن أنور حمه أمين، علمه بهذا المستجد. وتأسس «الحشد الشعبي» بعد فتوى دينية من المرجعية الدينية الشيعية العليا بالعراق آية الله السيستاني، في 13 يونيو (حزيران) 2014، جعلت «الجهاد الكفائي» واجباً لمواجهة تنظيم داعش، بزعامة أبي بكر البغدادي.

يمكن القول إن العقلية المسلحة للجماعات المذهبية الشيعية لم تكن وليدة مواجهة الإرهاب وحسب، بل كانت تحمل في أحشائها رؤية معينة لعراق المستقبل، يكون فيه المنظور الطائفي الديني محمياً بقوة السلاح، ويكون الحامي جزءاً لا يتجزأ من منظومة الدولة العراقية المعاصرة.
ويبدو أن «الحشد الشعبي» انتقل عملياً إلى حشد ميليشياوي إقليمي مشارك في الصراعات الإقليمية والدولية. وهذا المنظور السياسي والديني لـ«الحشد الشعبي» ليس جديداً، بل يعود لثمانينات القرن العشرين، ووصل لدرجة إنشاء «منظمة بدر» من عراقيين حاربوا ضد بلادهم لمدة عقود. هذه الخبرة التاريخية كرست كون الولاء الطائفي فوق الاعتبار الوطني، مما جعل من «الحشد الشعبي» العراقي لاعباً رئيسياً في المعادلة الداخلية العراقية، وحول تكتلاً وخليطاً مكوناً من 67 من الميليشيات المسلحة إلى قوة عسكرية شبه رسمية، بولاء خارجي.
أكثر من ذلك، تلعب الفصائل والميليشيات المرتبطة عقدياً بولاية الفقيه دوراً مهماً في طبيعة الصراع القائم اليوم بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، والمملكة العربية السعودية التي تعرضت لهجوم بطائرات مسيرة يعتقد أنها انطلقت من العراق في شهر مايو (أيار) 2019. كما أن اقتحام السفارة البحرينية في بغداد في 27 يونيو (حزيران) 2019، الذي كانت وراءه فصائل مسلحة موالية لإيران، يدل على اندراج تلك «الميليشيات» شبه الرسمية في المعركة القائمة حالياً بين الأطراف المشار إليها بالشرق الأوسط.
ويبدو أن الاجتماع الذي عقد بطهران يوم 19 يوليو (تموز) الماضي، بين المرشد الأعلى علي خامنئي وكبار المسؤولين الإيرانيين من جهة، ووفد عالي المستوى من قادة الميليشيات من العراق وسوريا واليمن من جهة أخرى، هو واحد من المؤشرات البارزة لطبيعة الدور الإقليمي للفصائل المسلحة الموالية عقدياً وعسكرياً لإيران بالشرق الأوسط. كما أن هذا الاجتماع الذي أشارت وسائل إعلام عراقية إلى أنه ناقش أساليب الرد على الهجمات الإسرائيلية على العراق وسوريا، والتحذير من أن تصل لليمن أيضاً، قد يفسر المنهجية التي رد بها «حزب الله» اللبناني على إسرائيل بتاريخ سبتمبر (أيلول) الحالي.
ويمكن القول كذلك إن «الطبيعة الإقليمية للحشد الشعبي» ظهرت بشكل لا لبس فيه بعد فرض أميركا لعقوبات قاسية على طهران، وظهور مؤشرات للمواجهة العسكرية بين الطرفين، إثر انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الموقع مع إيران سنة 2015. وكرد فعل على التهديدات الأميركية، قامت فصائل «الحشد الشعبي» باستهداف السفارة الأميركية بصاروخ كاتيوشا، بتاريخ 19 مايو (أيار) الماضي، وكان الهدف الرئيسي من ذلك توصيل رسالة لواشنطن، مفادها أن الهجوم على طهران يعني مشاركة كل «أذرعها» العسكرية بالمنطقة في الحرب المفترضة، مما يعني أنها ستكون حرباً إقليمية واسعة النطاق.
هذه السياسة التي تدور في الفلك الإيراني، ورؤية «الحرس الثوري» لطبيعة الصراع الاستراتيجي بالشرق الأوسط، تخدم التعبئة الآيديولوجية التي تتضمنها التصريحات التي يطلقها قادة «الحشد الشعبي» بخصوص أميركا. ومن ذلك تصريح المتحدث العسكري باسم حركة «عصائب أهل الحق»، جواد الطليباوي، التي أكد فيها أنه «ليس بين (الحشد الشعبي) والأميركيين أي تواصل، وليس بيننا وبينهم إلا الدم... ليس بيننا وبينهم إلا القتل».
كما تهدف هذا السياسة إلى فرض تموقع جديد «للحشد الشعبي» يوازن بين خلق نفوذ صلب داخل دولة العراق الجديدة، وفي الوقت نفسه القدرة على لعب دور إقليمي قد يتجاوز قدرة الدولة العراقية نفسها، وهو ما يعني أن ضم «الحشد الشعبي» للقوات العراقية ليس سوى دورة جديدة من دورات بناء النفوذ، ومسك الشرعية القانونية والمؤسساتية، للبقاء تحت المظلة الإيرانية، بمباركة شعبية رسمية.
ورغم أن «قانون هيئة الحشد الشعبي» يعود لسنة 2016، حيث أقر مجلس النواب العراقي ذو الأغلبية الشيعية بتاريخ 26 نوفمبر (تشرين الثاني) من تلك السنة المشروع الحكومي، فإن تحالف القوى العراقية السنية عد إقرار المشروع «نسفاً للشراكة الوطنية». كما عد القانون مخالفاً للإجماع العراقي، إضافة إلى أنه ينتهك الدستور العراقي، خصوصاً المادة (9) الفقرة (ب) التي تمنع بشكل قطعي أي تشكيل لميليشيات أو قوات مسلحة خارج إطار القوات المسلحة العراقية.
ومن الناحية النظرية، نص القانون صراحة على أن قوات «الحشد» ستكون قوة رديفة، إلى جانب القوات المسلحة العراقية، ترتبط بالقائد العام للقوات المسلحة. وبحسب القانون، يتألف «الحشد» من قيادة وهيئة أركان وألوية مقاتلة، ويخضع للقوانين العسكرية النافذة، ولا يسمح بالعمل السياسي في صفوفه، إلا أن ممارسات «الحشد» وقواه وفصائله وقياداته المتنفذين لم ينفذوا أياً من بنود القانون، حتى بعد إصدار الأمر الديواني من قبل رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، بتاريخ 11-3-2018 المرقم (57)، الذي لاقى حينها ردود فعل سلبية، واتهامات للعبادي بتنفيذ أجندات أميركية، وتضييع دماء الشهداء.
ولفهم ما يجري اليوم، لا بد من العودة إلى تاريخ 11-01-2018، وما يشير إليه من دلالات ورؤية استراتيجية تستشرف طبيعة الصراع العراقي الداخلي، وارتباطه بالتصورات الإيرانية لمستقبل منطقة الشرق الأوسط. ورغم أن هذا التاريخ يمثل حلقة من حلقات الالتباس القائم بين السلاح والسياسة في العراق الجديد، فإن حدث تشكيل الأمين العام لـ«منظمة بدر»، هادي العامري، تحالف «ائتلاف الفتح» الذي يضم فصائل «الحشد»، بالإضافة إلى 15 حزباً، يعني بداية مرحلة جديدة من تنامي نفوذ ميليشيات «الحشد الشعبي» الشيعية في العراق.
كما يعني أن «الحرس الثوري» الإيراني خلق شبكة من هذه الميليشيات المندرجة تحت مظلة رؤية ولاية الفقيه، ومنظورها الديني والسياسي لطبيعة المعركة القائمة حالياً بمنطقة الشرق الأوسط، وترتكز على قوة الميليشيات واندراجها الفعلي داخل الدول الوطنية، دون أن يعني ذلك الانصهار الكلي للكتلة المقاتلة في الجيش الرسمي.
ويبدو أن «الحرس الثوري» يستفيد من «تجربة حزب الله اللبناني»، وهي كتلة مسلحة مدربة تشارك في العملية السياسية ومؤسساتها الوطنية الشرعية، وفي الوقت نفسه تضمن تفوقاً عملياً على الجيش الرسمي الضعيف، وبالتالي تتحول الفصائل المسلحة الشيعية، بمساندة من طهران، لتحتل مربعاً يتماشى مع «استراتيجية دعم وحماية المسلح الطائفي للمصالح الحيوية»، مع تشبيك لمصالح جيواستراتيجية، وخلق معادلات إقليمية جديدة.
وفي العراق، تعد «منظمة بدر» من الميليشيات الكبرى في الحشد، إضافة إلى «عصائب أهل الحق»، و«سرايا الخرساني»، وحركة «حزب الله النجباء»، وسرايا «حزب الله»، وكلها تعتمد على «الحرس الثوري» في تدريبها وتمويلها، والدور الذي يقوم به الجنرال قاسم سليماني. أما عقدياً، فهي تتبنى آيديولوجية «خمينية» طائفية مرتكزة على ولاية الفقيه.
وإلى جانب تلك «الميليشيات»، هناك فصائل مسلحة أخرى، أبرزها «لواء العباس» و«لواء علي الأكبر»، وهما ميليشيات تابعة لآية الله السيستاني، تمول وتدرب وتسلح من قبل القوات العراقية، وتضم صفوفهما من 15 في المائة إلى 20 في المائة من المقاتلين السنة. وإلى جانب هذه المجموعات المسلحة، كانت هناك وحدات «سرايا السلام» التابعة لمقتضى الصدر التي أعلن عن حلها في شهر ديسمبر (كانون الأول) 2017.
ويمكن التأكيد على أن هذه المبادرة الصدرية، وإصدار قانون دمج الميليشيات في الجيش النظامي، من رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، لا تزيل الغموض القائم إلى الآن بخصوص إمكانية احتواء الميليشيات المسلحة. ونشير هنا إلى أن القانون يتكون من 10 نقاط، وأقرَّ منذ أكثر من 3 سنوات (2016) من مجلس النواب العراقي، لكن عبد المهدي أضاف ضرورة غلق المقرات المنتشرة في المدن المحررة من «داعش»، والتخلي عن التسميات غير العسكرية، وتحويلها إلى تصنيفات عسكرية (فرقة، كتيبة، لواء). كما وضع رئيس الوزراء عبد المهدي جدولاً زمنياً لتنفيذ القانون، يبدأ من يوليو (تموز) 2019، وينتهي في 31 يوليو (تموز) من السنة نفسها، وعد المخالف لهذه التدابير خارجاً عن القانون.
وأشارت دراسة للدكتور مايكل نايتس، وهو زميل أقدم في البرنامج العسكري والأمني في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، نشرت في أغسطس (آب) 2019، ويصدرها مركز مكافحة الإرهاب التابع للأكاديمية العسكرية الأميركية، إلى أن «ميلشيا بدر» جندت ما بين 18 إلى 22 ألف جندي مسجلين داخل الجيش العراقي الحالي. وقد اعتمد في تحديد هذا الرقم على تلك الجهود التي بذلتها الدولة لتدقيق وإحصاء المقاتلين من داخل الميليشيات. وقد جاء ذلك التدقيق وتلك المقابلات وفرز بيانات المقاتلين بعد نقاش وصراع سياسي بين مختلف المكونات السياسية والأمنية العراقية في عامي 2018 و2019.
ودور «الحشد الشعبي» يظهر في البيان الذي أصدره نائب رئيس هيئة «الحشد»، أبو مهدي، يوم الأربعاء 21 أغسطس (آب) 2019، والذي اتهم فيه الولايات المتحدة بالتواطؤ مع إسرائيل، بإدخال طائرات مسيرة إلى العراق لقصف مقرات «الحشد الشعبي». وهو البيان الذي أشاد به زعيم حركة «عصائب أهل الحق»، قيس الخزعلي، وعده ممثلاً «للحشد الشعبي» الذي يمتلك قوة الرد على أي عدوان ضد العراق.

* أستاذ العلوم السياسية
في جامعة محمد الخامس



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟