«داعش» و«القاعدة» ومستقبل التطرف

تقدم أحد التنظيمين على صعيد الإرهاب العالمي يؤكد خسارة ملموسة لدى الطرف الآخر

متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح  في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)
متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)
TT

«داعش» و«القاعدة» ومستقبل التطرف

متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح  في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)
متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)

أسفرت تداعيات الانقسام ما بين تنظيم «داعش» وتنظيم «القاعدة» الإرهابيين عن نشوء منافسة وصفت بالمحتدمة، وأحياناً بالمصيرية تلك التي عدها الطرفان منابذة صفرية النتائج من حيث طبيعتها القاسية؛ إذ يشير تقدم أحد التنظيمين على صعيد الإرهاب العالمي إلى خسارة أكيدة لدى الطرف الآخر.
كانت الآيديولوجية المتماثلة والأهداف المتناظرة لكلا التنظيمين من أحد المحركات الأساسية لاحتدام المنافسة البينية على صعيد الإرهاب الدولي. إذ لجأ تنظيم «داعش» إلى اعتماد مستويات مفرطة من أعمال العنف بغية التفرد وتمييز الذات عن منافسيه من جماعات وتنظيمات الإرهاب الأخرى، بما في ذلك تنظيم «القاعدة» نفسه. وتبذل كلتا الجماعتين جهود تجنيد الأتباع من داخل الأوساط المتطرفة نفسها، وبسط التأثير والنفوذ بكل الوسائل الممكنة لاستمالة أكبر عدد من الأنصار. وتكمن الاختلافات الرئيسية الواضحة ما بين التنظيمين في أن «داعش» سعى سعياً حثيثاً لإقامة الخلافة الموهومة عبر خط زمني اعتبره تنظيم «القاعدة» سابقاً لأوانه بكثير، كما اعتمد تنظيم «داعش» لنفسه أجندة أعمال اتسمت بنزعة طائفية عميقة في معرض محاولاته لتحقيق أهدافه المنشودة بأي وسيلة كانت. وما إذا كان لهذه الاختلافات أن تنزوي، بصرف النظر عن كيفية ذلك، فسوف يكون لها تداعيات كبيرة ومؤثرة على مستقبل الحركة الجهادية العالمية بنطاقها الواسع.

مخاوف من الاقتتال الداخلي

وقع الانقسام المذكور أول الأمر على مستوى الأنساق القيادية العليا لهذه التنظيمات الإرهابية، ومن ثم فإن أحد التساؤلات المهمة المطروحة يقول: إلى أي مدى يعبأ قادة الخلايا الوسطى وجنود المستويات الدنيا من هذه التنظيمات بشأن الاقتتال الداخلي والنزاعات الاستراتيجية السالفة؟ وبالنسبة إلى بعض المقاتلين من هذه المستويات غير القيادية، هناك خط موازٍ واضح يربط بين حالات الاقتتال والتنافس الداخلي وبين مجريات الصراع البينية داخل عصابات الشوارع والتنظيمات الإجرامية، حيث تقوم بعض العصابات بتمييز نفسها عن طريق تحديد بعض الألوان المميزة لملابسهم، مع التهوين المستمر من شأن الخصوم عبر نشر مختلف مقاطع الفيديو على شبكة الإنترنت بهدف السخرية والاستهزاء، وربما تهديد، العصابات المنافسة.
وحازت منصات التواصل الاجتماعي على نصيب الأسد من مجريات وفعاليات الفتن بين تلك الجماعات، حيث يواصل القادة من كل جانب كيل الاتهامات وإلقاء التبعات وتوجيه اللوم على الجانب الآخر ووصمهم بـ«المسلمين العصاة»، بحسب تقرير عن مستقبل التشدد الأصولي في مجلة «ناشيونال إنترست» الأميركية.

رصاصات التوبيخ والتأنيب

وانطلقت أولى رصاصات التوبيخ والتأنيب من جانب أيمن الظواهري، الزعيم الحالي لتنظيم «القاعدة» الإرهابي، الذي أسهب في ملامة تنظيم «داعش» متهماً إياهم بالمروق والانحراف عن آيديولوجية ومنهجية «القاعدة»، التنظيم الأم كما أشير إليه.
وحقيقة الأمر، أن العلاقة بين التنظيمين الإرهابيين الكبيرين كان محكوماً عليها بالانقسام والتشرذم منذ البادرة الأولى. فالجماعة التي تشكلت في خاتمة المطاف فيما بات يُعرف بتنظيم ما يسمى «داعش» في العراق والشام، اختصاراً «داعش»، كانت تحمل منذ البداية عناصر ومكونات الجماعة المارقة، تلك التي شكّلها وأشرف على ترتيب أوراقها رجل «القاعدة» الأسبق في العراق - الأردني أبو مصعب الزرقاوي، الذي قاتل أشرس قتال يمكن وصفه بُغية المحافظة على انفصال ثم استقلال جماعته عن الجماعة الأم. وحتى بعد إعلانه الولاء وتعهده بالانتماء إلى أسامة بن لادن، الزعيم الأول لتنظيم «القاعدة» في أفغانستان، ظل الزرقاوي يتعمد تجاهل، وربما التلاعب، بالتوجيهات الصادرة إليه عن القيادة المركزية لتنظيم «القاعدة» متابعاً بدلاً من ذلك أجندته الطائفية الصارمة ذات الصبغة «الانفصالية» عن التنظيم الأم على أمل إشعال نيران حرب أهلية مستعرة بين السنّة والشيعة أولاً داخل العراق تلك التي يمتد شررها المستطير لاحقاً إلى أرجاء العالم الإسلامي الواسع كافة.
ومن الخطوات الأولى المتخذة من جانب تنظيم «القاعدة» على سبيل تقديم نفسه بصفته تنظيماً «متشدداً» أكثر نزاهة في الأساليب وأعمق إنصافاً في الغايات والمقاصد كان عبر التنديد الشديد بالنزعة الطائفية الفجة والصارخة المعتمدة من قبل تنظيم «داعش» مع العمل على إقناع رجال «القاعدة» في العراق على نبذ الطائفية ووأد فتنتها في مهدها على اعتباره من المبادئ التوجيهية الأساسية لأعمال التنظيم هناك. وخطّ الظواهري، في يوليو (تموز) من عام 2005، رسالة موجهة إلى الزرقاوي، زعيم تنظيم «القاعدة» في العراق، يأخذ عليه فيها أعمال العنف المفرطة من جانب رجاله وذبحهم غير المميز لعناصر الشيعة في العراق، مشدداً على التداعيات السلبية العميقة لمثل هذه التصرفات على صورة «القاعدة»، مع حضه على تجنب استهداف المسلمين الآخرين هناك. لكن عندما بلغت الزرقاوي رسالة أميره من أفغانستان، ما كان منه إلا أنه تجاهل فحواها وتغافل عن مقصدها مواصلاً تعزيز سمعة تنظيم «القاعدة» في العراق على اعتباره جماعة متطرفة ذات أقدام صلبة وقلب لا يعرف الرحمة بات العنف في حد ذاته مقصدها المنشود ناهيكم عن كونه وسيلة من وسائلها.
لذا؛ وفي حين أن التصدع المبدئي بين التنظيمين قد بدأ يتخذ طريقه نحو العمق في العراق خلال النصف الأول من القرن العشرين، إلا أنه تطور إلى ما يشبه الصراع الداخلي في السنوات الأولى من الحرب الأهلية السورية. وفي إثر السقوط، عمل تنظيم «القاعدة» بكل جدية على إعادة تأسيس الذات كأحد العوامل الفاعلة في بلاد الشام. وتحقيقاً لهكذا غاية، اضطر التنظيم، أفغاني النشأة، إلى محاولة التغلب على الكثير من الانتكاسات التي واجهته في الطريق والمتعلقة بوحدة صفوف التنظيم وتماسك عناصره. وكان التواجد الأول لتنظيم «القاعدة» في سوريا، كما هو معتاد، عبر أحد فروعه هناك والمعروف باسم «جبهة النصرة»، أو ما كان يُعرف بفرع «داعش في بلاد الشام» سابقاً. وفي منتصف عام 2016، أعادت «جبهة النصرة» تسمية نفسها بمسمى «جبهة فتح الشام»، ثم أعلنت توحيد صفوفها مع جماعات إرهابية منشقة أخرى لتعلن لاحقاً تشكيل تنظيم «هيئة تحرير الشام»، وهي تنظيم إرهابي شامل اعتمد منذ البداية النأي بنفسه وخلق مسافة فاصلة يزداد اتساعها بينه وبين تنظيم «القاعدة».
واعتباراً من منتصف عام 2018، لم يكن لدى تنظيم «القاعدة» أي أذرع أو فروع رسمية داخل سوريا، غير أنه لا يزال يحظى بولاء بعض من أبرز المتطرفين المتواجدين هناك. وأعلنت بعض العناصر الموالية لتنظيم «القاعدة» في عام 2018 عن تشكيل جماعة جديدة أخرى تحمل مسمى «تنظيم حراس الدين». وفي حين التزام «هيئة تحرير الشام» بالتركيز على الأحداث الجارية في سوريا، كان «تنظيم حراس الدين» يضم قدامى محاربي تنظيم «القاعدة» ممن قد يسعون إلى استغلال سوريا كقاعدة انطلاق لشن هجمات إرهابية فائقة المستوى ضد الغرب. ويعد هذا الموقف المتخذ من قبل «تنظيم حراس الدين» انحرافاً واضحاً عن مسار تركيز تنظيم «القاعدة» في الآونة الأخيرة على استمالة تأييد القاعدة الشعبية من المتطرفين داخل سوريا؛ الأمر الذي إن أتى ثماره المنتظرة، فسوف يرجع بتداعيات كبيرة على عودة التنظيم الأم إلى مجده السابق في عالم التطرف والإرهاب. وكانت عملية إعادة التسمية من جانب عناصر تنظيم «القاعدة» في سوريا ضرورية بصفة جزئية غير أنها كانت خطوة مهمة ذات طبيعة استراتيجية كذلك. ومن وجهة النظر البراغماتية البحتة، خدمت عمليات إعادة التسمية تلك في إنشاء مسافة واضحة المعالم ما بين تنظيم «القاعدة» (الأم) وبين مجموعة من الجماعات المقلدة والمنافسة على الجانب الآخر من الطيف المتشدد.
ولم تختلف الزاوية الاستراتيجية لعملية إعادة التسمية كثيراً عن استعانة شركة من الشركات بأدوات العلاقات العامة والتسويق التجاري لإعادة طرح الصورة أو ارتداء ثوب جديد؛ إذ يحاول تنظيم «القاعدة» في الآونة الراهنة طرح نفسه بديلاً أكثر «اعتدالاً» عن تنظيم «داعش». وسوّق الأخير علامته التجارية على صعيد الجهاد العالمي استناداً إلى فكرة مسمى الخلافة المزعومة والتزام التنظيم خط أعمال العنف المفرطة، في حين سعى تنظيم «القاعدة» إلى تصوير نفسه تنظيماً أكثر تكيفاً مع التغيرات وأكثر حنكة في التخطيط الاستراتيجي، ويملك الفرص السانحة الكبيرة ذات الجاذبية المؤثرة المساهمة في إنجاح مساعيه في المستقبل.
ورغم أن عمليات إعادة التسمية تعتبر من قبيل المخاتلة والمخادعة التي تستعين بها جماعات التطرف والإرهاب في نظر الكثيرين من علماء وخبراء مكافحة الإرهاب، فإنها قد تنجح في إعادة طرح صورة تنظيم «القاعدة» في الداخل السوري. وعلى هذا النحو، وفي حين أن مجرد ظهور وصعود تنظيم «داعش» الإرهابي اعتبر تهديداً وجودياً لتنظيم «القاعدة» عند مرحلة من المراحل، إلا أنه قد أتاح الفرصة لـ«القاعدة» لمعاودة الظهور على مسرح الأحداث. كان قرار تنظيم «القاعدة» المدروس يدور حول النأي بالنفس تماماً عن التنظيمات المتفرعة عن مداره لإفساح المجال أمام تصوير نفسه الحائز القوة الشرعية، والمقدرة، والاستقلال ضمن مجريات الحرب الأهلية السورية المستمرة. ومن الأهداف الأخرى المتصورة لتنظيم «القاعدة» كان إثبات أن مقاتلي التنظيم كرّسوا حياتهم وجهدهم لمعاونة السوريين على الانتصار في حربهم ونضالهم. وأخيراً، من شأن ذلك أن يمنح قيادة «القاعدة» الرئيسي قدراً يسيراً من الإنكار المعقول الذي يمهد الطريق لحلفائه السابقين للتأهل للحصول على المساعدات العسكرية من عدد من البلدان الخارجية المعنية.
الآن، وبعد سقوط خلافة تنظيم «داعش» المزعومة في العراق وسوريا، ربما يعاود تنظيم «القاعدة» الظهور على اعتباره الجماعة الوحيدة ذات الإمكانات العسكرية القادرة على الوقوف في وجه بشار الأسد وتحدي قبضته الحديدية على السلطة في البلاد، على الرغم من أن ذلك يبدو من الآمال بعيدة المنال على اعتبار مجريات الأحداث وتطوراتها منذ منتصف عام 2018 وحتى الآن. ومن شأن تنظيم «القاعدة» إثبات أنه يمثل التهديد طويل الأجل على الأمن والاستقرار في الداخل السوري، ويرجع ذلك في مقامه الأول إلى قاعدة التأييد الشعبي وجاذبيته التي لا يزال يحظى بها على الصعيد المحلي. وعلى النقيض من تنظيم «داعش»، يُنظر إلى تنظيم «القاعدة» من واقع أنه الكيان المتأهب للعمل مع السكان المحليين من حيث امتلاكه الموارد اللازمة لتوفير بعض، وليس كل، مظاهر الحكم هناك. وعلى المدى البعيد، يمكن لتنظيم «القاعدة» التحول إلى ما يشبه تنظيم «حزب الله» اللبناني الشيعي – الكيان العنيف غير الحكومي في الداخل اللبناني – الذي تمكن من تعزيز شرعية تواجده سياسياً مع المحافظة في الوقت نفسه على قدرات شن أعمال العنف والإرهاب واسعة النطاق كلما اقتضت الظروف.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».