الحلقة (6): «سبها» تقلب حياة التلميذ معمر رأسا على عقب وتتسبب في طرده من ولاية فزان إلى «مصراتة»

أحمد قذاف الدم يروي لـ {الشرق الأوسط} مسيرة نصف قرن مع معمر القذافي

قوة تدريب أساس الجيش السنوسي (جيش التحرير) ويتكون من ضباط وضباط صف ليبيين وإنجليز وأخذت الصورة في المقر الأساس جنوب غربي القاهرة وفيها محمد قذاف الدم والد أحمد
قوة تدريب أساس الجيش السنوسي (جيش التحرير) ويتكون من ضباط وضباط صف ليبيين وإنجليز وأخذت الصورة في المقر الأساس جنوب غربي القاهرة وفيها محمد قذاف الدم والد أحمد
TT

الحلقة (6): «سبها» تقلب حياة التلميذ معمر رأسا على عقب وتتسبب في طرده من ولاية فزان إلى «مصراتة»

قوة تدريب أساس الجيش السنوسي (جيش التحرير) ويتكون من ضباط وضباط صف ليبيين وإنجليز وأخذت الصورة في المقر الأساس جنوب غربي القاهرة وفيها محمد قذاف الدم والد أحمد
قوة تدريب أساس الجيش السنوسي (جيش التحرير) ويتكون من ضباط وضباط صف ليبيين وإنجليز وأخذت الصورة في المقر الأساس جنوب غربي القاهرة وفيها محمد قذاف الدم والد أحمد

كانت قوافل الإبل تمضي إلى إقليم فزان في الجنوب وسط الصحراء القاحلة في مطلع خمسينات القرن الماضي. وعلى طول الدرب حيث تمر على النجوع تستمع لقصص عن الوباء الذي قتل أطفالا من القبيلة الفلانية وعن «غزو الطليان» الذي أجبر قبيلة أخرى على الهجرة. هذه واحدة من مسيرات الترحال. وسيمر من هنا فتى لم يتجاوز عمره 15 عاما، مرتديا بالطو أسود فوق بنطلون داكن وجاكيت رمادي، ويبدو منطويا على نفسه حينا ومنفتحا على الآخرين، لكن في مجموعات صغيرة ومحددة، حينا آخر..
يمضي مرة على ظهر ناقة ومرة في صندوق شاحنة، مع المرتحلين بين البلدات الصحراوية، ويراقب العوز في خيام النجوع البائسة وفي أكشاك الصفيح والخشب في القرى. ومن هنا يقرأ بعضا من الكتب القليلة المتوفرة في هذا القفر، عن الثورات ونظم الحكم، وسيتشكل فكره الذي حيّر العالم، إلى أن ترك بلاده في فوضى عارمة في 2011. بينما لا أحد يعرف المكان الذي دفن فيه، ولا حقيقة الكثير من الأسرار التي ظلت معلقة في الفراغ. وتمر الأيام ولا تكف الريح عن الهبوب وهي تسفي الرمال على سكان البوادي الممتدة من مدينة سرت في شمال وسط ليبيا، حتى مدينة سبها على بعد نحو 600 كيلومتر في الجنوب.

لم تكن هذه هي البداية الوحيدة التي تسببت في أن يطفو اسم قبيلة «القذاذفة» على سطح الأحداث في العالم من خلال رجلين على الأقل، الأول هو معمر القذافي، والثاني هو ابن عمه، أحمد قذاف الدم، الذي يروي لـ«الشرق الأوسط» أسرار الكثير من الأحداث. الآن نحن في السنوات الأولى من القرن العشرين، حين نزح عدد من أولاد قبيلة القذاذفة مع عائلاتهم المنكوبة إلى مصر، هربا من الاحتلال الإيطالي لليبيا. وفي مصر ولد قذاف الدم، الذي أصبح يعرف فيما بعد بأنه «رجل ليبيا في مصر»، و«رجل مصر في ليبيا» أيضا.. كما أطلق عليه الإعلام أحيانا «الصندوق الأسود وكاتم أسرار القذافي».
ولم يظهر البالطو الأسود على جسد معمر القذافي إلا مع بداية الصف النهائي من المرحلة الإعدادية في مدرسة سبها المركزية، حيث كان من قبل يلبس الثوب الأبيض ويضع الطاقية البيضاء على رأسه مثل باقي تلاميذ المدرسة.. وبهذه المناسبة، لا بد أنك تتخيل الآن الملابس الأفريقية الملونة التي أصبح يرتديها حاملا لقب «ملك ملوك أفريقيا» وتثير الاستغراب في السنوات الأخيرة من حكمه لليبيا الذي استمر 42 سنة، لكن أحمد قذاف الدم يقول إن القذافي كان في الحقيقة يحارب الدول الاستعمارية في أفريقيا من خلال استقطاب قيادات ممالك القارة السمراء، و«للأسف كان البعض يسخر من هذا العمل، ويقولون.. أصبح القذافي ملك ملوك أفريقيا التقليديين وأصبح يرتدي الملابس الأفريقية، وغير ذلك، لكن هذا كان عملا جبارا هو الذي أدى لقلق الغرب منه، واستفزهم، وقتلوه لهذا السبب مع أسباب أخرى».
وبالعودة إلى الوراء عدة عقود ستجد أن التربة التي نما فيها هذا الرجل، قرب معسكرات الفرنسيين في سبها، كانت عبارة عن خليط من الثقافة البدوية الليبية، ممزوجة بالانفتاح المصري على الراديو وما فيه من أخبار وخطب وموسيقى، إضافة للطابع العسكري الذي تطبعت به أسرة «قذاف الدم» حين انتقل القذافي صبيا لاستكمال دراسته النظامية لديها، بدلا من الاقتصار على التعليم الديني في سرت. كان عمر المختار يقاتل الإيطاليين في شرق البلاد، في الربع الأول من القرن الماضي. وفي ذلك الوقت تحرك ركبان من الرجال الجرحى والنساء والأطفال من مدينة سرت في اتجاهين للنجاة بأنفسهم.. الأول ناحية الصحراء الغربية المصرية والثاني ناحية الصحراء التشادية في أقصى الجنوب، وذلك بعد أن أسرَ الطليان وقتلوا الكثير من المقاومين. وكان معتقل العقيلة المجاور للمدينة يغص بالليبيين، بينما انتقلت عائلة والد القذافي، الذي لم يكن قد أنجب معمر بعد، إلى صحراء سرت الجنوبية بعيدا عن خطر الإيطاليين.
ويقول أحمد قذاف الدم: «عندما قتل الطليان جدي، فر كثيرون من أهلنا، من الصغار والعجائز.. هاجر بعضهم إلى مصر وبعضهم إلى تشاد، بينما نزحت عائلة والد معمر إلى جنوب سرت. الوضع كان خطيرا لعائلات ليبية بدوية مسالمة، ولم يكن هناك أي شيء يحتمون به أو يلجأون إليه للبقاء حتى على قيد الحياة.. كانوا مطاردين، لأن الاستعمار الإيطالي وقتها كان يسعى لتفريغ ليبيا من السكان ويتعامل معها على أنها الشاطئ الرابع لإيطاليا».
وأخيرا وصلت هذه القافلة، التي فيها والد قذاف الدم، إلى واحة جغبوب الليبية ومنها إلى واحة سيوة المقابلة، داخل مصر. وكان في القافلة فتى لا يزيد عمره عن 16 سنة، هو والد أحمد قذاف الدم، الذي سينخرط في جيش التحرير الوطني، بقيادة الأمير محمد إدريس السنوسي، انطلاقا من مصر، وسيصبح آمرا في الجيش قرب معسكرات الفرنسيين في جنوب ليبيا، وسيستضيف معمر في بيته بعد أن يعود إلى سبها، حيث سيثير هذا التلميذ عاصفة من التساؤلات في تلك البلدة التي كانت في ذلك الوقت تشبه في معظمها القرية المعزولة عن العالم.
ويبدو أن أحمد قذاف الدم نفسه تأثر بـ«غرابة» التلميذ «معمر» أمام أهل سبها وطلابها، أو على الأقل دفعه سلوكه الذي لا يشبه سلوك الآخرين، إلى التفكير في العالم من منظور مختلف، فهو، أي أحمد، شارك في خوض معارك كضابط في بلدان مختلفة في مصر ولبنان وأوغندا وغيرها، قبل أن يتحول لدبلوماسي حافظ أسرار القذافي ولطف الأجواء بينه وبين زعماء في الغرب والشرق.
ولقب «قذاف الدم» مأخوذ من الصفة التي يتميز بها «القلب»، وهي «ضخ الدم». ويقول أحمد عن رحلة نزوح والده إلى مصر كما سمعها منه بعد أن ولد وشب عن الطوق، إن القافلة واصلت رحلتها في مشقة ناحية الشرق، إلى أن وصلت إلى بحيرة قارون في محافظة الفيوم الواقعة جنوب القاهرة بنحو 90 كيلومترا، وظلت فترة هناك، وحين أصبح سن والده في العشرينات، انتقل ومن معه من ليبيين، للقاهرة التي كانت تشبه المدن الأوروبية جمالا ونظاما، وبدأوا ينتشرون بمصر.
وفي ذلك الوقت كانت نذر الحرب العالمية الثانية تخيم على المنطقة.. وبدأ القادة السياسيون يتحينون الفرص لكسب ما يمكن من بين مخالب الأطراف الدولية المتصارعة.. وكان الأمير محمد إدريس السنوسي، قد يئس من كثرة نقض الإيطاليين للمعاهدات التي يبرمونها في منطقة إقليم برقة، في الشرق الليبي، حيث كانت مدينة إجدابيا عاصمة للإقليم ومقرا للحكم. وزاد العداء بين الأمير والإيطاليين بعد أن بايعه الليبيون على أن يكون أميرا لإقليمي طرابلس وبرقة، حيث أججت هذه الخطوة غضب الإيطاليين منه ومن المقاومين بقيادة عمر المختار، خاصة بعد استيلاء الفاشيين على الحكم في روما، فوجهوا قوتهم إلى ليبيا في موجة جديدة من المطاردات والقتل والتخريب والاحتجاز في المعسكرات داخل الصحراء، بينما كانت البلاد تعاني أصلا من الفقر وانتشار الأوبئة.
وتتناقل أسر الليبيين أمام الصغار، ومنهم معمر وأحمد، كيف كانت طائرات الإيطاليين تأتي من السماء لضرب من يعتقد أنهم من ذوي «المتمردين». وكان الضرب على النجوع، فتجري النساء بأرديتهن المخططة - وهو لباس ليبي تقليدي للمرأة - بين القذائف المتفجرة في الرمال، يحاولن الاختباء بين الشجيرات الصحراوية القصيرة. ويستغرق الأمر وقتا قبل أن ترجع النساء مرة أخرى لبيوتهن ليستأنفن طحن الشعير على الرحى، من أجل تجهيز الطعام للرجال الذين سيأتون على الخيول للراحة بضع ساعات قبل أن يواصلوا الهجوم على معسكرات الإيطاليين.
وكانت توجد خشية على حياة الأمير من عسف الإيطاليين وهو في ليبيا، فتقرر أن ينتقل لإدارة الأمور من مصر التي كانت تحت الاحتلال الإنجليزي. وكانت القاهرة أيضا متعاطفة مع القضية الليبية في ذلك الوقت. ومع قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939. استغل القادة السياسيون الليبيون بمصر الفرصة، وانضموا إلى الجانب المعادي للإيطاليين في تلك الحرب، وهم الإنجليز، بناء على اجتماعين عقدا في الإسكندرية والقاهرة لتكوين جيش لتحرير ليبيا وخوض غمار الحرب ضد إيطاليا بجانب الجيوش البريطانية وتحت الإمارة السنوسية.
ويقول أحمد قذاف الدم: في القاهرة تعرف والدي على الكثير من الليبيين المهجرين الآخرين.. التقوا بعضهم بعضا، وبدأ الحديث عن كيفية العودة إلى ليبيا وتحريرها من الطليان، وبدأت هذه الأفكار تتبلور إلى أن وصلت، مع الباقين، إلى فكرة إنشاء جيش تحرير ليبيا. واتجهوا للأمير محمد بحكم علاقته بالإنجليز، حيث كان ما زال يقيم في مصر، وبدأوا في تأسيس الجيش السنوسي وتدريبه في منطقة معسكرات أبو رواش، أي في الكيلو 9 بجوار الهرم (جنوب غربي القاهرة)، ودخل والدي مع أول مائة شاب ليبي الكلية الحربية المصرية. وأخذوا أيضا في تجنيد الليبيين بمصر وبعض المتطوعين من قبائل البادية للانضمام للجيش.
وكان جيش التحرير يتوجه من القاهرة غربا رويدا رويدا، بينما كان الطليان المتحالفون مع الألمان يعدون العدة لدخول مصر من ناحية برقة.. وفي محافظة البحيرة قرب مدينة الإسكندرية، تعرف والد أحمد على الشيخ حامد علي، شيخ قبائل «أولاد علي» بمصر في ذلك الوقت، وطلب منه مزيدا من المتطوعين لكي يذهبوا للجهاد ضد الطليان في ليبيا، فاستجاب له، وتطوع الكثيرون من محافظة البحيرة ومطروح وغيرهما، وبعضهم استقر فيما بعد في ليبيا، وبعضهم عاد لمصر بعد التحرير. ويقول أحمد قذاف الدم: «والدي تزوج ابنة الشيخ حامد علي، في تلك الفترة. وهذا هو أحد الأسباب التي ربطته بقبائل أولاد علي، حينها. كما أنني ولدت في مصر، أنا وأخي الأكبر».
هو من مواليد 1952. ورجع طفلا رضيعا إلى ليبيا، بعد الاستقلال مباشرة، وهو استقلال يصفه بأنه «كان صوريا» بسبب استمرار الهيمنة الأجنبية على البلاد. وسيعزز معمر القذافي، الذي يكبره بـ10 سنوات، من هذه النظرية، أثناء تشكيله لأول «خلية» من الطلاب أثناء دراسته في سبها، حيث ظهر معمر بوصفه تلميذا مختلفا عن الآخرين بالبالطو الأسود، وهو بالطو كان يعتز به كثيرا، وبدا كأنه ينكمش داخله ويغرس يديه في جيبيه الواسعين، قبل أن يفردهما ويندفع لتحريض مزيد من الطلاب ولتكوين خلية جديدة لا تعرف أي شيء عن الخلية الأخرى.
حتى حين قابل زميله في مدرسة سبها، وفي «مجلس قيادة الثورة» فيما بعد، الرائد عبد السلام جلود، لم يفش له التفاصيل عن باقي الخلايا. وربما كانت هذه الطريقة في الحرص والكتمان، مع الجنوح للانطواء أحيانا، ومنح المشكلات مزيدا من الوقت لتحل نفسها بنفسها، صبغت تصرفات معمر في إدارة علاقاته بالحكم وبالعالم، وكانت أحد أسباب نهايته في نهاية المطاف، فعلى سبيل المثال كانت له علاقات جيدة مع الاتحاد السوفياتي فـ«روسيا»، لكنه اكتشف أثناء هجمات حلف الناتو أنه لم يوقع اتفاقية ذات شأن مع موسكو تحميه من «الهجمة الغربية» التي ظل يتخوف منها سنوات طويلة، ونجا من بعضها كتلك التي قام بها الرئيس الأميركي رونالد ريغان في الـثمانينات.
على أي حال.. ومنذ مطلع الـخمسينات، بدأ انتشار الجيش الوطني الملكي في ليبيا، وكان من نصيب والد أحمد قذاف الدم، الضابط، الإقامة في سبها كقائد للقوة المتحركة في إقليم فزان.. ويقول إن والده بقي هناك فترة طويلة، إلى أن تقاعد في الستينات. حينها كان المستقبل غامضا، ومعسكرات الفرنسيين والأميركيين والإنجليز منتشرة في عدة مواقع ليبية، كما أن البلاد كانت قاحلة ولم يكن فيها أي إمكانيات للحياة، مقارنة بمصر التي كانت مزدهرة في ذلك الوقت. وكان الأطفال في سبها لا يتورعون عن الجري حفاة في ثيابهم البيضاء والمخططة وراء سيارات الجنود الفرنسيين وهم يصيحون في أثرهم وسط سحب التراب: أعوذ بالله منكم.
وفي ذلك الوقت كان معمر القذافي يقيم مع أسرته في صحراء جنوب سرت، لكنه انتقل مع والده ووالدته إلى سبها لاستكمال دراسته، وأقاموا جميعا في منزل أسرة قذاف الدم بحكم القرابة التي بينهما. ويقول أحمد قذاف الدم: كان أهل سرت، في الشمال، يأتون إلى سبها لأن فيها مدرسة.. يأتون لتلقي التعليم. أهلنا منتشرون في تلك المنطقة؛ منطقة الوسط.. وجاء معمر هو وأبوه ووالدته.. هو أصلا كان في الصف الثالث الابتدائي، لكن حين وجد الأساتذة أنه متقدم في دراسته، قاموا بنقله إلى الصف الخامس مباشرة، وذلك بعد أن أجروا له اختبارات خاصة. وكانت مدرسة سبها المركزية تضم المرحلتين الابتدائية والإعدادية.
الضابط قذاف الدم، كان يعامل معمر معاملة خاصة ربما لأنه ضيف أو لأنه صموت ويختفي ويظهر دون أن تشعر به، ويحب قراءة ما يصل للبيت من صحف وكتب. كما كانت تجتذب هذا التلميذ الخطب التي تتردد من «صوت العرب» عبر المذياع، وهو جهاز لم يكن يوجد مثله في بيوت الأسر العادية. ويقول قذاف الدم: «معمر جاء، وبقي معنا في بيتنا.. عاش معنا فترة بحكم القرابة، وكان والدي يعامله معاملة خاصة، لأنه كان شابا محترما، ومتدينا.. وبرغم صغر سنه كان لافتا للانتباه.. لأنه لم يكن كغيره من أقرانه.. يعني كان خجولا، وشديد الأدب، وخدوما.. ويعكف على مذاكرة دروسه، ولا يهتم باستهتار الأولاد الآخرين ولا يفعل مثلهم».
ولو مررت على سبها سنة 1955 فلا بد أنك سترى القلعة التي تعود للعهد العثماني، من بعيد. وفي الجانب الآخر المدرسة المركزية التي تشبه الثكنة العسكرية. ومن الباب يدخل مجموعات من الطلاب يرتدون ثيابهم وعلى بعضها صدريات داكنة بينما الجرس يدق من الداخل. ويمكن أن ترى من هناك أبراج الاتصالات لقواعد الجيش الفرنسي من على بعد، وهو جيش تحارب معه القذافي فيما بعد في تشاد لسنوات.
ويضيف قذاف الدم وهو يتذكر فترة إقامة معمر في منزل أسرته: هو تعرف على شخصية عبد الناصر عندنا في البيت، من خلال المذياع.. كان المذياع في تلك الفترة شيئا نادرا وكان عبارة عن جهاز له صندوق خشبي كبير.. وبحكم أن والدي كان في مصر فكانت توجد لدينا في البيت أيضا صورة عبد الناصر معلقة على الجدار، وكان معمر يستمع لخطب تتحدث عن القضايا القومية والوطنية وثورة الجزائر وثورة مصر، حتى أثرت بشكل كبير في تكوينه وتكوين جيلنا كله تقريبا.
أمضى معمر نحو 5 سنوات في سبها.. كان منزل الأسرة يقع في المنطقة الأكثر تمدنا في إقليم فزان كله. كانت ليبيا مقسمة إلى 3 أقاليم إدارية.. إقليم فزان وتوجد فيه قواعد فرنسية، وإقليم برقة وتوجد فيه قواعد إنجليزية، وإقليم طرابلس وتوجد فيه قواعد أميركية وإيطالية.. «كانت ليبيا فقيرة، لكن سبها كانت الأفقر.. وهناك تقف القلعة وبجوارها المطار، وبعض المساكن الحديثة في ذلك الوقت، حيث كان الفرنسيون يسكنون بجوار مساكننا، وكانت من المساكن النادرة التي فيها كهرباء وثلاجة (مبرد) وكان لدينا سيارة.. كانت هذه المنطقة السكنية تبعد قليلا عن قلب سبها، لكن الآن بطبيعة الحال، اختلطت المدينة وامتدت حتى حدود القلعة نفسها».
ويقول إن والد معمر ووالدته وشقيقاته الـ3 أقاموا لديهم أيضا فترات من الوقت أثناء زيارتهم لسبها. فوالده كان يرعى إبله وأغنامه في بادية سرت، ككل البادية، و«في الصيف يتوجهون إلى الجنوب لأخذ التمر وبيع بعض السلع والتبادل بالمقايضة، وفي الشتاء، وهذا كان ديدنهم، يعودون إلى سرت لرعاية الأغنام والاستفادة من الأمطار التي تنزل في تلك المنطقة من الصحراء والوديان المحيطة بسرت، ويستفيدون من الربيع هناك».
ويلتقي أحمد قذاف الدم ومعمر القذافي، في درجة القرابة، عند الجد الثالث. ويقول ردا على سؤال حول ما أثير من لغط عن أن والدة معمر يهودية في السنوات الأخيرة من حكمه لليبيا، إنه كلام لا يستحق الرد عليه. وكان البعض من المتطرفين في ليبيا قد عدوا هذه القصة من مبررات الانتفاضة المسلحة على القذافي. ويضيف قذاف الدم: نحن بادية، ولا يستطيع أي أحد أن يخفي أي شيء داخل المجتمع البدوي.. فنحن لم نكن نعيش في مدينة أو في عمارات أو ناطحات سحاب بحيث لا يعرف أحدنا أحدا. والدة معمر، ووالده وعائلته، كلهم أقاربنا، ونعرفهم بالاسم ونعرف ما يقومون به. هذه طبيعة البادية.
ويتابع قائلا إنه عندما جاء إلى سبها في الخمسينات، لم نستقبل شخصا لا نعرفه أو عائلة لا نعرفها. كان معه والده ووالدته التي تعاملت معها وهي من قبيلة ليبية وكنت أراها وهي تصلي في البيت أوقات الصلاة.. كان معه أيضا شقيقاته الـ3. وكان لمعمر شقيقان أصغر منه، لكنهما توفيا في وقت مبكر، حتى قبل أن يولد، وذلك في أيام الحرب العالمية الثانية، حين اجتاحت ليبيا الأوبئة والأمراض التي كانت تقضي على آلاف الليبيين، ومات شقيقاه في ذلك الوقت من الحمى.
ولقبيلة القذاذفة انتشار في ليبيا بسبب الترحال والدراسة والتزاوج، وأسهم هذا في سهولة حركة معمر سواء حين انتقل للدراسة في مصراتة أو بنغازي، أو حتى حين كان يستكشف طرابلس وهو في المرحلة الثانوية.. وتعد منطقة غريان، في غرب البلاد، أول منطقة يستوطن فيها الجد الكبير لمعمر وللقذاذفة قبل نحو 600 سنة، وكان من ضمن العرب العائدين لشمال أفريقيا عقب سقوط الأندلس.. «وتزوج جدنا الكبير في غريان، وأنجب 5 أولاد أصبحوا فيما بعد سلالة قذاف الدم». وكان معمر يضع اعتبارا خاصا للتقاليد البدوية والقبلية، وهي من الخصائص التي يتميز بها أبناء البادية في سبها وسرت وغيرهما. وحين كان ينتقل إلى أسرته في الإجازة في بداية الربيع في سرت، لوحظ أن معمر لم يعد يرتدي الثوب البدوي كثيرا، كما كان يفعل في البداية، وأصبح يفضل البنطلون والجاكيت والبالطو الأسود.. أما إذا كان الجو حارا فكان يخلع الجاكيت ويتركه في الخيمة ويحمل البالطو على ذراعه، وحين يجلس على حافة الوادي يرى النوق بأعناقها الطويلة وهي تمضغ الشوك.. ففي أي شيء كان يفكر هذا الطالب وهو يختلي بنفسه هنا؟ وهل كان يتوقع أن يرى كل ما رآه في حياته بعد ذلك، بداية من حكم ليبيا سنة 1969. وحتى الإطاحة به وقتله في نفس هذا المكان سنة 2011، حيث النوق ما زالت كما هي، ترفع أعناقها تحت الشمس وتمضغ الشوك.
مع حلول المساء ينهض.. ويمشي بجسده النحيف ووجهه الضامر، حتى ينضم لرجال النجع أمام الخيمة. هنا يجتمع حول النار وفناجين الشاي تدور وسط رائحة الشيح، بينما مصابيح الكيروسين معلقة على عمود الخيمة. وبعد نصف نهار من الصمت، يختلي معمر بعدد من شبان النجوع لأنه لا يريد أن يترك مسقط رأسه دون خلايا تتبعه، وربما كان قد انتهى من تكوين عدة خلايا أخرى دون أن تعرف كل خلية عن الأخرى شيئا. ومع بداية العام الدراسي تبدأ رحلة السفر إلى الجنوب؛ سبها.
لم يكن المذياع والخطب وبعض الصحف وما تيسر من الكتب هي فقط التي تسببت في الوعي السياسي لتلاميذ وطلاب مدرسة سبها المركزية. كان هناك معلمو المدرسة نفسها، وغالبيتهم من المصريين وبعض الفلسطينيين القادمين من بلاد تعج بالمتغيرات السياسية والجغرافية.. ثورات وحروب وهزائم وغربة.
ويوضح قذاف الدم قائلا: ليبيا بعد الاستقلال اعتمدت كثيرا على مصر، ومعظم المعلمين الذين كانوا لدينا في الجنوب، وفي عموم ليبيا أيضا، مصريون.. وبسبب ثورة 1952 أصبح غالبيتهم رسلا يحملون على أكتافهم قضية التحرر من الاستعمار والوحدة العربية. كان لديهم احترام كبير لدى الناس وتأثير كبير على جيلنا في نشر الوعي.. «جيلنا عاش هذه المرحلة وهذا المخاض، ولهذا كان وعينا غير وعي الأجيال التي جاءت بعدنا».

الحلقة (5): سلمنا برنامجنا النووي للغرب كي نتجنب مؤامرة كبيرة ضدنا.. ولم نسدد مستحقات ضحايا لوكيربي بالكامل
الحلقة (4): تعاملت مع إخوان مصر بالحسنى فباعوني لإخوان ليبيا بملياري دولار
قذاف الدم يتذكر الحلقة (3): علاقتنا بفرنسا ظلت بين شد وجذب لسنوات بسبب أفريقيا.. و«سوء تفاهم» أفشل مصالحة بشار ومبارك في
الحلقة (2) قذاف الدم يتذكر: الحسن الثاني وضع مبارك والقذافي في غرفة وأغلق عليهما الباب لتسوية خلافاتهما
لحلقة (1): قذاف الدم يروي لـ«الشرق الأوسط» بداية التوتر بين السادات والقذافي.. واجتماع ميت أبو الكوم


وزير يمني ينفي توقف تصاريح السفن إلى ميناء عدن

سفينة شحن أميركية راسية في ميناء عدن (أرشيفية - رويترز)
سفينة شحن أميركية راسية في ميناء عدن (أرشيفية - رويترز)
TT

وزير يمني ينفي توقف تصاريح السفن إلى ميناء عدن

سفينة شحن أميركية راسية في ميناء عدن (أرشيفية - رويترز)
سفينة شحن أميركية راسية في ميناء عدن (أرشيفية - رويترز)

نفى وزير الإعلام والثقافة والسياحة اليمني، معمر الإرياني، صحة الأنباء التي تداولتها بعض المنصات الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي بشأن وقف منح تصاريح دخول السفن إلى ميناء العاصمة المؤقتة عدن، مؤكداً أن هذه المزاعم لا أساس لها من الصحة، وأنها تندرج في إطار الإشاعات التي تستهدف إرباك المشهد الاقتصادي والملاحي في البلاد.

وأوضح الإرياني، في تصريح رسمي، أنه وانطلاقاً من المسؤولية الوطنية وحرصاً على طمأنة الرأي العام والقطاعَين التجاري والملاحي، جرى التواصل المباشر مع الجانب السعودي للتحقق مما أُثير، حيث تم تأكيد عدم صحة هذه الادعاءات بشكل قاطع، وأن الإجراءات المعمول بها تسير بصورة طبيعية ودون أي تغيير.

وأضاف أن عدداً من تصاريح دخول السفن إلى ميناء عدن تم إصدارها خلال الساعات الثماني والأربعين الماضية، بما يدحض كل ما تم تداوله من معلومات مغلوطة.

وشدد الوزير اليمني على أن ميناء عدن يواصل أداء مهامه وفق الأطر القانونية والتنظيمية المعتمدة، وأن حركة الملاحة والتجارة مستمرة بوتيرة طبيعية.

ودعا الإرياني وسائل الإعلام ورواد المنصات الرقمية إلى تحري الدقة واستقاء المعلومات من مصادرها الرسمية، وتجنّب الانجرار خلف الشائعات التي لا تخدم استقرار البلاد ولا تصب في مصلحة المواطنين أو الاقتصاد الوطني.

وفي هذا السياق، ثمّن الوزير عالياً المواقف السعودية، ودورها الداعم لليمن في مختلف الظروف، وحرصها المستمر على تسهيل حركة التجارة والإمدادات، بما يُسهم في تخفيف المعاناة الإنسانية وتعزيز الاستقرار في المناطق المحررة.

تنسيق حكومي - أممي

بالتوازي مع ذلك، بحث وزير النقل اليمني، الدكتور عبد السلام حُميد، في العاصمة المؤقتة عدن، مع مصطفى البنا المنسق الإقليمي لمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، أوجه الدعم الذي يقدمه المكتب إلى القطاعات والمؤسسات والهيئات التابعة للوزارة، خصوصاً في مجالات التدريب والتأهيل وبناء القدرات وتوفير الوسائل والمعدات الفنية.

وأشاد وزير النقل اليمني بالدعم الذي قدمه البرنامج الأممي، بما في ذلك توفير وسائل الاتصالات والتجهيزات للمركز الإقليمي لتبادل المعلومات البحرية، ووسائل مراقبة التلوث للهيئة العامة للشؤون البحرية، بالإضافة إلى برامج بناء القدرات لمؤسسات المواني والهيئة عبر برنامج مكافحة الجريمة البحرية العالمية في خليج عدن والبحر الأحمر.

ميناء عدن تعرض لأضرار كبيرة جراء الحرب التي أشعلها الحوثيون (الأمم المتحدة)

وقدم الوزير حُميد عرضاً مفصلاً عن احتياجات المواني والمطارات اليمنية، وفي مقدمتها ميناء ومطار عدن، إلى أجهزة كشف المتفجرات، بهدف تنسيق الدعم مع البرنامج الأممي والدول والصناديق المانحة.

وأكد أن توفير أجهزة حديثة ومتطورة لتفتيش الشحنات والمسافرين يُعد أولوية قصوى في ظل التحديات الأمنية الراهنة، لما لذلك من أثر مباشر في تعزيز أمن الملاحة البحرية وسلامة حركة الطيران المدني.

وتحدّث وزير النقل اليمني عن حرص وزارته على تسهيل عمل مكتب الأمم المتحدة وتذليل الصعوبات التي قد تعترض تنفيذ أنشطته، بما ينعكس إيجاباً على كفاءة أداء المواني والمطارات، ويعزز ثقة المجتمع الدولي بقدرة المؤسسات اليمنية على إدارة المنافذ الحيوية وفق المعايير المعتمدة.

ونسب الإعلام الرسمي اليمني إلى المسؤول الأممي أنه أشاد بمستوى التعاون والتنسيق القائم مع وزارة النقل والمؤسسات التابعة لها، مثمناً الجهود المبذولة لإنجاح برامج الدعم الفني والأمني.

وأكد المسؤول أن المكتب الأممي سيواصل تقديم الدعم اللازم إلى المؤسسات البحرية وسلطات إنفاذ القانون في اليمن، إلى جانب التنسيق مع الجهات المانحة لتوفير وسائل الكشف عن المتفجرات والأسلحة، بما يُسهم في تعزيز أمن النقل البحري والجوي ودعم الاستقرار الاقتصادي.


الحوثيون يجندون مئات السجناء في عمران وصعدة مقابل إطلاقهم

سجناء أفرج عنهم الحوثيون في عمران مقابل الالتحاق بصفوفهم (إعلام حوثي)
سجناء أفرج عنهم الحوثيون في عمران مقابل الالتحاق بصفوفهم (إعلام حوثي)
TT

الحوثيون يجندون مئات السجناء في عمران وصعدة مقابل إطلاقهم

سجناء أفرج عنهم الحوثيون في عمران مقابل الالتحاق بصفوفهم (إعلام حوثي)
سجناء أفرج عنهم الحوثيون في عمران مقابل الالتحاق بصفوفهم (إعلام حوثي)

كشفت مصادر مطلعة لـ«الشرق الأوسط» عن مواصلة الجماعة الحوثية توسيع عمليات التجنيد القسري داخل السجون الخاضعة لسيطرتها، عبر إجبار مئات المحتجزين على الالتحاق بصفوفها والمشاركة في القتال مقابل الإفراج عنهم.

وبحسب المصادر، فقد أُجبر نحو 370 سجيناً على ذمة قضايا مختلفة في محافظتي عمران وصعدة، معقل الجماعة الرئيسي، على الخضوع لدورات تعبوية وعسكرية تمهيداً لإرسالهم إلى الجبهات.

وأفادت المصادر بأن الجماعة أطلقت في الأيام الماضية حملة تجنيد جديدة استهدفت مئات المحتجزين، بينهم سجناء على ذمة قضايا جنائية، في سجون عمران وصعدة. وشملت الحملة وعوداً بالعفو، وتسوية الملفات القضائية، مقابل الموافقة على الانخراط في القتال، في خطوة وُصفت بأنها جزء من سياسة ممنهجة لاستغلال أوضاع السجناء وظروفهم القاسية.

وفي محافظة عمران، تحدثت المصادر عن زيارات ميدانية نفذها قادة حوثيون، يتصدرهم القيادي نائف أبو خرفشة، المعين مشرفاً على أمن المحافظة، وهادي عيضة المعين في منصب رئيس نيابة الاستئناف، إلى السجون في مركز المحافظة ومديريات أخرى. ووفقاً للمصادر، جرى الإفراج عن 288 سجيناً بعد إجبارهم على القبول بالالتحاق بالجبهات القتالية.

قادة حوثيون يزورون أحد السجون الخاضعة لهم في صعدة (إعلام حوثي)

وأكد حقوقيون في عمران لـ«الشرق الأوسط» أن عناصر حوثية مارست ضغوطاً وانتهاكات واسعة بحق المحتجزين، شملت التهديد بالعقوبات، وسوء المعاملة، والحرمان من الزيارة، لإجبارهم على القبول بالذهاب إلى الجبهات، مقابل الإفراج عنهم، وتقديم مساعدات محدودة لذويهم. وعدّ الحقوقيون هذه الممارسات شكلاً صارخاً من أشكال التجنيد القسري المحظور بموجب القوانين الدولية.

ويروي أحد السجناء المفرج عنهم حديثاً في عمران، طلب إخفاء اسمه لدواعٍ أمنية، أن قيادات في الجماعة نفذت زيارات متكررة للسجن الاحتياطي وسط المدينة، وعرضت على المحتجزين أكثر من مرة الإفراج مقابل الالتحاق بدورات قتالية. وقال: «من يرفض يتعرض لعقوبات داخل السجن أو يُحرم من الزيارة». وأضاف أن التهديد المستمر، وسوء المعاملة دفعاه في النهاية إلى القبول بالانضمام للجماعة.

تجنيد في صعدة

فيما تندرج هذه التحركات ضمن مساعي الحوثيين لزيادة أعداد مقاتليهم، أفادت مصادر محلية بأن الجماعة أفرجت في محافظة صعدة عن 80 سجيناً من الإصلاحية المركزية والسجن الاحتياطي، بعد إجبارهم على الموافقة على الالتحاق بصفوفها والخضوع لدورات تعبوية.

وسبق ذلك قيام القيادي المنتحل صفة النائب العام محمد الديلمي، إلى جانب رئيسي محكمة ونيابة الاستئناف في صعدة سليمان الشميري وإبراهيم جاحز، بزيارات إلى السجون، أصدروا خلالها تعليمات بالإفراج عن المحتجزين مقابل انخراطهم في القتال.

قيادات حوثية تفرج عن سجناء مقابل الالتحاق بجبهات القتال (فيسبوك)

وتقول أم أحد المعتقلين في السجن المركزي بصعدة لـ«الشرق الأوسط» إن عناصر حوثية زارت منزلهم وأبلغتهم بأن الإفراج عن ابنها مرهون بموافقة الأسرة على ذهابه للجبهات. وتضيف: «نحن بين نارين، إما أن يموت داخل السجن نتيجة التعذيب والانتهاكات، وإما يُزج به في جبهات القتال».

وتأتي هذه الخطوات في ظل سعي الجماعة إلى تعزيز حضورها العسكري في الجبهات التي تشهد ضغوطاً متواصلة، إلى جانب مشاركتها فيما تسميه «معركة تحرير فلسطين».

تصاعد الشكاوى

ولا تقتصر المساومات الحوثية على سجناء عمران وصعدة، إذ امتدت خلال الفترة الأخيرة إلى محتجزين في محافظات عدة تحت سيطرتها، من بينها صنعاء وريفها وإب وذمار والحديدة وحجة. وكان آخر هذه الحالات الإفراج عن نحو 219 محتجزاً في سجون بمحافظة تعز، تنفيذاً لتوجيهات أصدرها زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي.

جماعة الحوثي جندت مجاميع كبيرة من السجناء خلال الفترات الماضية (فيسبوك)

ويتزامن ذلك مع تصاعد شكاوى عائلات المحتجزين من تكثيف أعمال التطييف والتعبئة القسرية داخل السجون، حيث يحذر حقوقيون يمنيون من أن الإفراج المشروط بالتجنيد يمثل انتهاكاً خطيراً لحقوق الإنسان، ويحوّل السجناء إلى وقود بشري.

ويشدد الحقوقيون على ضرورة حماية حقوق المعتقلين، ووقف استغلالهم في العمليات القتالية، والدفع نحو حلول سلمية شاملة تضع حداً للنزيف الإنساني المتواصل.


«المحاسبون القانونيون» تحت طائلة الاستهداف الحوثي

جانب من فعالية سابقة نظمتها جمعية المحاسبين اليمنيين في صنعاء (فيسبوك)
جانب من فعالية سابقة نظمتها جمعية المحاسبين اليمنيين في صنعاء (فيسبوك)
TT

«المحاسبون القانونيون» تحت طائلة الاستهداف الحوثي

جانب من فعالية سابقة نظمتها جمعية المحاسبين اليمنيين في صنعاء (فيسبوك)
جانب من فعالية سابقة نظمتها جمعية المحاسبين اليمنيين في صنعاء (فيسبوك)

وسّعت الجماعة الحوثية من دائرة انتهاكاتها الممنهجة لتطال عشرات المحاسبين القانونيين اليمنيين في العاصمة المختطفة صنعاء، عبر حملات تعقّب، وملاحقة، وتهديدات مباشرة بالتصفية، إلى جانب الاعتقال التعسفي، والإخضاع للتطييف الفكري، في خطوة وُصفت بأنها تعسفية، وتمثل تهديداً خطيراً لاستقلال المهنة، وسلامة العاملين فيها، وانعكاساً سلبياً على بيئة العمل القانونية والمحاسبية في البلاد.

ودفعت هذه الممارسات المتصاعدة منتسبي مهنة المحاسبة القانونية في صنعاء إلى عقد سلسلة اجتماعات طارئة، وإصدار بيانات إدانة شددت على ضرورة الوقوف في وجه الجماعة، واتخاذ خطوات تصعيدية للدفاع عن حقوق المحاسبين، وحماية مهنيتهم في عموم مناطق سيطرة الحوثيين.

وأعربت «جمعية المحاسبين القانونيين اليمنيين» (مقرها صنعاء) عن قلقها البالغ إزاء تزايد الانتهاكات، والتهديدات، وأعمال الخطف التي يتعرض لها منتسبوها في المناطق الخاضعة لسيطرة الجماعة، معتبرة أن تكرار هذه الممارسات بات يشكل تهديداً واضحاً لاستقلال المهنة، وسلامة أعضائها، ويقوّض أسس العمل المهني القائم على الحياد، والشفافية.

عبر الانتماء السلالي تمكن الحوثيون من الهيمنة على الأجهزة الأمنية (إكس)

وأوضحت الجمعية، في بيان، أن المحاسب القانوني محمود الحدي تلقى أخيراً تهديدات مباشرة وصريحة عبر الهاتف بالتصفية الجسدية، صدرت عن مشرف حوثي بارز يُدعى شرف أحمد الجوفي. وأكدت أن التهديد بالقتل، والإساءة، وتوجيه الشتائم جرت أثناء حضور عدد من أعضاء الهيئة الإدارية للجمعية، في واقعة عدّتها انتهاكاً صارخاً للقانون، والأعراف المهنية.

وأشار البيان إلى أن المحاسب القانوني عزّ الدين الغفاري تعرّض قبل فترة للاحتجاز التعسفي من قبل ما تُسمى إدارة البحث الجنائي الخاضعة للجماعة في صنعاء، وذلك بإيعاز من قاضٍ موالٍ للحوثيين يعمل بمحكمة استئناف العاصمة المختطفة، على خلفية قيامه بمهامه المهنية في مراجعة شفافة لإحدى القضايا، في مؤشر على استخدام أدوات القضاء والأمن لتصفية الحسابات المهنية.

وعبّرت الجمعية عن إدانتها الشديدة لكل أشكال التهديد، والاعتداء، والاختطاف المستمرة التي طالت ولا تزال محاسبين قانونيين في مناطق سيطرة الحوثيين، مطالبة الجهات المعنية والمنظمات الحقوقية المحلية والدولية بتحمل مسؤولياتها إزاء هذه الانتهاكات، والتحرك لحماية العاملين في هذا القطاع الحيوي.

استمرار التعسف

هاجم مصدر نقابي في جمعية المحاسبين اليمنيين بصنعاء كبار قادة ومشرفي الجماعة، متهماً إياهم باتخاذ مزيد من الإجراءات والممارسات التعسفية المخالفة للقانون ضد العشرات من زملائه في صنعاء، ومدن أخرى، محذّراً من انعكاسات خطيرة على مهنة العمل المحاسبي والقانوني، وعلى الثقة العامة بالبيئة الاقتصادية.

وكشف المصدر، في حديث لـ«الشرق الأوسط» طلب فيه عدم ذكر اسمه، عن تعرّض أكثر من 16 مكتباً ومركزاً للمحاسبة والمراجعة والتدريب القانوني في صنعاء، إلى جانب عشرات المحاسبين الإداريين والقانونيين، خلال الربع الأخير من العام الجاري، لحملات ابتزاز، ومضايقة، وإغلاق قسري، فضلاً عن اختطاف، واعتقال تعسفي، وغير قانوني.

وأضاف أن الجمعية تواصل اتخاذ خطوات تصعيدية متاحة للدفاع عن أعضائها، وحماية كرامتهم، والتمسك بأداء واجبها في خلق بيئة مهنية آمنة تتيح للمحاسب أداء مهامه باستقلالية وحياد كاملين، بعيداً عن أي ضغوط، أو تهديدات، مؤكداً أن الصمت إزاء هذه الانتهاكات سيقود إلى مزيد من التدهور المؤسسي.

جانب من انتشار أمني حوثي في أحد شوارع صنعاء (إكس)

وتضم جمعية المحاسبين اليمنيين نحو ثلاثة آلاف عضو نشط، ولها فروع عدة في مناطق خاضعة لسيطرة الحوثيين. كما تواصل عملها بالشراكة مع منظمات دولية متخصصة في دعم العمل المحاسبي والقانوني، عبر تنظيم فعاليات ومؤتمرات تهدف إلى تعزيز معايير المهنة، والحوكمة، والشفافية.

ومنذ اقتحام الحوثيين صنعاء ومدناً أخرى، عمدت الجماعة إلى التضييق على المحاسبين القانونيين، واتخاذ سلسلة إجراءات تعسفية بحق كثير منهم، في مسعى لفرض السيطرة على قطاع يُعد من ركائز النزاهة المالية، والرقابة، وتسخيره –على غرار قطاعات أخرى– لخدمة أجندتها.

كما أخضعت خلال فترات سابقة مئات المحاسبين للتعبئة الفكرية والعسكرية، ضمن ما تسميه «معركة الجهاد المقدس»، في خطوة أثارت مخاوف واسعة من تسييس المهنة، وتقويض أسسها المهنية.