«داعش» و«القاعدة» ومستقبل التطرف

تقدم أحد التنظيمين على صعيد الإرهاب العالمي يؤكد خسارة ملموسة لدى الطرف الآخر

متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح  في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)
متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)
TT

«داعش» و«القاعدة» ومستقبل التطرف

متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح  في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)
متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)

أسفرت تداعيات الانقسام ما بين تنظيم «داعش» وتنظيم «القاعدة» الإرهابيين عن نشوء منافسة وصفت بالمحتدمة، وأحياناً بالمصيرية تلك التي عدها الطرفان منابذة صفرية النتائج من حيث طبيعتها القاسية؛ إذ يشير تقدم أحد التنظيمين على صعيد الإرهاب العالمي إلى خسارة أكيدة لدى الطرف الآخر.
كانت الآيديولوجية المتماثلة والأهداف المتناظرة لكلا التنظيمين من أحد المحركات الأساسية لاحتدام المنافسة البينية على صعيد الإرهاب الدولي. إذ لجأ تنظيم «داعش» إلى اعتماد مستويات مفرطة من أعمال العنف بغية التفرد وتمييز الذات عن منافسيه من جماعات وتنظيمات الإرهاب الأخرى، بما في ذلك تنظيم «القاعدة» نفسه. وتبذل كلتا الجماعتين جهود تجنيد الأتباع من داخل الأوساط المتطرفة نفسها، وبسط التأثير والنفوذ بكل الوسائل الممكنة لاستمالة أكبر عدد من الأنصار. وتكمن الاختلافات الرئيسية الواضحة ما بين التنظيمين في أن «داعش» سعى سعياً حثيثاً لإقامة الخلافة الموهومة عبر خط زمني اعتبره تنظيم «القاعدة» سابقاً لأوانه بكثير، كما اعتمد تنظيم «داعش» لنفسه أجندة أعمال اتسمت بنزعة طائفية عميقة في معرض محاولاته لتحقيق أهدافه المنشودة بأي وسيلة كانت. وما إذا كان لهذه الاختلافات أن تنزوي، بصرف النظر عن كيفية ذلك، فسوف يكون لها تداعيات كبيرة ومؤثرة على مستقبل الحركة الجهادية العالمية بنطاقها الواسع.

مخاوف من الاقتتال الداخلي

وقع الانقسام المذكور أول الأمر على مستوى الأنساق القيادية العليا لهذه التنظيمات الإرهابية، ومن ثم فإن أحد التساؤلات المهمة المطروحة يقول: إلى أي مدى يعبأ قادة الخلايا الوسطى وجنود المستويات الدنيا من هذه التنظيمات بشأن الاقتتال الداخلي والنزاعات الاستراتيجية السالفة؟ وبالنسبة إلى بعض المقاتلين من هذه المستويات غير القيادية، هناك خط موازٍ واضح يربط بين حالات الاقتتال والتنافس الداخلي وبين مجريات الصراع البينية داخل عصابات الشوارع والتنظيمات الإجرامية، حيث تقوم بعض العصابات بتمييز نفسها عن طريق تحديد بعض الألوان المميزة لملابسهم، مع التهوين المستمر من شأن الخصوم عبر نشر مختلف مقاطع الفيديو على شبكة الإنترنت بهدف السخرية والاستهزاء، وربما تهديد، العصابات المنافسة.
وحازت منصات التواصل الاجتماعي على نصيب الأسد من مجريات وفعاليات الفتن بين تلك الجماعات، حيث يواصل القادة من كل جانب كيل الاتهامات وإلقاء التبعات وتوجيه اللوم على الجانب الآخر ووصمهم بـ«المسلمين العصاة»، بحسب تقرير عن مستقبل التشدد الأصولي في مجلة «ناشيونال إنترست» الأميركية.

رصاصات التوبيخ والتأنيب

وانطلقت أولى رصاصات التوبيخ والتأنيب من جانب أيمن الظواهري، الزعيم الحالي لتنظيم «القاعدة» الإرهابي، الذي أسهب في ملامة تنظيم «داعش» متهماً إياهم بالمروق والانحراف عن آيديولوجية ومنهجية «القاعدة»، التنظيم الأم كما أشير إليه.
وحقيقة الأمر، أن العلاقة بين التنظيمين الإرهابيين الكبيرين كان محكوماً عليها بالانقسام والتشرذم منذ البادرة الأولى. فالجماعة التي تشكلت في خاتمة المطاف فيما بات يُعرف بتنظيم ما يسمى «داعش» في العراق والشام، اختصاراً «داعش»، كانت تحمل منذ البداية عناصر ومكونات الجماعة المارقة، تلك التي شكّلها وأشرف على ترتيب أوراقها رجل «القاعدة» الأسبق في العراق - الأردني أبو مصعب الزرقاوي، الذي قاتل أشرس قتال يمكن وصفه بُغية المحافظة على انفصال ثم استقلال جماعته عن الجماعة الأم. وحتى بعد إعلانه الولاء وتعهده بالانتماء إلى أسامة بن لادن، الزعيم الأول لتنظيم «القاعدة» في أفغانستان، ظل الزرقاوي يتعمد تجاهل، وربما التلاعب، بالتوجيهات الصادرة إليه عن القيادة المركزية لتنظيم «القاعدة» متابعاً بدلاً من ذلك أجندته الطائفية الصارمة ذات الصبغة «الانفصالية» عن التنظيم الأم على أمل إشعال نيران حرب أهلية مستعرة بين السنّة والشيعة أولاً داخل العراق تلك التي يمتد شررها المستطير لاحقاً إلى أرجاء العالم الإسلامي الواسع كافة.
ومن الخطوات الأولى المتخذة من جانب تنظيم «القاعدة» على سبيل تقديم نفسه بصفته تنظيماً «متشدداً» أكثر نزاهة في الأساليب وأعمق إنصافاً في الغايات والمقاصد كان عبر التنديد الشديد بالنزعة الطائفية الفجة والصارخة المعتمدة من قبل تنظيم «داعش» مع العمل على إقناع رجال «القاعدة» في العراق على نبذ الطائفية ووأد فتنتها في مهدها على اعتباره من المبادئ التوجيهية الأساسية لأعمال التنظيم هناك. وخطّ الظواهري، في يوليو (تموز) من عام 2005، رسالة موجهة إلى الزرقاوي، زعيم تنظيم «القاعدة» في العراق، يأخذ عليه فيها أعمال العنف المفرطة من جانب رجاله وذبحهم غير المميز لعناصر الشيعة في العراق، مشدداً على التداعيات السلبية العميقة لمثل هذه التصرفات على صورة «القاعدة»، مع حضه على تجنب استهداف المسلمين الآخرين هناك. لكن عندما بلغت الزرقاوي رسالة أميره من أفغانستان، ما كان منه إلا أنه تجاهل فحواها وتغافل عن مقصدها مواصلاً تعزيز سمعة تنظيم «القاعدة» في العراق على اعتباره جماعة متطرفة ذات أقدام صلبة وقلب لا يعرف الرحمة بات العنف في حد ذاته مقصدها المنشود ناهيكم عن كونه وسيلة من وسائلها.
لذا؛ وفي حين أن التصدع المبدئي بين التنظيمين قد بدأ يتخذ طريقه نحو العمق في العراق خلال النصف الأول من القرن العشرين، إلا أنه تطور إلى ما يشبه الصراع الداخلي في السنوات الأولى من الحرب الأهلية السورية. وفي إثر السقوط، عمل تنظيم «القاعدة» بكل جدية على إعادة تأسيس الذات كأحد العوامل الفاعلة في بلاد الشام. وتحقيقاً لهكذا غاية، اضطر التنظيم، أفغاني النشأة، إلى محاولة التغلب على الكثير من الانتكاسات التي واجهته في الطريق والمتعلقة بوحدة صفوف التنظيم وتماسك عناصره. وكان التواجد الأول لتنظيم «القاعدة» في سوريا، كما هو معتاد، عبر أحد فروعه هناك والمعروف باسم «جبهة النصرة»، أو ما كان يُعرف بفرع «داعش في بلاد الشام» سابقاً. وفي منتصف عام 2016، أعادت «جبهة النصرة» تسمية نفسها بمسمى «جبهة فتح الشام»، ثم أعلنت توحيد صفوفها مع جماعات إرهابية منشقة أخرى لتعلن لاحقاً تشكيل تنظيم «هيئة تحرير الشام»، وهي تنظيم إرهابي شامل اعتمد منذ البداية النأي بنفسه وخلق مسافة فاصلة يزداد اتساعها بينه وبين تنظيم «القاعدة».
واعتباراً من منتصف عام 2018، لم يكن لدى تنظيم «القاعدة» أي أذرع أو فروع رسمية داخل سوريا، غير أنه لا يزال يحظى بولاء بعض من أبرز المتطرفين المتواجدين هناك. وأعلنت بعض العناصر الموالية لتنظيم «القاعدة» في عام 2018 عن تشكيل جماعة جديدة أخرى تحمل مسمى «تنظيم حراس الدين». وفي حين التزام «هيئة تحرير الشام» بالتركيز على الأحداث الجارية في سوريا، كان «تنظيم حراس الدين» يضم قدامى محاربي تنظيم «القاعدة» ممن قد يسعون إلى استغلال سوريا كقاعدة انطلاق لشن هجمات إرهابية فائقة المستوى ضد الغرب. ويعد هذا الموقف المتخذ من قبل «تنظيم حراس الدين» انحرافاً واضحاً عن مسار تركيز تنظيم «القاعدة» في الآونة الأخيرة على استمالة تأييد القاعدة الشعبية من المتطرفين داخل سوريا؛ الأمر الذي إن أتى ثماره المنتظرة، فسوف يرجع بتداعيات كبيرة على عودة التنظيم الأم إلى مجده السابق في عالم التطرف والإرهاب. وكانت عملية إعادة التسمية من جانب عناصر تنظيم «القاعدة» في سوريا ضرورية بصفة جزئية غير أنها كانت خطوة مهمة ذات طبيعة استراتيجية كذلك. ومن وجهة النظر البراغماتية البحتة، خدمت عمليات إعادة التسمية تلك في إنشاء مسافة واضحة المعالم ما بين تنظيم «القاعدة» (الأم) وبين مجموعة من الجماعات المقلدة والمنافسة على الجانب الآخر من الطيف المتشدد.
ولم تختلف الزاوية الاستراتيجية لعملية إعادة التسمية كثيراً عن استعانة شركة من الشركات بأدوات العلاقات العامة والتسويق التجاري لإعادة طرح الصورة أو ارتداء ثوب جديد؛ إذ يحاول تنظيم «القاعدة» في الآونة الراهنة طرح نفسه بديلاً أكثر «اعتدالاً» عن تنظيم «داعش». وسوّق الأخير علامته التجارية على صعيد الجهاد العالمي استناداً إلى فكرة مسمى الخلافة المزعومة والتزام التنظيم خط أعمال العنف المفرطة، في حين سعى تنظيم «القاعدة» إلى تصوير نفسه تنظيماً أكثر تكيفاً مع التغيرات وأكثر حنكة في التخطيط الاستراتيجي، ويملك الفرص السانحة الكبيرة ذات الجاذبية المؤثرة المساهمة في إنجاح مساعيه في المستقبل.
ورغم أن عمليات إعادة التسمية تعتبر من قبيل المخاتلة والمخادعة التي تستعين بها جماعات التطرف والإرهاب في نظر الكثيرين من علماء وخبراء مكافحة الإرهاب، فإنها قد تنجح في إعادة طرح صورة تنظيم «القاعدة» في الداخل السوري. وعلى هذا النحو، وفي حين أن مجرد ظهور وصعود تنظيم «داعش» الإرهابي اعتبر تهديداً وجودياً لتنظيم «القاعدة» عند مرحلة من المراحل، إلا أنه قد أتاح الفرصة لـ«القاعدة» لمعاودة الظهور على مسرح الأحداث. كان قرار تنظيم «القاعدة» المدروس يدور حول النأي بالنفس تماماً عن التنظيمات المتفرعة عن مداره لإفساح المجال أمام تصوير نفسه الحائز القوة الشرعية، والمقدرة، والاستقلال ضمن مجريات الحرب الأهلية السورية المستمرة. ومن الأهداف الأخرى المتصورة لتنظيم «القاعدة» كان إثبات أن مقاتلي التنظيم كرّسوا حياتهم وجهدهم لمعاونة السوريين على الانتصار في حربهم ونضالهم. وأخيراً، من شأن ذلك أن يمنح قيادة «القاعدة» الرئيسي قدراً يسيراً من الإنكار المعقول الذي يمهد الطريق لحلفائه السابقين للتأهل للحصول على المساعدات العسكرية من عدد من البلدان الخارجية المعنية.
الآن، وبعد سقوط خلافة تنظيم «داعش» المزعومة في العراق وسوريا، ربما يعاود تنظيم «القاعدة» الظهور على اعتباره الجماعة الوحيدة ذات الإمكانات العسكرية القادرة على الوقوف في وجه بشار الأسد وتحدي قبضته الحديدية على السلطة في البلاد، على الرغم من أن ذلك يبدو من الآمال بعيدة المنال على اعتبار مجريات الأحداث وتطوراتها منذ منتصف عام 2018 وحتى الآن. ومن شأن تنظيم «القاعدة» إثبات أنه يمثل التهديد طويل الأجل على الأمن والاستقرار في الداخل السوري، ويرجع ذلك في مقامه الأول إلى قاعدة التأييد الشعبي وجاذبيته التي لا يزال يحظى بها على الصعيد المحلي. وعلى النقيض من تنظيم «داعش»، يُنظر إلى تنظيم «القاعدة» من واقع أنه الكيان المتأهب للعمل مع السكان المحليين من حيث امتلاكه الموارد اللازمة لتوفير بعض، وليس كل، مظاهر الحكم هناك. وعلى المدى البعيد، يمكن لتنظيم «القاعدة» التحول إلى ما يشبه تنظيم «حزب الله» اللبناني الشيعي – الكيان العنيف غير الحكومي في الداخل اللبناني – الذي تمكن من تعزيز شرعية تواجده سياسياً مع المحافظة في الوقت نفسه على قدرات شن أعمال العنف والإرهاب واسعة النطاق كلما اقتضت الظروف.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟