صفحة سياسية جديدة في إيطاليا... بعد إطاحة سالفيني

تحالف «النجوم الخمس» مع الديمقراطيين تحقق بتضافر جهود الداخل والخارج

صفحة سياسية جديدة في إيطاليا... بعد إطاحة سالفيني
TT

صفحة سياسية جديدة في إيطاليا... بعد إطاحة سالفيني

صفحة سياسية جديدة في إيطاليا... بعد إطاحة سالفيني

يوم الخميس المنصرم، أدت الحكومة الإيطالية الجديدة القسم أمام رئيس الجمهورية سيرجيو ماتّاريلّا، بعد ثلاثة أسابيع من المفاوضات المكثّفة بين حركة «النجوم الخمس» الشعبويّة، التي أسست في عام 2009 على منصّة إلكترونية، كتيّار احتجاجي على النظام القائم، والحزب الديمقراطي الذي قام على أنقاض الحزبين الاشتراكي والشيوعي، بعد انهيار التركيبة الحزبية التي سادت في المشهد السياسي الإيطالي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وتشكّل هذه الحكومة الجديدة عودة إلى المسار المؤسسي الطبيعي، وإلى الحظيرة الأوروبية، بعد أربعة عشر شهراً من الاحتقان السياسي والاجتماعي المستمر، والتوتّر الدائم مع الحلفاء الأوروبيين والمؤسسات الأوروبية، على يد الحكومة السابقة التي لعب اليمين المتطرف الدور الأساسي فيها. ولقد أحدث هذا اليمين، ممثلاً بحزب «الرابطة» بزعامة ماتيو سالفيني، شرخاً عميقاً في المجتمع الإيطالي، أعاد إلى الأذهان الحقبة التي سبقت نشوء النظام الفاشي مطلع عشرينات القرن الماضي، وترك تداعيات سلبية جداً على عدد من الاستراتيجيات الأوروبية المهمة في مرحلة دقيقة يواجه فيها المشروع الأوروبي تحديات مصيريّة تتوقّف عليها ديمومته.
انطلاق الحكومة الإيطالية الجديدة التي كرّست بروز رئيسها جيوزيبي كونتي، كشخصية محوريّة في المعادلة السياسية، وذلك بعد الدور الثانوي الذي لعبه في الحكومة السابقة، ليس سوى خطوة أولى في مهمة معقدة لتصويب المسار الذي ذهبت فيه إيطاليا منذ مطلع الصيف الماضي.
صحيح أن «النجوم الخمس» ما زالت تشكّل أحد طرفي التحالف الحاكم، ولكن لا بد لها أن تعدّل في سياستها الجديدة، وأيضاً في مطامحها، بعد قطع الأواصر المتينة التي ربطتها طوال أربعة عشر شهراً مع حزب «الرابطة»، والاتفاق الذي توصّلت إليه مع خصمها السياسي الأول (الحزب الديمقراطي)، والذي واجه معارضة شديدة في صفوف قاعدتها الشعبية.
وفي أي حال، لقد بات بإمكان أوروبا، بعد تجديد قيادات مؤسّساتها الرئيسية الخمس، أن تعتمد على إحدى دولها الأعضاء الأساسية (إيطاليا في هذه الحالة) من أجل مواجهة الملفّات الحسّاسة التي تقتضي معالجتها توافقاً واسعاً، مثل أزمة الهجرة والسياسات الاقتصادية، التي كان لصعود اليمين المتطرف في الفترة الأخيرة تأثير سلبي كبير عليها.
ومما لا شك فيه أن محاولات التخريب المتعّمد التي قام بها سالفيني لإفشال - أو إعاقة - عدد من المشاريع والسياسات الأوروبية المهمة، بذريعة الدفاع عن المصالح الوطنية، قد أخّرت وعقّدت استراتيجيات واتفاقات ما عاد بإمكان أوروبا أن تماطل في إنجازها.
ولكن كيف وصلت إيطاليا إلى المأزق الذي عاشته خلال ولاية الحكومة السابقة، والذي أطلق صفّارات الإنذار في المحيط الأوروبي الذي كان يغلي على أكثر من جبهة؟
وكيف أسدل الستار فجأة قبل بداية الفصل الأخير من عمليّة صعود اليمين المتطرف إلى قمّة السلطة في ثالث أكبر اقتصادات أوروبا؟
وما حظوظ سالفيني في العودة مجدداً إلى صدارة المشهد السياسي الإيطالي، بعد ارتكابه هذا الخطأ الفادح، بتفجير أزمة حكومية كان الخاسر الوحيد فيها؟

إيطاليا مختلفة يميناً ويساراً
لا بد، في البداية، من التذكير بأن إيطاليا السياسية اليوم لا تشبه في شيء تلك التي كنّا نعرفها منذ عشر سنوات، وأن التحوّلات التي شهدتها بلدان الاتحاد الأوروبي على صعيد التغييرات في معادلاتها الحزبية، منذ الأزمة المالية والاقتصادية أواخر العقد الماضي، بلغت في إيطاليا مرحلة متقدمة جداً... يمكن القول إنها كانت بداية ما يصلح تسميته «الجمهورية الثالثة»؛ ذلك أن الدولة التي كانت مهد الديمقراطية المسيحية في أوروبا لم يعد هذا الخط السياسي فيها سوى أثر بعد عين، ولم تعد شعبيته وكتلته البرلمانية تزيد على 6 في المائة، بعدما كان قد سيطر على مقاليد الحكم طوال أربعة عقود متواصلة. وأيضاً الحزب الشيوعي الإيطالي، الذي قاد المسار التاريخي للابتعاد عن الخط السوفياتي، عندما كان أقوى الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية، لم يعد له نائب واحد في البرلمان الذي تولّى رئاسته أمينه العام فاوستو برتينوتّي من عام 2006 إلى عام 2008.
وعلى أنقاض الديمقراطية المسيحية التي أعطت إيطاليا وأوروبا بعض ألمع السياسيين - وليس بالضرورة أنزههم - بنى الملياردير المغامر صاحب العلاقات المشبوهة سيلفيو برلسكوني مشروعه السياسي مستنداً إلى إمبراطورية إعلامية مترامية، سخّر كل طاقاتها لترويجه. ومهّد، في الواقع، لما جاء بعده من ظهور للزعامات الشعبويّة من الفلبين إلى أميركا اللاتينية، ومن الولايات المتحدة إلى أوروبا.

ظروف بروز المعترضين
وفي معسكر اليسار، لم يتمكّن الحزب الديمقراطي الإيطالي، الذي أسس في نهاية عام 2007، من احتضان التركة اليسارية الكبيرة التي ورثتها إيطاليا بعد انهيار الحزبين الشيوعي والاشتراكي بسبب الصراعات الداخلية الشديدة التي عصفت بهما، وهو لا يزال حتى اليوم ضحيّة الخلافات الشخصية بين قياداته المتناحرة باستمرار.
هذا المشهد اليساري المتعثّر هو الذي شكّل الأرض الخصبة التي نشأت فيها حركة «النجوم الخمس»، على يد الممثل الفكاهي بيبي غريّو، وراحت تستنزف قاعدة اليسار المُحبَطة حتى أصبحت القوة السياسية الأولى في إيطاليا، بعد الانتخابات العامة الأخيرة في مارس (آذار) من العام الفائت.
وفي تلك الأثناء، كان المشهد اليميني، الذي «تيتّم» بعد الاهتراء الذي أصاب الديمقراطيين المسيحيين بسبب فضائح الفساد المالي الضخمة والتواطؤ مع المافيا، يتشكّل من جديد حول شخص برلسكوني الذي كان يطلق الوعود البرّاقة، مستنداً إلى تجربته الناجحة في عالم المال والأعمال. وحقاً ترأس برلسكوني الحكومة في ولايات ثلاث متتالية، تفرّد خلالها بقيادة المعسكر اليميني الذي وجد فيه منقذاً من خطر استمرار اليسار في الحكم، ولا سيما بعدما مثله على رأس السلطة ماريانو برودي، الرئيس الأسبق للمفوضية الأوروبية.
ولكن بعد عشر سنوات على انطلاق التجربة البرلسكونية، بدأت تظهر عليها علامات الوهن، وأخذت تكشف عن عقم مضمونها، وعجزها عن الوفاء بالوعود التي حملتها، وصار واضحاً أن هدفها الرئيسي ليس سوى تحصين «الفارس» في وجه الملاحقات القضائية التي لا تُعد ولا تحصى، والتي انتهى بعضها بإدانته وتجريده لفترة من حقوقه السياسية والمدنية، وإلزامه بالقيام بخدمات اجتماعية، بدل عقوبة السجن التي نجا منها لتجاوزه الثمانين من العمر.

بروز سالفيني
هنا، وجد ماتّيو سالفيني، زعيم حزب «الرابطة» - «رابطة الشمال» سابقاً، فرصته الذهبية لملء الفراغ الذي كان قد بدأ يتسّع في دائرة برلسكوني العاجز عن تسمية وريث سياسي له. وبالفعل، أمسك سالفيني بزمام قيادة «الرابطة»، ذات القناعات الانفصالية أصلاً، بعدما انقلب أولاً على مؤسسها أومبرتو بوسّي، ثم على «راعيه» روبرتو ماروني، قبل أن ينزع عنها طابعها الانفصالي الذي قامت عليه. ومن هناك، يبدأ رحلته السريعة نحو أقصى اليمين، مدعوماً بزخم داخلي تولّد وتعاظم مع أزمة المهاجرين الذين كانوا يتدفقون بعشرات الآلاف على السواحل الإيطالية، ومستنداً إلى دعم دولي واسع من الحركات اليمينية.
عندما تسلّم سالفيني قيادة «الرابطة» لم تكن شعبيتها تتجاوز 6 في المائة من الناخبين، مقتصرة على مقاطعات الشمال التي كانت في البداية تطالب باستقلالها عن إيطاليا، إلا أن «الرابطة» احتلت المرتبة الثالثة بنسبة 16 في المائة في انتخابات العام الماضي، بعد حركة «النجوم الخمس» والحزب الديمقراطي، مُضاعفة النتيجة التي حصل عليها برلسكوني، ومرسّخة بذا صورتها كوريث طبيعي للرصيد السياسي اليميني في إيطاليا.
لم يكن في حسابات سالفيني الوصول يومذاك إلى الحكومة، بل كان يتأهب لمواصلة دوره التحريضي في المعارضة، بانتظار الموعد الانتخابي التالي لتكريس زعامته، وترسيخ شعبيته الصاعدة بقوة وسرعة، غير أن العداء المستحكم بين حركة «النجوم الخمس» والحزب الديمقراطي، الذي قضى منذ اللحظة الأولى على أي أمل في التقارب بينهما لتشكيل حكومة ائتلافية، رغم المحاولات المستميتة التي بذلها رئيس الجمهورية، والضغوط القوية التي مارستها أطراف داخلية وخارجية، فتح أمام سالفيني فرصة العمر للوصول إلى الحكم. وحقاً، تولى في الحكومة الائتلافية مع «النجوم الخمس» منصبي نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية. وهذا المنصب الأخير جعل منه سالفيني منبراً دائماً لحملاته المدروسة بعناية فائقة ضد المهاجرين والأجانب والمـؤسسات الأوروبية. وما هي إلا أشهر حتى أصبح هذا الزعيم اليميني المتطرف ذو الماضي اليساري «القبطان الأوحد» لسفينة الحكم، بينما كانت شعبيته تصعد بسرعة مع كل استطلاع، حتى دنت في الفترة الأخيرة من نسبة 40 في المائة. وهذه النسبة بموجب قانون الانتخاب الإيطالي تمكّنه من الحصول على الغالبية المطلقة في البرلمان، وتتيح له تشكيل حكومة من غير الاضطرار إلى الدخول في تحالفات مع القوى الأخرى.
وخلال تلك الفترة، ما عاد هناك من منازع لسالفيني على قمّة الهرم السياسي الإيطالي. وعليه، ترسّخ اليقين لدى الجميع بأن وصوله إلى رئاسة الحكومة لم يعد ينتظر سوى التوقيت المناسب الذي لن يحدّده أحد غيره. إلا أن أجواء «المبايعة» التي كانت تحيط بتحرّكات زعيم «الرابطة» راحت تكشف عن نشوة مُفرِطة في تصرّفاته، أبعدته عن الإصغاء إلى مشورة المقرّبين الذين راحوا يتذمّرون من تفرّده باتخاذ القرارات، ودفعت به إلى مرتبة مرتفعة من الغرور الذي بدأ ينذر باقتراب موعد الزلّات الفادحة والأخطاء المميتة.

القرار الانتحاري
في الخامس من أغسطس (آب) الماضي، كان سالفيني يمضي عطلته الصيفية على أحد الشواطئ الإيطالية، محاطاً بأنصاره، وبعيداً عن مستشاريه الأقربين، عندما قرّر وحده اتخاذ قرار كان أقرب ما يكون إلى الانتحار السياسي. يومذاك، أعلن على وسائل التواصل الاجتماعي أنه تقدّم بطلب لسحب الثقة من رئيس الحكومة، ودعا إلى إجراء انتخابات فوراً، كان يعرف أنه سيخرج منها ظافراً.
بيد أن هذا «الانتحار» الذي ارتكبه الرجل، والذي يوصف بأنه «أكبر إعصار سياسي في التاريخ الإيطالي الحديث»، ليس بالسهولة التي ظهر بها، ولا يمكن إرجاعه إلى مجرّد خطأ في الحسابات أو التقديرات السياسية. فمنذ أشهر، كان سالفيني يخشى من تهميشه نتيجة تفاهم بين شريكته في الحكم (حركة «النجوم الخمس») و«عدوه» اللدود الحزب الديمقراطي. وكانت مراكز ثقل الحكومة الإيطالية، بعد الانتخابات الأوروبية الأخيرة التي حققت فيها «الرابطة» انتصاراً مدويّاً، قد توزّعت على ثلاث جبهات: محور سالفيني، ومحور زعيم «النجوم الخمس» لويجي دي مايو، ومحور رئيس الوزراء كونتي مع وزير الخارجية إنزو موافيرو ميلانيزي ووزير الاقتصاد جيوفانّي تريّا ورئيس الجمهورية سيرجيو ماتّاريلّا.
ووفقاً لقيادي في الحزب الديمقراطي شارك في مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة، فإن المحور الثالث، القريب من الاتحاد الأوروبي، بدأ ينسج ما صار يُعرف باسم «عملية أورسولا» - تيمناً بالأحزاب الإيطالية التي صوتت لصالح الرئيسة الجديدة للمفوضية الأوروبية أورسولا فان در لايين - التي تهدف في نهايتها إلى قطع الطريق أمام سالفيني لمواصلة صعوده إلى رئاسة الحكومة.
ويقول العارفون إن سالفيني استشعر تلك المؤامرة، وبلغته معلومات محددة عن تفاصيلها، لكنه يدرك أن تفجير الأزمات الحكومية في إيطاليا تترتب عليه فاتورة لا بد من سدادها في صناديق الاقتراع. وخلال الأيام الأخيرة التي سبقت انفجار الأزمة، كان واضحاً أن ثمّة تحركات أوروبية لفرض حجر صحّي حول سالفيني، تمهيداً لمحاصرته وعزله. وفي تلك التحركات كان كونتي يلعب الدور المحوَري من داخل المؤسسات، مدعوماً من رئيس الجمهورية.
وفي موازاة ذلك، ظهرت في وسائل الإعلام الإيطالية معلومات موثّقة عن مفاوضات سرّية جرت بين «الرابطة» ومقرّبين من الكرملين للحصول على مساعدات مالية روسية لدعم وصول سالفيني إلى رئاسة الحكومة. وتزامن ظهور تلك المعلومات مع الفوز الساحق الذي حققته «الرابطة» في الانتخابات الأوروبية، وبعد ساعات من التصريحات التي أدلى بها سالفيني داعياً مرة أخرى، لكن من موقع الفائز هذه المرة، إلى رفع العقوبات الأوروبية عن موسكو.

محطة فسخ التحالف
فكرة فسخ الائتلاف الحاكم مع «النجوم الخمس» كانت تراود سالفيني منذ أشهر، إلا أنه كان حريصاً على التأكد من عدم وجود تفاهم بين الحركة والحزب الديمقراطي. ولذا اتصّل بالأمين العام للحزب الديمقراطي الذي أكد له أن الديمقراطيين يفضّلون الذهاب إلى الانتخابات في حال سقوط الحكومة، مستفيدين من التراجع الكبير في شعبية «النجوم الخمس» التي تنافسهم على القاعدة الشعبية نفسها.
وفي حينه، شعر سالفيني بشيء من الارتياح، وظن أن ساعة الصفر قد أزفت، لكنه لم يستشعر تلك التحركات التي كانت تمهّد لطعنه، والتي لا يتقنها أحد مثل السياسيين في إيطاليا.
وللعلم، كان ماتّيو رينزي، رئيس الوزراء الأسبق العدو التاريخي لحركة «النجوم الخمس»، الذي ما زال يسيطر على غالبية البرلمانيين في الحزب الديمقراطي، قد راح يكرّر تصريحاته الداعية إلى ما كان في حكم المستحيل قبل أسابيع: حكومة وحدة مع الحركة لتهميش سالفيني.
ومن ناحيته، كان بيبّي غريّو، مؤسس «النجوم الخمس»، يخطو في تصريحاته مقترباً من رينزي، بعد سنوات من الشتائم والعداوة، داعياً إلى «وقف زحف البرابرة»، وتشكيل تحالف مع الديمقراطيين، مدعوماً من رئيس الجمهورية ومن الفاتيكان. وبالمناسبة، كان كيل الفاتيكان قد طفح من انحرافات سالفيني في موضوع المهاجرين، واستخدامه الاستفزازي للرموز الدينية في حملاته الانتخابية.
ومن ثم، جاء المسمار الأخير في نعش طموحات سالفيني من حيث لم يكن يتوقّعه زعيم «الرابطة» الذي كان قد فتح كل الجبهات الممكنة مع الاتحاد الأوروبي. لقد جاءه من الولايات المتحدة، الحليف الأكبر لإيطاليا المؤثر في معظم قرارتها الاستراتيجية منذ قيام الجمهورية الأولى.
إذ يقول العارفون إن اللقاء الذي عقده سالفيني في 17 يونيو (حزيران) الماضي مع وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في واشنطن، انتهى بترسيخ الشكوك التي تساور الأميركيين بشأن زعيم «الرابطة»، وبالذات لجهة «انفتاحه» الواسع على موسكو، وتقاربه المُفرط مع الصين التي وقّعت معها إيطاليا اتفاقاً حول مشروع «طريق الحرير»، في تحدّ سافر للموقف المشترك الذي اعتمدته الدول الغربية والأطلسية من المبادرة الصينية.

«المؤامرة»
كانت «المؤامرة»، التي تحدّث عنها سالفيني بعد سقوطه المدوّي، وفشل محاولته الأخيرة للعودة إلى الائتلاف السابق، عندما عرض رئاسة الحكومة على لويجي دي مايّو، مقابل عدم التحالف مع الديمقراطيين، قد اكتملت فصولها في القمّة الأخيرة لمجموعة الدول الصناعية السبع في منتجع بياريتز الفرنسي.
في بياريتز، أقنع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نظيره الأميركي دونالد ترمب بإعلان تأييده لاستمرار كونتي في رئاسة الحكومة الإيطالية، كما أكدت بعض وسائل الإعلام الأميركية. تلك كانت الزفرة الأخيرة للقبطان الذي خسر سفينته قبل نهاية الصيف على الشواطئ الإيطالية.

أبرز شخصيات حكومة كونتي الجديدة
> الحكومة الإيطالية الجديدة التي شكلها جيوزيبي كونتي بالأمس، بعد إخراج حزب «الرابطة» اليميني المتطرف من الائتلاف، ودخول الحزب الديمقراطي اليساري شريكاً في السلطة لحركة «النجوم الخمس»، تضم وزراء من الحركة والحزب وحركة «حر ومساوٍ» اليسارية، بجانب مستقلين، بينهم رئيس الوزراء كونتي نفسه. وفيما يلي أبرز الوزراء:
جيوزيبي كونتي (مستقل) رئيساً للحكومة
ريكاردو فاكارو (النجوم الخمس) أميناً لمجلس الوزراء
لوتشيانا لامورجيزي (مستقلة) وزيرة للداخلية
لويجي دي مايو (النجوم الخمس) وزيراً للخارجية
لورينزو غيريني (ديمقراطي) وزيراً للدفاع
روبرتو غوالتييري (ديمقراطي) وزيراً للمال والاقتصاد
ألفونسو بونافيدي (مستقل) وزيراً للعدل
ستيفانو باتوانيللي (النجوم الخمس) وزيراً للتنمية الاقتصادية
نونزيا كاتالفو (النجوم الخمس) وزيرة للعمل والسياسات الاجتماعية
باولا دي ميكيلي (ديمقراطية) وزيرة للبنى التحتية والنقل
تيريزا بيلانوفا (ديمقراطية) وزيرة للزراعة والغذاء والغابات
روبرتو سبيرانزا (حرّ ومساوٍ) وزيراً للصحة
لورينزو فيورامونتي (النجوم الخمس) وزيراً للتربية والجامعات والأبحاث
سيرجيو كوستا (النجوم الخمس) وزيراً للبيئة وحماية الأرض والبحر
داريو فرانشيسكيني (ديمقراطي) وزيراً للتراث والثقافة والسياحة



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.