العراق وهيمنة الميليشيات الإيرانية

تعزز قدراتها خلف واجهة مؤسسات الدولة

عناصر من «الحشد الشعبي» العراقي في حالة انتشار واستعراض للقوة في مركزهم الرئيسي في النجف (إ.ب.أ)
عناصر من «الحشد الشعبي» العراقي في حالة انتشار واستعراض للقوة في مركزهم الرئيسي في النجف (إ.ب.أ)
TT

العراق وهيمنة الميليشيات الإيرانية

عناصر من «الحشد الشعبي» العراقي في حالة انتشار واستعراض للقوة في مركزهم الرئيسي في النجف (إ.ب.أ)
عناصر من «الحشد الشعبي» العراقي في حالة انتشار واستعراض للقوة في مركزهم الرئيسي في النجف (إ.ب.أ)

عاد «الحشد الشعبي»، برئاسة أبو مهدي المهندس، إلى الأضواء إثر عزم هذه «القوات» على تشكيل قوة جوية، وفق وثيقة رسمية بتاريخ 4 سبتمبر (أيلول) الحالي، رغم نفى قائد القوة الجوية في العراق، الفريق ركن أنور حمه أمين، علمه بهذا المستجد. وتأسس «الحشد الشعبي» بعد فتوى دينية من المرجعية الدينية الشيعية العليا بالعراق آية الله السيستاني، في 13 يونيو (حزيران) 2014، جعلت «الجهاد الكفائي» واجباً لمواجهة تنظيم داعش، بزعامة أبي بكر البغدادي.

يمكن القول إن العقلية المسلحة للجماعات المذهبية الشيعية لم تكن وليدة مواجهة الإرهاب وحسب، بل كانت تحمل في أحشائها رؤية معينة لعراق المستقبل، يكون فيه المنظور الطائفي الديني محمياً بقوة السلاح، ويكون الحامي جزءاً لا يتجزأ من منظومة الدولة العراقية المعاصرة.
ويبدو أن «الحشد الشعبي» انتقل عملياً إلى حشد ميليشياوي إقليمي مشارك في الصراعات الإقليمية والدولية. وهذا المنظور السياسي والديني لـ«الحشد الشعبي» ليس جديداً، بل يعود لثمانينات القرن العشرين، ووصل لدرجة إنشاء «منظمة بدر» من عراقيين حاربوا ضد بلادهم لمدة عقود. هذه الخبرة التاريخية كرست كون الولاء الطائفي فوق الاعتبار الوطني، مما جعل من «الحشد الشعبي» العراقي لاعباً رئيسياً في المعادلة الداخلية العراقية، وحول تكتلاً وخليطاً مكوناً من 67 من الميليشيات المسلحة إلى قوة عسكرية شبه رسمية، بولاء خارجي.
أكثر من ذلك، تلعب الفصائل والميليشيات المرتبطة عقدياً بولاية الفقيه دوراً مهماً في طبيعة الصراع القائم اليوم بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، والمملكة العربية السعودية التي تعرضت لهجوم بطائرات مسيرة يعتقد أنها انطلقت من العراق في شهر مايو (أيار) 2019. كما أن اقتحام السفارة البحرينية في بغداد في 27 يونيو (حزيران) 2019، الذي كانت وراءه فصائل مسلحة موالية لإيران، يدل على اندراج تلك «الميليشيات» شبه الرسمية في المعركة القائمة حالياً بين الأطراف المشار إليها بالشرق الأوسط.
ويبدو أن الاجتماع الذي عقد بطهران يوم 19 يوليو (تموز) الماضي، بين المرشد الأعلى علي خامنئي وكبار المسؤولين الإيرانيين من جهة، ووفد عالي المستوى من قادة الميليشيات من العراق وسوريا واليمن من جهة أخرى، هو واحد من المؤشرات البارزة لطبيعة الدور الإقليمي للفصائل المسلحة الموالية عقدياً وعسكرياً لإيران بالشرق الأوسط. كما أن هذا الاجتماع الذي أشارت وسائل إعلام عراقية إلى أنه ناقش أساليب الرد على الهجمات الإسرائيلية على العراق وسوريا، والتحذير من أن تصل لليمن أيضاً، قد يفسر المنهجية التي رد بها «حزب الله» اللبناني على إسرائيل بتاريخ سبتمبر (أيلول) الحالي.
ويمكن القول كذلك إن «الطبيعة الإقليمية للحشد الشعبي» ظهرت بشكل لا لبس فيه بعد فرض أميركا لعقوبات قاسية على طهران، وظهور مؤشرات للمواجهة العسكرية بين الطرفين، إثر انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الموقع مع إيران سنة 2015. وكرد فعل على التهديدات الأميركية، قامت فصائل «الحشد الشعبي» باستهداف السفارة الأميركية بصاروخ كاتيوشا، بتاريخ 19 مايو (أيار) الماضي، وكان الهدف الرئيسي من ذلك توصيل رسالة لواشنطن، مفادها أن الهجوم على طهران يعني مشاركة كل «أذرعها» العسكرية بالمنطقة في الحرب المفترضة، مما يعني أنها ستكون حرباً إقليمية واسعة النطاق.
هذه السياسة التي تدور في الفلك الإيراني، ورؤية «الحرس الثوري» لطبيعة الصراع الاستراتيجي بالشرق الأوسط، تخدم التعبئة الآيديولوجية التي تتضمنها التصريحات التي يطلقها قادة «الحشد الشعبي» بخصوص أميركا. ومن ذلك تصريح المتحدث العسكري باسم حركة «عصائب أهل الحق»، جواد الطليباوي، التي أكد فيها أنه «ليس بين (الحشد الشعبي) والأميركيين أي تواصل، وليس بيننا وبينهم إلا الدم... ليس بيننا وبينهم إلا القتل».
كما تهدف هذا السياسة إلى فرض تموقع جديد «للحشد الشعبي» يوازن بين خلق نفوذ صلب داخل دولة العراق الجديدة، وفي الوقت نفسه القدرة على لعب دور إقليمي قد يتجاوز قدرة الدولة العراقية نفسها، وهو ما يعني أن ضم «الحشد الشعبي» للقوات العراقية ليس سوى دورة جديدة من دورات بناء النفوذ، ومسك الشرعية القانونية والمؤسساتية، للبقاء تحت المظلة الإيرانية، بمباركة شعبية رسمية.
ورغم أن «قانون هيئة الحشد الشعبي» يعود لسنة 2016، حيث أقر مجلس النواب العراقي ذو الأغلبية الشيعية بتاريخ 26 نوفمبر (تشرين الثاني) من تلك السنة المشروع الحكومي، فإن تحالف القوى العراقية السنية عد إقرار المشروع «نسفاً للشراكة الوطنية». كما عد القانون مخالفاً للإجماع العراقي، إضافة إلى أنه ينتهك الدستور العراقي، خصوصاً المادة (9) الفقرة (ب) التي تمنع بشكل قطعي أي تشكيل لميليشيات أو قوات مسلحة خارج إطار القوات المسلحة العراقية.
ومن الناحية النظرية، نص القانون صراحة على أن قوات «الحشد» ستكون قوة رديفة، إلى جانب القوات المسلحة العراقية، ترتبط بالقائد العام للقوات المسلحة. وبحسب القانون، يتألف «الحشد» من قيادة وهيئة أركان وألوية مقاتلة، ويخضع للقوانين العسكرية النافذة، ولا يسمح بالعمل السياسي في صفوفه، إلا أن ممارسات «الحشد» وقواه وفصائله وقياداته المتنفذين لم ينفذوا أياً من بنود القانون، حتى بعد إصدار الأمر الديواني من قبل رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، بتاريخ 11-3-2018 المرقم (57)، الذي لاقى حينها ردود فعل سلبية، واتهامات للعبادي بتنفيذ أجندات أميركية، وتضييع دماء الشهداء.
ولفهم ما يجري اليوم، لا بد من العودة إلى تاريخ 11-01-2018، وما يشير إليه من دلالات ورؤية استراتيجية تستشرف طبيعة الصراع العراقي الداخلي، وارتباطه بالتصورات الإيرانية لمستقبل منطقة الشرق الأوسط. ورغم أن هذا التاريخ يمثل حلقة من حلقات الالتباس القائم بين السلاح والسياسة في العراق الجديد، فإن حدث تشكيل الأمين العام لـ«منظمة بدر»، هادي العامري، تحالف «ائتلاف الفتح» الذي يضم فصائل «الحشد»، بالإضافة إلى 15 حزباً، يعني بداية مرحلة جديدة من تنامي نفوذ ميليشيات «الحشد الشعبي» الشيعية في العراق.
كما يعني أن «الحرس الثوري» الإيراني خلق شبكة من هذه الميليشيات المندرجة تحت مظلة رؤية ولاية الفقيه، ومنظورها الديني والسياسي لطبيعة المعركة القائمة حالياً بمنطقة الشرق الأوسط، وترتكز على قوة الميليشيات واندراجها الفعلي داخل الدول الوطنية، دون أن يعني ذلك الانصهار الكلي للكتلة المقاتلة في الجيش الرسمي.
ويبدو أن «الحرس الثوري» يستفيد من «تجربة حزب الله اللبناني»، وهي كتلة مسلحة مدربة تشارك في العملية السياسية ومؤسساتها الوطنية الشرعية، وفي الوقت نفسه تضمن تفوقاً عملياً على الجيش الرسمي الضعيف، وبالتالي تتحول الفصائل المسلحة الشيعية، بمساندة من طهران، لتحتل مربعاً يتماشى مع «استراتيجية دعم وحماية المسلح الطائفي للمصالح الحيوية»، مع تشبيك لمصالح جيواستراتيجية، وخلق معادلات إقليمية جديدة.
وفي العراق، تعد «منظمة بدر» من الميليشيات الكبرى في الحشد، إضافة إلى «عصائب أهل الحق»، و«سرايا الخرساني»، وحركة «حزب الله النجباء»، وسرايا «حزب الله»، وكلها تعتمد على «الحرس الثوري» في تدريبها وتمويلها، والدور الذي يقوم به الجنرال قاسم سليماني. أما عقدياً، فهي تتبنى آيديولوجية «خمينية» طائفية مرتكزة على ولاية الفقيه.
وإلى جانب تلك «الميليشيات»، هناك فصائل مسلحة أخرى، أبرزها «لواء العباس» و«لواء علي الأكبر»، وهما ميليشيات تابعة لآية الله السيستاني، تمول وتدرب وتسلح من قبل القوات العراقية، وتضم صفوفهما من 15 في المائة إلى 20 في المائة من المقاتلين السنة. وإلى جانب هذه المجموعات المسلحة، كانت هناك وحدات «سرايا السلام» التابعة لمقتضى الصدر التي أعلن عن حلها في شهر ديسمبر (كانون الأول) 2017.
ويمكن التأكيد على أن هذه المبادرة الصدرية، وإصدار قانون دمج الميليشيات في الجيش النظامي، من رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، لا تزيل الغموض القائم إلى الآن بخصوص إمكانية احتواء الميليشيات المسلحة. ونشير هنا إلى أن القانون يتكون من 10 نقاط، وأقرَّ منذ أكثر من 3 سنوات (2016) من مجلس النواب العراقي، لكن عبد المهدي أضاف ضرورة غلق المقرات المنتشرة في المدن المحررة من «داعش»، والتخلي عن التسميات غير العسكرية، وتحويلها إلى تصنيفات عسكرية (فرقة، كتيبة، لواء). كما وضع رئيس الوزراء عبد المهدي جدولاً زمنياً لتنفيذ القانون، يبدأ من يوليو (تموز) 2019، وينتهي في 31 يوليو (تموز) من السنة نفسها، وعد المخالف لهذه التدابير خارجاً عن القانون.
وأشارت دراسة للدكتور مايكل نايتس، وهو زميل أقدم في البرنامج العسكري والأمني في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، نشرت في أغسطس (آب) 2019، ويصدرها مركز مكافحة الإرهاب التابع للأكاديمية العسكرية الأميركية، إلى أن «ميلشيا بدر» جندت ما بين 18 إلى 22 ألف جندي مسجلين داخل الجيش العراقي الحالي. وقد اعتمد في تحديد هذا الرقم على تلك الجهود التي بذلتها الدولة لتدقيق وإحصاء المقاتلين من داخل الميليشيات. وقد جاء ذلك التدقيق وتلك المقابلات وفرز بيانات المقاتلين بعد نقاش وصراع سياسي بين مختلف المكونات السياسية والأمنية العراقية في عامي 2018 و2019.
ودور «الحشد الشعبي» يظهر في البيان الذي أصدره نائب رئيس هيئة «الحشد»، أبو مهدي، يوم الأربعاء 21 أغسطس (آب) 2019، والذي اتهم فيه الولايات المتحدة بالتواطؤ مع إسرائيل، بإدخال طائرات مسيرة إلى العراق لقصف مقرات «الحشد الشعبي». وهو البيان الذي أشاد به زعيم حركة «عصائب أهل الحق»، قيس الخزعلي، وعده ممثلاً «للحشد الشعبي» الذي يمتلك قوة الرد على أي عدوان ضد العراق.

* أستاذ العلوم السياسية
في جامعة محمد الخامس



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.