«داعش» و«القاعدة» ومستقبل التطرف

تقدم أحد التنظيمين على صعيد الإرهاب العالمي يؤكد خسارة ملموسة لدى الطرف الآخر

متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح  في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)
متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)
TT

«داعش» و«القاعدة» ومستقبل التطرف

متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح  في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)
متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)

أسفرت تداعيات الانقسام ما بين تنظيم «داعش» وتنظيم «القاعدة» الإرهابيين عن نشوء منافسة وصفت بالمحتدمة، وأحياناً بالمصيرية تلك التي عدها الطرفان منابذة صفرية النتائج من حيث طبيعتها القاسية؛ إذ يشير تقدم أحد التنظيمين على صعيد الإرهاب العالمي إلى خسارة أكيدة لدى الطرف الآخر.
كانت الآيديولوجية المتماثلة والأهداف المتناظرة لكلا التنظيمين من أحد المحركات الأساسية لاحتدام المنافسة البينية على صعيد الإرهاب الدولي. إذ لجأ تنظيم «داعش» إلى اعتماد مستويات مفرطة من أعمال العنف بغية التفرد وتمييز الذات عن منافسيه من جماعات وتنظيمات الإرهاب الأخرى، بما في ذلك تنظيم «القاعدة» نفسه. وتبذل كلتا الجماعتين جهود تجنيد الأتباع من داخل الأوساط المتطرفة نفسها، وبسط التأثير والنفوذ بكل الوسائل الممكنة لاستمالة أكبر عدد من الأنصار. وتكمن الاختلافات الرئيسية الواضحة ما بين التنظيمين في أن «داعش» سعى سعياً حثيثاً لإقامة الخلافة الموهومة عبر خط زمني اعتبره تنظيم «القاعدة» سابقاً لأوانه بكثير، كما اعتمد تنظيم «داعش» لنفسه أجندة أعمال اتسمت بنزعة طائفية عميقة في معرض محاولاته لتحقيق أهدافه المنشودة بأي وسيلة كانت. وما إذا كان لهذه الاختلافات أن تنزوي، بصرف النظر عن كيفية ذلك، فسوف يكون لها تداعيات كبيرة ومؤثرة على مستقبل الحركة الجهادية العالمية بنطاقها الواسع.

مخاوف من الاقتتال الداخلي

وقع الانقسام المذكور أول الأمر على مستوى الأنساق القيادية العليا لهذه التنظيمات الإرهابية، ومن ثم فإن أحد التساؤلات المهمة المطروحة يقول: إلى أي مدى يعبأ قادة الخلايا الوسطى وجنود المستويات الدنيا من هذه التنظيمات بشأن الاقتتال الداخلي والنزاعات الاستراتيجية السالفة؟ وبالنسبة إلى بعض المقاتلين من هذه المستويات غير القيادية، هناك خط موازٍ واضح يربط بين حالات الاقتتال والتنافس الداخلي وبين مجريات الصراع البينية داخل عصابات الشوارع والتنظيمات الإجرامية، حيث تقوم بعض العصابات بتمييز نفسها عن طريق تحديد بعض الألوان المميزة لملابسهم، مع التهوين المستمر من شأن الخصوم عبر نشر مختلف مقاطع الفيديو على شبكة الإنترنت بهدف السخرية والاستهزاء، وربما تهديد، العصابات المنافسة.
وحازت منصات التواصل الاجتماعي على نصيب الأسد من مجريات وفعاليات الفتن بين تلك الجماعات، حيث يواصل القادة من كل جانب كيل الاتهامات وإلقاء التبعات وتوجيه اللوم على الجانب الآخر ووصمهم بـ«المسلمين العصاة»، بحسب تقرير عن مستقبل التشدد الأصولي في مجلة «ناشيونال إنترست» الأميركية.

رصاصات التوبيخ والتأنيب

وانطلقت أولى رصاصات التوبيخ والتأنيب من جانب أيمن الظواهري، الزعيم الحالي لتنظيم «القاعدة» الإرهابي، الذي أسهب في ملامة تنظيم «داعش» متهماً إياهم بالمروق والانحراف عن آيديولوجية ومنهجية «القاعدة»، التنظيم الأم كما أشير إليه.
وحقيقة الأمر، أن العلاقة بين التنظيمين الإرهابيين الكبيرين كان محكوماً عليها بالانقسام والتشرذم منذ البادرة الأولى. فالجماعة التي تشكلت في خاتمة المطاف فيما بات يُعرف بتنظيم ما يسمى «داعش» في العراق والشام، اختصاراً «داعش»، كانت تحمل منذ البداية عناصر ومكونات الجماعة المارقة، تلك التي شكّلها وأشرف على ترتيب أوراقها رجل «القاعدة» الأسبق في العراق - الأردني أبو مصعب الزرقاوي، الذي قاتل أشرس قتال يمكن وصفه بُغية المحافظة على انفصال ثم استقلال جماعته عن الجماعة الأم. وحتى بعد إعلانه الولاء وتعهده بالانتماء إلى أسامة بن لادن، الزعيم الأول لتنظيم «القاعدة» في أفغانستان، ظل الزرقاوي يتعمد تجاهل، وربما التلاعب، بالتوجيهات الصادرة إليه عن القيادة المركزية لتنظيم «القاعدة» متابعاً بدلاً من ذلك أجندته الطائفية الصارمة ذات الصبغة «الانفصالية» عن التنظيم الأم على أمل إشعال نيران حرب أهلية مستعرة بين السنّة والشيعة أولاً داخل العراق تلك التي يمتد شررها المستطير لاحقاً إلى أرجاء العالم الإسلامي الواسع كافة.
ومن الخطوات الأولى المتخذة من جانب تنظيم «القاعدة» على سبيل تقديم نفسه بصفته تنظيماً «متشدداً» أكثر نزاهة في الأساليب وأعمق إنصافاً في الغايات والمقاصد كان عبر التنديد الشديد بالنزعة الطائفية الفجة والصارخة المعتمدة من قبل تنظيم «داعش» مع العمل على إقناع رجال «القاعدة» في العراق على نبذ الطائفية ووأد فتنتها في مهدها على اعتباره من المبادئ التوجيهية الأساسية لأعمال التنظيم هناك. وخطّ الظواهري، في يوليو (تموز) من عام 2005، رسالة موجهة إلى الزرقاوي، زعيم تنظيم «القاعدة» في العراق، يأخذ عليه فيها أعمال العنف المفرطة من جانب رجاله وذبحهم غير المميز لعناصر الشيعة في العراق، مشدداً على التداعيات السلبية العميقة لمثل هذه التصرفات على صورة «القاعدة»، مع حضه على تجنب استهداف المسلمين الآخرين هناك. لكن عندما بلغت الزرقاوي رسالة أميره من أفغانستان، ما كان منه إلا أنه تجاهل فحواها وتغافل عن مقصدها مواصلاً تعزيز سمعة تنظيم «القاعدة» في العراق على اعتباره جماعة متطرفة ذات أقدام صلبة وقلب لا يعرف الرحمة بات العنف في حد ذاته مقصدها المنشود ناهيكم عن كونه وسيلة من وسائلها.
لذا؛ وفي حين أن التصدع المبدئي بين التنظيمين قد بدأ يتخذ طريقه نحو العمق في العراق خلال النصف الأول من القرن العشرين، إلا أنه تطور إلى ما يشبه الصراع الداخلي في السنوات الأولى من الحرب الأهلية السورية. وفي إثر السقوط، عمل تنظيم «القاعدة» بكل جدية على إعادة تأسيس الذات كأحد العوامل الفاعلة في بلاد الشام. وتحقيقاً لهكذا غاية، اضطر التنظيم، أفغاني النشأة، إلى محاولة التغلب على الكثير من الانتكاسات التي واجهته في الطريق والمتعلقة بوحدة صفوف التنظيم وتماسك عناصره. وكان التواجد الأول لتنظيم «القاعدة» في سوريا، كما هو معتاد، عبر أحد فروعه هناك والمعروف باسم «جبهة النصرة»، أو ما كان يُعرف بفرع «داعش في بلاد الشام» سابقاً. وفي منتصف عام 2016، أعادت «جبهة النصرة» تسمية نفسها بمسمى «جبهة فتح الشام»، ثم أعلنت توحيد صفوفها مع جماعات إرهابية منشقة أخرى لتعلن لاحقاً تشكيل تنظيم «هيئة تحرير الشام»، وهي تنظيم إرهابي شامل اعتمد منذ البداية النأي بنفسه وخلق مسافة فاصلة يزداد اتساعها بينه وبين تنظيم «القاعدة».
واعتباراً من منتصف عام 2018، لم يكن لدى تنظيم «القاعدة» أي أذرع أو فروع رسمية داخل سوريا، غير أنه لا يزال يحظى بولاء بعض من أبرز المتطرفين المتواجدين هناك. وأعلنت بعض العناصر الموالية لتنظيم «القاعدة» في عام 2018 عن تشكيل جماعة جديدة أخرى تحمل مسمى «تنظيم حراس الدين». وفي حين التزام «هيئة تحرير الشام» بالتركيز على الأحداث الجارية في سوريا، كان «تنظيم حراس الدين» يضم قدامى محاربي تنظيم «القاعدة» ممن قد يسعون إلى استغلال سوريا كقاعدة انطلاق لشن هجمات إرهابية فائقة المستوى ضد الغرب. ويعد هذا الموقف المتخذ من قبل «تنظيم حراس الدين» انحرافاً واضحاً عن مسار تركيز تنظيم «القاعدة» في الآونة الأخيرة على استمالة تأييد القاعدة الشعبية من المتطرفين داخل سوريا؛ الأمر الذي إن أتى ثماره المنتظرة، فسوف يرجع بتداعيات كبيرة على عودة التنظيم الأم إلى مجده السابق في عالم التطرف والإرهاب. وكانت عملية إعادة التسمية من جانب عناصر تنظيم «القاعدة» في سوريا ضرورية بصفة جزئية غير أنها كانت خطوة مهمة ذات طبيعة استراتيجية كذلك. ومن وجهة النظر البراغماتية البحتة، خدمت عمليات إعادة التسمية تلك في إنشاء مسافة واضحة المعالم ما بين تنظيم «القاعدة» (الأم) وبين مجموعة من الجماعات المقلدة والمنافسة على الجانب الآخر من الطيف المتشدد.
ولم تختلف الزاوية الاستراتيجية لعملية إعادة التسمية كثيراً عن استعانة شركة من الشركات بأدوات العلاقات العامة والتسويق التجاري لإعادة طرح الصورة أو ارتداء ثوب جديد؛ إذ يحاول تنظيم «القاعدة» في الآونة الراهنة طرح نفسه بديلاً أكثر «اعتدالاً» عن تنظيم «داعش». وسوّق الأخير علامته التجارية على صعيد الجهاد العالمي استناداً إلى فكرة مسمى الخلافة المزعومة والتزام التنظيم خط أعمال العنف المفرطة، في حين سعى تنظيم «القاعدة» إلى تصوير نفسه تنظيماً أكثر تكيفاً مع التغيرات وأكثر حنكة في التخطيط الاستراتيجي، ويملك الفرص السانحة الكبيرة ذات الجاذبية المؤثرة المساهمة في إنجاح مساعيه في المستقبل.
ورغم أن عمليات إعادة التسمية تعتبر من قبيل المخاتلة والمخادعة التي تستعين بها جماعات التطرف والإرهاب في نظر الكثيرين من علماء وخبراء مكافحة الإرهاب، فإنها قد تنجح في إعادة طرح صورة تنظيم «القاعدة» في الداخل السوري. وعلى هذا النحو، وفي حين أن مجرد ظهور وصعود تنظيم «داعش» الإرهابي اعتبر تهديداً وجودياً لتنظيم «القاعدة» عند مرحلة من المراحل، إلا أنه قد أتاح الفرصة لـ«القاعدة» لمعاودة الظهور على مسرح الأحداث. كان قرار تنظيم «القاعدة» المدروس يدور حول النأي بالنفس تماماً عن التنظيمات المتفرعة عن مداره لإفساح المجال أمام تصوير نفسه الحائز القوة الشرعية، والمقدرة، والاستقلال ضمن مجريات الحرب الأهلية السورية المستمرة. ومن الأهداف الأخرى المتصورة لتنظيم «القاعدة» كان إثبات أن مقاتلي التنظيم كرّسوا حياتهم وجهدهم لمعاونة السوريين على الانتصار في حربهم ونضالهم. وأخيراً، من شأن ذلك أن يمنح قيادة «القاعدة» الرئيسي قدراً يسيراً من الإنكار المعقول الذي يمهد الطريق لحلفائه السابقين للتأهل للحصول على المساعدات العسكرية من عدد من البلدان الخارجية المعنية.
الآن، وبعد سقوط خلافة تنظيم «داعش» المزعومة في العراق وسوريا، ربما يعاود تنظيم «القاعدة» الظهور على اعتباره الجماعة الوحيدة ذات الإمكانات العسكرية القادرة على الوقوف في وجه بشار الأسد وتحدي قبضته الحديدية على السلطة في البلاد، على الرغم من أن ذلك يبدو من الآمال بعيدة المنال على اعتبار مجريات الأحداث وتطوراتها منذ منتصف عام 2018 وحتى الآن. ومن شأن تنظيم «القاعدة» إثبات أنه يمثل التهديد طويل الأجل على الأمن والاستقرار في الداخل السوري، ويرجع ذلك في مقامه الأول إلى قاعدة التأييد الشعبي وجاذبيته التي لا يزال يحظى بها على الصعيد المحلي. وعلى النقيض من تنظيم «داعش»، يُنظر إلى تنظيم «القاعدة» من واقع أنه الكيان المتأهب للعمل مع السكان المحليين من حيث امتلاكه الموارد اللازمة لتوفير بعض، وليس كل، مظاهر الحكم هناك. وعلى المدى البعيد، يمكن لتنظيم «القاعدة» التحول إلى ما يشبه تنظيم «حزب الله» اللبناني الشيعي – الكيان العنيف غير الحكومي في الداخل اللبناني – الذي تمكن من تعزيز شرعية تواجده سياسياً مع المحافظة في الوقت نفسه على قدرات شن أعمال العنف والإرهاب واسعة النطاق كلما اقتضت الظروف.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».