موسكو على خط المواجهة الإسرائيلية ـ اللبنانية

العلاقة مع تل أبيب «زواج مصلحة سرّي» مريح للطرفين

موسكو على خط المواجهة الإسرائيلية ـ اللبنانية
TT

موسكو على خط المواجهة الإسرائيلية ـ اللبنانية

موسكو على خط المواجهة الإسرائيلية ـ اللبنانية

تلاحقت في الفترة الأخيرة، تطورات مرتبطة بإسرائيل، وتحركاتها على الصعيد الإقليمي، وبدت كلها وثيقة الصلة، بشكل أو بآخر، بمسار تعزيز الحضور الروسي في الشرق الأوسط. إذ اتضح بعد المواجهة المحدودة بين إسرائيل و«حزب الله» في المناطق الحدودية أخيراً، أن الطرفين اللبناني والإسرائيلي اتجها إلى موسكو لمحاصرة احتمالات اتساع نطاق المواجهة. وأعقب ذلك إعلان تل أبيب بدء ترتيبات لعقد لقاء جديد على مستوى رؤساء مجالس الأمن القومي في روسيا والولايات المتحدة وإسرائيل لمناقشة الوضع في المنطقة، ومحاولة تقريب وجهات النظر حول آليات التعامل مع إيران في سوريا ولبنان، والمنطقة عموماً. ولم تلبث موسكو وتل أبيب أن أعلنتا، في وقت متزامن، بعد ذلك مباشرة، عن إعداد زيارة بشكل عاجل، لرئيس الوزراء الإسرائيلي إلى منتجع سوتشي الروسي للقاء الرئيس فلاديمير بوتين، وينتظر أن يكون موعدها قبل الانتخابات الإسرائيلية في 17 من الشهر الحالي. وهي تهدف، كما بات معلوماً، فضلاً عن دعم فرص نتنياهو الانتخابية، إلى وضع رؤية مشتركة للتحرّكات الجارية في سوريا ولبنان.
«كل الطرق تقود إلى موسكو»... هكذا يفاخر بعض المحللين الروس، وهم يتحدثون في هذه الأيام عن اتساع حجم الحضور الروسي في الملفات الشرق أوسطية. وحقاً، تتطلع موسكو إلى لعب أدوار أكبر في مسائل لم يكن لها حضور بارز فيها في السابق، مثل موضوع الاشتباك الإسرائيلي مع «حزب الله». إذ كان لافتاً بعد المواجهة المحدودة أخيراً، أن موسكو نشطت اتصالاتها مع الأطراف المعنية، وسعت إلى محاصرة احتمالات التصعيد.
ولم تُخفِ أوساط دبلوماسية روسية مخاوف من أن «لبنان وإسرائيل يقفان الآن على بعد خطوة واحدة من حرب جديدة». وأنه على الرغم من استبعاد أوساط روسية أن يقع تغير كبير في موازين القوى القائمة حالياً في حال نشبت هذه الحرب، فإنها ترى أنها ستكون مكلفة بالنسبة لموسكو، التي ترى في أي مواجهة كبيرة في المنطقة حالياً تهديداً لخططها في سوريا. لذا سارعت موسكو إلى التقاط فرصة الاتصالات التي جرت من الطرفين اللبناني والإسرائيلي معها، لبذل جهود لتقليص فرص وقوع مواجهة كبرى، وهي نجحت في هذا الاتجاه.
تشير مصادر إعلامية عربية وروسية متطابقة إلى أن موسكو نقلت رسائل عدة بين إسرائيل و«حزب الله»، وأن الطرفين أعلنا خلالها «أنهما لا يريدان توسيع المواجهة». ووفقاً للمعطيات، فقد أكدت موسكو للجانب الإسرائيلي أنه «لا يوجد أي تغيير على قواعد المواجهة القائمة، بمعنى أن استهداف (حزب الله) الآلية هدف إلى حفظ ماء الوجه لا غير، وأن الحزب لا يسعى لتوسيع مساحة المواجهة». ونقل الدبلوماسيون الروس رغبات مماثلة من جانب إسرائيل إلى الأطراف اللبنانية. وبرأي خبراء روس، فإن التحرك الروسي العاجل، الذي استند إلى قناعة روسية بعدم ميل الطرفين إلى التصعيد، أظهر وفقاً لتعليق صحيفة روسية أنه «بات بإمكاننا أن نتحدث بثقة عن وصول بلدنا إلى مستوى جديد. والآن أصبحت كلمته مهمة في حل حتى أكثر الصراعات الإقليمية حدة. إنه لأمر مؤسف أن هذا لم ينجح حتى الآن مع أوكرانيا».
جهود روسيا المتوسعة
أشارت مصادر عسكرية روسية، أخيراً، إلى أن روسيا بدأت بالفعل تنخرط في جهد أوسع لتخفيف التوتر اللبناني الإسرائيلي، وفي إشارة ذات مغزى، أكدت أن إيران «تساعد بشكل كبير في هذا الأمر». والواقع أن مساعي موسكو تنطلق من أن وجود علاقات جيدة مع إسرائيل، والمحافظة على قنوات اتصال مع كل الأطراف اللبنانية، يساعدان في إنجاح هذا الدور. إلا أن هذا لا يعني، وفقاً لخبراء روس، أن الأمور قد لا تتفاقم بعد انتهاء الاستحقاق الانتخابي في إسرائيل، لأن ثمة «لاعبين آخرين هنا»، في إشارة إلى الولايات المتحدة. ثم إن ملف المواجهة اللبنانية الإسرائيلية مرتبط بمسارات عدة، بينها الوضع في سوريا والمواقف المتباينة حيال سياسات إيران الإقليمية، وأخيراً، بسبب طموحات واشنطن لتكريس واقع إقليمي جديد يسهل تمرير «صفقة القرن».
رغم ذلك، تنطلق موسكو في جهودها للمحافظة على هدوء نسبي يوفّر آلية لمنع وقوع مواجهات واسعة من قناعة بأن «الولايات المتحدة لن تذهب نحو المساعدة على زعزعة استقرار لبنان، لأنها تتطلع إلى تعاون مع السلطات الموالية جزئياً في البلاد في مشروعات مستقبلية للاندماج في الشرق الأوسط ضمن إطار خططها لرسم ملامح جديدة للنظام الإقليمي».
اللقاء الأمني الثلاثي
في هذه الأثناء، جاء إعلان رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو، مساعي لعقد قمة أمنية ثلاثية ثانية، بين إسرائيل وروسيا والولايات المتحدة، في الفترة المقبلة، ليضيف بعداً جديداً للنقاشات الدائرة حول هذا الموضوع، ونقلت مصادر أن «المفاوضات تجري لعقد اللقاء الجديد في القدس خلال الأسابيع المقبلة». غير أن مصدراً مطلعاً على الملف في موسكو أبلغ «الشرق الأوسط» أن «موسكو لم تحسم قرارها بالمشاركة بعد»، وترى أوساط روسية أن المشكلة لا تكمن في عقد اللقاء من حيث المبدأ، بل في الأهداف المتوخاة من هذا اللقاء.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن رؤساء مجالس الأمن القومي في روسيا وإسرائيل والولايات المتحدة كانوا قد عقدوا اجتماعاً في يونيو (حزيران) الماضي في القدس، كرس لمناقشة الوضع في سوريا، خصوصاً على صعيد الوجود الإيراني في هذا البلد. وفشلت الأطراف يومذاك في تقريب وجهات النظر حول الملف الخلافي الأكبر. وقال سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف، في حينه، أن «موسكو تعير اهتماماً كبيراً لضمان أمن إسرائيل»، لكنه شدد على أن «تحقيق هذا الهدف يتطلب استتباب الأمن في سوريا أولاً».
وبالتالي، بدا واضحاً خلال ذلك اللقاء أن الخلاف الرئيس لا يكمن في وضع ملف الوجود الإيراني في سوريا على طاولة المفاوضات، وبحث السياسات الإقليمية لإيران، بل في رفض موسكو الخضوع لإملاءات مسبقة. وفي هذا السياق، قال دبلوماسي اطلع على سير المفاوضات لـ«الشرق الأوسط»، إن موسكو أبلغت الجانبين الإسرائيلي والأميركي أنها لا تمانع مناقشة الملف (الوجود الإيراني)، لكن «لا يمكن القبول بالذهاب إلى مفاوضات يرى الطرفان الإسرائيلي والأميركي أن نتائجها يجب أن توضع سلفاً». وبهذا المعنى، فإن موسكو تبدي مرونة في مناقشة ملف خروج إيران والقوات التابعة لها من سوريا، أو تقليص وجودها الظاهر على الأقل، لكنها ترى أن هذا الأمر يجب أن يتحقق في سياق تفاوضي يلبي حاجات دفع التسوية واستقرار الوضع في سوريا (لمصلحة الأسد)، ويضمن لإيران وللأطراف الأخرى متطلباتها وحاجاتها الأمنية.
هذا الجانب ذكره باتروشيف بوضوح خلال اللقاء السابق في القدس، عندما قال: «ترى موسكو أنه من الأكثر فاعلية التحدث مع إيران، بدلاً من ممارسة الضغط عليها»، و«نحن نتفهم المخاوف التي لدى إسرائيل، ونريد القضاء على التهديدات الموجودة، ولكن في الوقت نفسه علينا تذكر المصالح الوطنية للدول الإقليمية الأخرى».
تفاهم كامل بين موسكو وطهران
هذه هي النقطة الخلافية الأساسية التي عرقلت التقدم في مسار المفاوضات الأمنية الثلاثية، وما زالت عالقة حتى الآن. ومعها، فإن موسكو، التي تدرك حجم التباين في المواقف، كانت تتطلع إلى نتيجة أخرى للقاء القدس هي تحويل هذه الصيغة - اللقاء على مستوى مجالس الأمن القومي - إلى قناة حوار ثابتة ودائمة لمناقشة، ليس فقط الملف المتعلق بإيران، بل كل الملفات الإقليمية التي تهم الأطراف الثلاثة. وانطلاقاً من هذا الهدف، قد تذهب موسكو نحو الموافقة على عقد لقاء جديد، وإن كانت تثق بأن نتائجه أيضاً ستكون محدودة.
محللِّون روس يرون أن موسكو تتبع سياسة «منفتحة على الحوار»، لكنها ليست متسرعة في تقديم تنازلات عن مواقفها. ووفقاً لأحد الخبراء، فإنها قدمت للولايات المتحدة وإسرائيل نوعاً من «الإنذار الناعم». أما مطلب روسيا الرئيس من الولايات المتحدة وإسرائيل هو أن على الأميركيين والإسرائيليين في سوريا «تجنب استفزاز إيران». ووفقاً لهذا التحليل - الذي نشر في مادة مطولة أخيراً في إحدى الوكالات الروسية - فإن «موقف موسكو هو نتيجة العمل المشترك لروسيا وسوريا وإيران والعراق في إطار مركز بغداد للمعلومات العسكرية رباعي الأطراف، الذي أنشئ في عام 2015 فقط من أجل الحرب المنسّقة ضد الإرهاب الدولي. ووجهة النظر الروسية متفق عليها تماماً مع إيران وسوريا والعراق. وتشترك الصين منذ مايو (أيار) الماضي في التنسيق مع هذه المجموعة».
في السياق نفسه، كانت مصادر إعلامية قد أشارت، بالفعل، إلى أنه في 30 مايو الماضي، ناقش ممثلو الأجهزة الخاصة للعراق وروسيا وإيران وسوريا في اجتماعاتهم في بغداد الوضع الحالي، وتم خلال اللقاء وضع رؤية مشتركة للتحركات اللاحقة، وفي هذا الاجتماع برز حضور الصين للمرة الأولى. وفي حينه، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية عباس موسوي، «إن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، التي كانت واحدة من التحديات الدولية الرئيسية خلال الأشهر الأخيرة، تنطوي على جوانب ونتائج قد تتجاوز مستوى العلاقات الثنائية بين البلدين». وأعلن أن إيران تدين هذه السياسة الأميركية كمثال على «الإرهاب الاقتصادي». وبعد ذلك، مباشرة، أعلن مصدر عراقي أن الصين أعربت عن رغبتها في الانضمام إلى مركز بغداد للمعلومات العسكرية، ورأت فيه «خطوة مهمة نحو تعزيز الأمن الإقليمي».
على هذه الخلفية، يظهر أن موسكو نجحت حتى الآن، مستفيدة من سياسات واشنطن، في تعزيز محوّر ترى أوساط المحللين أنه سيكون له كلمة مسموعة في الوضع في الشرق الأوسط، وكذلك في القوقاز، وحتى في آسيا الوسطى وأفغانستان. وهو محور يعزّز مواقع موسكو التفاوضية أيضاً في النقاشات الجارية حول الوضع في سوريا وفي لبنان، وفي موضوع العلاقة مع إسرائيل.
«مواطنون روس» في إسرائيل
جاء الإعلان المتزامن في موسكو وتل أبيب عن زيارة سيقوم بها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى منتجع سوتشي بجنوب روسيا، في غضون أيام، ليربط مباشرة عدة ملفات في سلة واحدة... ستكون مطروحة للنقاش خلال اللقاء مع الرئيس فلاديمير بوتين.
إذ يأمل نتنياهو، الذي يقوم تقليدياً بزيارة موسكو قبل كل استحقاق انتخابي، أن تمنحه المنصة الروسية أوراقاً لتعزيز فرصه التنافسية. وهذا لا يقتصر على فكرة حشد تأييد في أوساط الناطقين بالروسية في إسرائيل. وهؤلاء، بالمناسبة، يشكلون قاعدة انتخابية تزيد على مليون نسمة، ويرتبطون بعلاقات وثيقة مع موسكو لدرجة أن بوتين في أكثر من موقع كرّر التأكيد على أهمية العلاقة مع «مواطنينا في إسرائيل».
أما الأكثر أهمية من ذلك، فهو أن نتنياهو يأتي إلى روسيا حاملاً ملفات الوضع مع لبنان على خلفية الدور الروسي الأخير في احتواء المواجهة، مع ملف توسيع الهجمات الإسرائيلية على مواقع متهمة بالولاء لإيران، لتصل إلى أبعد من سوريا، في العراق. وكانت وسائل إعلام روسية حذرت أخيراً من أن إسرائيل لم تعد تهتم في الآونة الأخيرة، بإبلاغ الروس بإحداثيات ضرباتها، قبل موعد كافٍ، في مخالفة لتفاهمات سابقة في هذا الشأن.

تنسيق مواقف ومصالح مشتركة رغم الضربات الإسرائيلية
> مع أن أوساطاً في العاصمة الروسية موسكو رأت أن تحذيرات وسائل الإعلام الروسية الأخيرة لتل أبيب هدفها الرئيسي إظهار أن موسكو ليست راضية تماماً عن الضربات الإسرائيلية، أو على الأقل «ليست متواطئة» مع تل أبيب فيها، يركز محللون على أن أحد أهم أهداف زيارة بنيامين نتنياهو المقبلة لروسيا هو «تنسيق المواقف» في هذا الاتجاه.
وللتذكير، فإن نتنياهو كان في أعقاب كل زيارة سابقة لموسكو، يؤكد أنه أبلغ الجانب الروسي بأن الضربات الإسرائيلية على مواقع إيرانية ستتواصل، وقال في بعض الأحيان إنه حصل على ضوء أخضر من جانب روسيا لمواصلة هذه التحركات، في المقابل لم تعلق موسكو أبداً على هذه التصريحات.
تقارب اقتصادي وسياحي
الجديد قد يكون في أن هذه الزيارة تأتي على خلفية تقارب واسع على المستويات الاقتصادية ومجالات الاستثمارات تم تحقيقه بين موسكو وتل أبيب خلال الفترة الأخيرة. فتقليدياً، كانت إسرائيل تعد شريكاً مهماً لموسكو في المنطقة بحجم تبادل تجاري يزيد على 10 مليارات دولار أميركي، وهو رقم مهم جداً بالمقارنة مع حجم التعاون الروسي في المجال التجاري مع منطقة الشرق الأوسط. وفي الفترة الأخيرة تم توقيع عدة اتفاقات وصفت في موسكو بأن لها أهمية كبرى، بينها اتفاقات لتوسيع النشاط السياحي بين الطرفين، وزيادة حجم السياحة الروسية إلى إسرائيل التي تصل حالياً إلى نحو 400 ألف سائح.
ووفقاً لتقارير وسائل إعلام متخصصة في المجال السياحي، فإن الفترة الأخيرة شهدت تسارعاً في وتائر سيطرة الشركات الإسرائيلية على قطاع السياحة بين الطرفين، وسط حديث عن توظيف رساميل كبيرة لدعم هذا التوجه. لكن الأهم من ذلك أن مؤسسات إعلامية حكومية تابعة للكرملين، مثل وكالة أنباء «نوفوستي»، أفردت مساحات واسعة في الآونة الأخيرة للترويج السياحي في إسرائيل، بما في ذلك في القدس، بصفتها عاصمة لإسرائيل. ولقد تزامن ذلك، مع تزايد الإشارات حول توسيع التعاون في المجالات الصناعية والتقنية. كذلك، تغطيات إعلامية موسعة جرت على خلفية معرض «ماكس» لصناعات الطيران قبل أيام، عن «القفزة التكنولوجية التي حققتها روسيا في مجال الطائرات المسيرة بفضل إسرائيل». كان نائب رئيس الوزراء الروسي، يوري بوريسوف، أعلن خلال أعمال المعرض عن إطلاق الإنتاج المتسلسل للطائرات المسيرة الضاربة «الصياد»، من عام 2025. وذكرت المصادر الروسية أن ظهور خطط صناعة الطائرات المسيّرة في روسيا بدأ في عام 2010، بعدما أبرمت صناعة الطيران الإسرائيلية عقداً مع وزارة الدفاع الروسية (قيمته 400 مليون دولار أميركي) «لنقل بعض أهم تقنيات الطائرات المسيرة إلى روسيا». وترددت معطيات في ذلك الوقت أفادت بأن الصفقة تمت مقابل إعلان موسكو نيتها التراجع عن بيع منظومة «إس - 300» لإيران وسوريا. ومع أن موسكو سلمت لاحقاً النظام الصاروخي الروسي إلى كل من إيران وسوريا، فإن الأوساط الروسية قالت إن هذا لا يعني التخلي عن الالتزام بعدم إلحاق الأذى بمقاتلات الجيش الإسرائيلي.
«زواج مصلحة سرّي»
أيضاً، ذهبت موسكو وتل أبيب عام 2015 إلى إبرام صفقة عسكرية أخرى، في مجال صناعة الطيران، تلاها إعلان تل أبيب التراجع عن بيع مجموعة من طائراتها العسكرية المسيرة المتقدمة إلى أوكرانيا. وهكذا تبدو درجة ارتباط العقود والصفقات الكبرى التي تجريها موسكو مع تل أبيب بالمتغيرات السياسية حول الطرفين، وبشكل يقوم على تفاهم أساسي غير معلن، بأن كل طرف لن يعمل على تهديد مصالح وأمن الطرف الآخر، بل على العكس من ذلك، سيعمل على تعزيز جهود الطرف الآخر في الملفات الأمنية الأساسية. ووفقاً لتحليل كاتب روسي «استفادت إسرائيل إلى أقصى حد من الحرب الأهلية في سوريا لتوطيد سيادتها على مرتفعات الجولان، التي يبدو أن سوريا خسرتها إلى الأبد. ومن ناحية أخرى، ساهمت روسيا، في ذلك، بتجاهلها حرب إسرائيل الجوية ضد إيران و(حزب الله)». ووفقاً للباحث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أولريك فرانك، الخبير في مجال الطائرات العسكرية المسيّرة، فإن روسيا وإسرائيل عقدتا «زواج مصلحة سرياً»، وأنهما تتصرفان بحزم وفقاً للقاعدة الأساسية التي تضع المصالح المشتركة فوق كل اعتبارات تحالفية أخرى.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».