العراق وهيمنة الميليشيات الإيرانية

تعزز قدراتها خلف واجهة مؤسسات الدولة

عناصر من «الحشد الشعبي» العراقي في حالة انتشار واستعراض للقوة في مركزهم الرئيسي في النجف (إ.ب.أ)
عناصر من «الحشد الشعبي» العراقي في حالة انتشار واستعراض للقوة في مركزهم الرئيسي في النجف (إ.ب.أ)
TT

العراق وهيمنة الميليشيات الإيرانية

عناصر من «الحشد الشعبي» العراقي في حالة انتشار واستعراض للقوة في مركزهم الرئيسي في النجف (إ.ب.أ)
عناصر من «الحشد الشعبي» العراقي في حالة انتشار واستعراض للقوة في مركزهم الرئيسي في النجف (إ.ب.أ)

عاد «الحشد الشعبي»، برئاسة أبو مهدي المهندس، إلى الأضواء إثر عزم هذه «القوات» على تشكيل قوة جوية، وفق وثيقة رسمية بتاريخ 4 سبتمبر (أيلول) الحالي، رغم نفى قائد القوة الجوية في العراق، الفريق ركن أنور حمه أمين، علمه بهذا المستجد. وتأسس «الحشد الشعبي» بعد فتوى دينية من المرجعية الدينية الشيعية العليا بالعراق آية الله السيستاني، في 13 يونيو (حزيران) 2014، جعلت «الجهاد الكفائي» واجباً لمواجهة تنظيم داعش، بزعامة أبي بكر البغدادي.

يمكن القول إن العقلية المسلحة للجماعات المذهبية الشيعية لم تكن وليدة مواجهة الإرهاب وحسب، بل كانت تحمل في أحشائها رؤية معينة لعراق المستقبل، يكون فيه المنظور الطائفي الديني محمياً بقوة السلاح، ويكون الحامي جزءاً لا يتجزأ من منظومة الدولة العراقية المعاصرة.
ويبدو أن «الحشد الشعبي» انتقل عملياً إلى حشد ميليشياوي إقليمي مشارك في الصراعات الإقليمية والدولية. وهذا المنظور السياسي والديني لـ«الحشد الشعبي» ليس جديداً، بل يعود لثمانينات القرن العشرين، ووصل لدرجة إنشاء «منظمة بدر» من عراقيين حاربوا ضد بلادهم لمدة عقود. هذه الخبرة التاريخية كرست كون الولاء الطائفي فوق الاعتبار الوطني، مما جعل من «الحشد الشعبي» العراقي لاعباً رئيسياً في المعادلة الداخلية العراقية، وحول تكتلاً وخليطاً مكوناً من 67 من الميليشيات المسلحة إلى قوة عسكرية شبه رسمية، بولاء خارجي.
أكثر من ذلك، تلعب الفصائل والميليشيات المرتبطة عقدياً بولاية الفقيه دوراً مهماً في طبيعة الصراع القائم اليوم بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، والمملكة العربية السعودية التي تعرضت لهجوم بطائرات مسيرة يعتقد أنها انطلقت من العراق في شهر مايو (أيار) 2019. كما أن اقتحام السفارة البحرينية في بغداد في 27 يونيو (حزيران) 2019، الذي كانت وراءه فصائل مسلحة موالية لإيران، يدل على اندراج تلك «الميليشيات» شبه الرسمية في المعركة القائمة حالياً بين الأطراف المشار إليها بالشرق الأوسط.
ويبدو أن الاجتماع الذي عقد بطهران يوم 19 يوليو (تموز) الماضي، بين المرشد الأعلى علي خامنئي وكبار المسؤولين الإيرانيين من جهة، ووفد عالي المستوى من قادة الميليشيات من العراق وسوريا واليمن من جهة أخرى، هو واحد من المؤشرات البارزة لطبيعة الدور الإقليمي للفصائل المسلحة الموالية عقدياً وعسكرياً لإيران بالشرق الأوسط. كما أن هذا الاجتماع الذي أشارت وسائل إعلام عراقية إلى أنه ناقش أساليب الرد على الهجمات الإسرائيلية على العراق وسوريا، والتحذير من أن تصل لليمن أيضاً، قد يفسر المنهجية التي رد بها «حزب الله» اللبناني على إسرائيل بتاريخ سبتمبر (أيلول) الحالي.
ويمكن القول كذلك إن «الطبيعة الإقليمية للحشد الشعبي» ظهرت بشكل لا لبس فيه بعد فرض أميركا لعقوبات قاسية على طهران، وظهور مؤشرات للمواجهة العسكرية بين الطرفين، إثر انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الموقع مع إيران سنة 2015. وكرد فعل على التهديدات الأميركية، قامت فصائل «الحشد الشعبي» باستهداف السفارة الأميركية بصاروخ كاتيوشا، بتاريخ 19 مايو (أيار) الماضي، وكان الهدف الرئيسي من ذلك توصيل رسالة لواشنطن، مفادها أن الهجوم على طهران يعني مشاركة كل «أذرعها» العسكرية بالمنطقة في الحرب المفترضة، مما يعني أنها ستكون حرباً إقليمية واسعة النطاق.
هذه السياسة التي تدور في الفلك الإيراني، ورؤية «الحرس الثوري» لطبيعة الصراع الاستراتيجي بالشرق الأوسط، تخدم التعبئة الآيديولوجية التي تتضمنها التصريحات التي يطلقها قادة «الحشد الشعبي» بخصوص أميركا. ومن ذلك تصريح المتحدث العسكري باسم حركة «عصائب أهل الحق»، جواد الطليباوي، التي أكد فيها أنه «ليس بين (الحشد الشعبي) والأميركيين أي تواصل، وليس بيننا وبينهم إلا الدم... ليس بيننا وبينهم إلا القتل».
كما تهدف هذا السياسة إلى فرض تموقع جديد «للحشد الشعبي» يوازن بين خلق نفوذ صلب داخل دولة العراق الجديدة، وفي الوقت نفسه القدرة على لعب دور إقليمي قد يتجاوز قدرة الدولة العراقية نفسها، وهو ما يعني أن ضم «الحشد الشعبي» للقوات العراقية ليس سوى دورة جديدة من دورات بناء النفوذ، ومسك الشرعية القانونية والمؤسساتية، للبقاء تحت المظلة الإيرانية، بمباركة شعبية رسمية.
ورغم أن «قانون هيئة الحشد الشعبي» يعود لسنة 2016، حيث أقر مجلس النواب العراقي ذو الأغلبية الشيعية بتاريخ 26 نوفمبر (تشرين الثاني) من تلك السنة المشروع الحكومي، فإن تحالف القوى العراقية السنية عد إقرار المشروع «نسفاً للشراكة الوطنية». كما عد القانون مخالفاً للإجماع العراقي، إضافة إلى أنه ينتهك الدستور العراقي، خصوصاً المادة (9) الفقرة (ب) التي تمنع بشكل قطعي أي تشكيل لميليشيات أو قوات مسلحة خارج إطار القوات المسلحة العراقية.
ومن الناحية النظرية، نص القانون صراحة على أن قوات «الحشد» ستكون قوة رديفة، إلى جانب القوات المسلحة العراقية، ترتبط بالقائد العام للقوات المسلحة. وبحسب القانون، يتألف «الحشد» من قيادة وهيئة أركان وألوية مقاتلة، ويخضع للقوانين العسكرية النافذة، ولا يسمح بالعمل السياسي في صفوفه، إلا أن ممارسات «الحشد» وقواه وفصائله وقياداته المتنفذين لم ينفذوا أياً من بنود القانون، حتى بعد إصدار الأمر الديواني من قبل رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، بتاريخ 11-3-2018 المرقم (57)، الذي لاقى حينها ردود فعل سلبية، واتهامات للعبادي بتنفيذ أجندات أميركية، وتضييع دماء الشهداء.
ولفهم ما يجري اليوم، لا بد من العودة إلى تاريخ 11-01-2018، وما يشير إليه من دلالات ورؤية استراتيجية تستشرف طبيعة الصراع العراقي الداخلي، وارتباطه بالتصورات الإيرانية لمستقبل منطقة الشرق الأوسط. ورغم أن هذا التاريخ يمثل حلقة من حلقات الالتباس القائم بين السلاح والسياسة في العراق الجديد، فإن حدث تشكيل الأمين العام لـ«منظمة بدر»، هادي العامري، تحالف «ائتلاف الفتح» الذي يضم فصائل «الحشد»، بالإضافة إلى 15 حزباً، يعني بداية مرحلة جديدة من تنامي نفوذ ميليشيات «الحشد الشعبي» الشيعية في العراق.
كما يعني أن «الحرس الثوري» الإيراني خلق شبكة من هذه الميليشيات المندرجة تحت مظلة رؤية ولاية الفقيه، ومنظورها الديني والسياسي لطبيعة المعركة القائمة حالياً بمنطقة الشرق الأوسط، وترتكز على قوة الميليشيات واندراجها الفعلي داخل الدول الوطنية، دون أن يعني ذلك الانصهار الكلي للكتلة المقاتلة في الجيش الرسمي.
ويبدو أن «الحرس الثوري» يستفيد من «تجربة حزب الله اللبناني»، وهي كتلة مسلحة مدربة تشارك في العملية السياسية ومؤسساتها الوطنية الشرعية، وفي الوقت نفسه تضمن تفوقاً عملياً على الجيش الرسمي الضعيف، وبالتالي تتحول الفصائل المسلحة الشيعية، بمساندة من طهران، لتحتل مربعاً يتماشى مع «استراتيجية دعم وحماية المسلح الطائفي للمصالح الحيوية»، مع تشبيك لمصالح جيواستراتيجية، وخلق معادلات إقليمية جديدة.
وفي العراق، تعد «منظمة بدر» من الميليشيات الكبرى في الحشد، إضافة إلى «عصائب أهل الحق»، و«سرايا الخرساني»، وحركة «حزب الله النجباء»، وسرايا «حزب الله»، وكلها تعتمد على «الحرس الثوري» في تدريبها وتمويلها، والدور الذي يقوم به الجنرال قاسم سليماني. أما عقدياً، فهي تتبنى آيديولوجية «خمينية» طائفية مرتكزة على ولاية الفقيه.
وإلى جانب تلك «الميليشيات»، هناك فصائل مسلحة أخرى، أبرزها «لواء العباس» و«لواء علي الأكبر»، وهما ميليشيات تابعة لآية الله السيستاني، تمول وتدرب وتسلح من قبل القوات العراقية، وتضم صفوفهما من 15 في المائة إلى 20 في المائة من المقاتلين السنة. وإلى جانب هذه المجموعات المسلحة، كانت هناك وحدات «سرايا السلام» التابعة لمقتضى الصدر التي أعلن عن حلها في شهر ديسمبر (كانون الأول) 2017.
ويمكن التأكيد على أن هذه المبادرة الصدرية، وإصدار قانون دمج الميليشيات في الجيش النظامي، من رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، لا تزيل الغموض القائم إلى الآن بخصوص إمكانية احتواء الميليشيات المسلحة. ونشير هنا إلى أن القانون يتكون من 10 نقاط، وأقرَّ منذ أكثر من 3 سنوات (2016) من مجلس النواب العراقي، لكن عبد المهدي أضاف ضرورة غلق المقرات المنتشرة في المدن المحررة من «داعش»، والتخلي عن التسميات غير العسكرية، وتحويلها إلى تصنيفات عسكرية (فرقة، كتيبة، لواء). كما وضع رئيس الوزراء عبد المهدي جدولاً زمنياً لتنفيذ القانون، يبدأ من يوليو (تموز) 2019، وينتهي في 31 يوليو (تموز) من السنة نفسها، وعد المخالف لهذه التدابير خارجاً عن القانون.
وأشارت دراسة للدكتور مايكل نايتس، وهو زميل أقدم في البرنامج العسكري والأمني في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، نشرت في أغسطس (آب) 2019، ويصدرها مركز مكافحة الإرهاب التابع للأكاديمية العسكرية الأميركية، إلى أن «ميلشيا بدر» جندت ما بين 18 إلى 22 ألف جندي مسجلين داخل الجيش العراقي الحالي. وقد اعتمد في تحديد هذا الرقم على تلك الجهود التي بذلتها الدولة لتدقيق وإحصاء المقاتلين من داخل الميليشيات. وقد جاء ذلك التدقيق وتلك المقابلات وفرز بيانات المقاتلين بعد نقاش وصراع سياسي بين مختلف المكونات السياسية والأمنية العراقية في عامي 2018 و2019.
ودور «الحشد الشعبي» يظهر في البيان الذي أصدره نائب رئيس هيئة «الحشد»، أبو مهدي، يوم الأربعاء 21 أغسطس (آب) 2019، والذي اتهم فيه الولايات المتحدة بالتواطؤ مع إسرائيل، بإدخال طائرات مسيرة إلى العراق لقصف مقرات «الحشد الشعبي». وهو البيان الذي أشاد به زعيم حركة «عصائب أهل الحق»، قيس الخزعلي، وعده ممثلاً «للحشد الشعبي» الذي يمتلك قوة الرد على أي عدوان ضد العراق.

* أستاذ العلوم السياسية
في جامعة محمد الخامس



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.