«داعش» و«القاعدة» ومستقبل التطرف

تقدم أحد التنظيمين على صعيد الإرهاب العالمي يؤكد خسارة ملموسة لدى الطرف الآخر

متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح  في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)
متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)
TT

«داعش» و«القاعدة» ومستقبل التطرف

متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح  في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)
متطوع أفغاني يقف في حراسة خارج أحد المساجد خلال مراسم تأبين ضحايا تفجير قاعة أفراح في العاصمة كابل أدى إلى مقتل العشرات في تفجير انتحاري نهاية شهر أغسطس (أ.ب)

أسفرت تداعيات الانقسام ما بين تنظيم «داعش» وتنظيم «القاعدة» الإرهابيين عن نشوء منافسة وصفت بالمحتدمة، وأحياناً بالمصيرية تلك التي عدها الطرفان منابذة صفرية النتائج من حيث طبيعتها القاسية؛ إذ يشير تقدم أحد التنظيمين على صعيد الإرهاب العالمي إلى خسارة أكيدة لدى الطرف الآخر.
كانت الآيديولوجية المتماثلة والأهداف المتناظرة لكلا التنظيمين من أحد المحركات الأساسية لاحتدام المنافسة البينية على صعيد الإرهاب الدولي. إذ لجأ تنظيم «داعش» إلى اعتماد مستويات مفرطة من أعمال العنف بغية التفرد وتمييز الذات عن منافسيه من جماعات وتنظيمات الإرهاب الأخرى، بما في ذلك تنظيم «القاعدة» نفسه. وتبذل كلتا الجماعتين جهود تجنيد الأتباع من داخل الأوساط المتطرفة نفسها، وبسط التأثير والنفوذ بكل الوسائل الممكنة لاستمالة أكبر عدد من الأنصار. وتكمن الاختلافات الرئيسية الواضحة ما بين التنظيمين في أن «داعش» سعى سعياً حثيثاً لإقامة الخلافة الموهومة عبر خط زمني اعتبره تنظيم «القاعدة» سابقاً لأوانه بكثير، كما اعتمد تنظيم «داعش» لنفسه أجندة أعمال اتسمت بنزعة طائفية عميقة في معرض محاولاته لتحقيق أهدافه المنشودة بأي وسيلة كانت. وما إذا كان لهذه الاختلافات أن تنزوي، بصرف النظر عن كيفية ذلك، فسوف يكون لها تداعيات كبيرة ومؤثرة على مستقبل الحركة الجهادية العالمية بنطاقها الواسع.

مخاوف من الاقتتال الداخلي

وقع الانقسام المذكور أول الأمر على مستوى الأنساق القيادية العليا لهذه التنظيمات الإرهابية، ومن ثم فإن أحد التساؤلات المهمة المطروحة يقول: إلى أي مدى يعبأ قادة الخلايا الوسطى وجنود المستويات الدنيا من هذه التنظيمات بشأن الاقتتال الداخلي والنزاعات الاستراتيجية السالفة؟ وبالنسبة إلى بعض المقاتلين من هذه المستويات غير القيادية، هناك خط موازٍ واضح يربط بين حالات الاقتتال والتنافس الداخلي وبين مجريات الصراع البينية داخل عصابات الشوارع والتنظيمات الإجرامية، حيث تقوم بعض العصابات بتمييز نفسها عن طريق تحديد بعض الألوان المميزة لملابسهم، مع التهوين المستمر من شأن الخصوم عبر نشر مختلف مقاطع الفيديو على شبكة الإنترنت بهدف السخرية والاستهزاء، وربما تهديد، العصابات المنافسة.
وحازت منصات التواصل الاجتماعي على نصيب الأسد من مجريات وفعاليات الفتن بين تلك الجماعات، حيث يواصل القادة من كل جانب كيل الاتهامات وإلقاء التبعات وتوجيه اللوم على الجانب الآخر ووصمهم بـ«المسلمين العصاة»، بحسب تقرير عن مستقبل التشدد الأصولي في مجلة «ناشيونال إنترست» الأميركية.

رصاصات التوبيخ والتأنيب

وانطلقت أولى رصاصات التوبيخ والتأنيب من جانب أيمن الظواهري، الزعيم الحالي لتنظيم «القاعدة» الإرهابي، الذي أسهب في ملامة تنظيم «داعش» متهماً إياهم بالمروق والانحراف عن آيديولوجية ومنهجية «القاعدة»، التنظيم الأم كما أشير إليه.
وحقيقة الأمر، أن العلاقة بين التنظيمين الإرهابيين الكبيرين كان محكوماً عليها بالانقسام والتشرذم منذ البادرة الأولى. فالجماعة التي تشكلت في خاتمة المطاف فيما بات يُعرف بتنظيم ما يسمى «داعش» في العراق والشام، اختصاراً «داعش»، كانت تحمل منذ البداية عناصر ومكونات الجماعة المارقة، تلك التي شكّلها وأشرف على ترتيب أوراقها رجل «القاعدة» الأسبق في العراق - الأردني أبو مصعب الزرقاوي، الذي قاتل أشرس قتال يمكن وصفه بُغية المحافظة على انفصال ثم استقلال جماعته عن الجماعة الأم. وحتى بعد إعلانه الولاء وتعهده بالانتماء إلى أسامة بن لادن، الزعيم الأول لتنظيم «القاعدة» في أفغانستان، ظل الزرقاوي يتعمد تجاهل، وربما التلاعب، بالتوجيهات الصادرة إليه عن القيادة المركزية لتنظيم «القاعدة» متابعاً بدلاً من ذلك أجندته الطائفية الصارمة ذات الصبغة «الانفصالية» عن التنظيم الأم على أمل إشعال نيران حرب أهلية مستعرة بين السنّة والشيعة أولاً داخل العراق تلك التي يمتد شررها المستطير لاحقاً إلى أرجاء العالم الإسلامي الواسع كافة.
ومن الخطوات الأولى المتخذة من جانب تنظيم «القاعدة» على سبيل تقديم نفسه بصفته تنظيماً «متشدداً» أكثر نزاهة في الأساليب وأعمق إنصافاً في الغايات والمقاصد كان عبر التنديد الشديد بالنزعة الطائفية الفجة والصارخة المعتمدة من قبل تنظيم «داعش» مع العمل على إقناع رجال «القاعدة» في العراق على نبذ الطائفية ووأد فتنتها في مهدها على اعتباره من المبادئ التوجيهية الأساسية لأعمال التنظيم هناك. وخطّ الظواهري، في يوليو (تموز) من عام 2005، رسالة موجهة إلى الزرقاوي، زعيم تنظيم «القاعدة» في العراق، يأخذ عليه فيها أعمال العنف المفرطة من جانب رجاله وذبحهم غير المميز لعناصر الشيعة في العراق، مشدداً على التداعيات السلبية العميقة لمثل هذه التصرفات على صورة «القاعدة»، مع حضه على تجنب استهداف المسلمين الآخرين هناك. لكن عندما بلغت الزرقاوي رسالة أميره من أفغانستان، ما كان منه إلا أنه تجاهل فحواها وتغافل عن مقصدها مواصلاً تعزيز سمعة تنظيم «القاعدة» في العراق على اعتباره جماعة متطرفة ذات أقدام صلبة وقلب لا يعرف الرحمة بات العنف في حد ذاته مقصدها المنشود ناهيكم عن كونه وسيلة من وسائلها.
لذا؛ وفي حين أن التصدع المبدئي بين التنظيمين قد بدأ يتخذ طريقه نحو العمق في العراق خلال النصف الأول من القرن العشرين، إلا أنه تطور إلى ما يشبه الصراع الداخلي في السنوات الأولى من الحرب الأهلية السورية. وفي إثر السقوط، عمل تنظيم «القاعدة» بكل جدية على إعادة تأسيس الذات كأحد العوامل الفاعلة في بلاد الشام. وتحقيقاً لهكذا غاية، اضطر التنظيم، أفغاني النشأة، إلى محاولة التغلب على الكثير من الانتكاسات التي واجهته في الطريق والمتعلقة بوحدة صفوف التنظيم وتماسك عناصره. وكان التواجد الأول لتنظيم «القاعدة» في سوريا، كما هو معتاد، عبر أحد فروعه هناك والمعروف باسم «جبهة النصرة»، أو ما كان يُعرف بفرع «داعش في بلاد الشام» سابقاً. وفي منتصف عام 2016، أعادت «جبهة النصرة» تسمية نفسها بمسمى «جبهة فتح الشام»، ثم أعلنت توحيد صفوفها مع جماعات إرهابية منشقة أخرى لتعلن لاحقاً تشكيل تنظيم «هيئة تحرير الشام»، وهي تنظيم إرهابي شامل اعتمد منذ البداية النأي بنفسه وخلق مسافة فاصلة يزداد اتساعها بينه وبين تنظيم «القاعدة».
واعتباراً من منتصف عام 2018، لم يكن لدى تنظيم «القاعدة» أي أذرع أو فروع رسمية داخل سوريا، غير أنه لا يزال يحظى بولاء بعض من أبرز المتطرفين المتواجدين هناك. وأعلنت بعض العناصر الموالية لتنظيم «القاعدة» في عام 2018 عن تشكيل جماعة جديدة أخرى تحمل مسمى «تنظيم حراس الدين». وفي حين التزام «هيئة تحرير الشام» بالتركيز على الأحداث الجارية في سوريا، كان «تنظيم حراس الدين» يضم قدامى محاربي تنظيم «القاعدة» ممن قد يسعون إلى استغلال سوريا كقاعدة انطلاق لشن هجمات إرهابية فائقة المستوى ضد الغرب. ويعد هذا الموقف المتخذ من قبل «تنظيم حراس الدين» انحرافاً واضحاً عن مسار تركيز تنظيم «القاعدة» في الآونة الأخيرة على استمالة تأييد القاعدة الشعبية من المتطرفين داخل سوريا؛ الأمر الذي إن أتى ثماره المنتظرة، فسوف يرجع بتداعيات كبيرة على عودة التنظيم الأم إلى مجده السابق في عالم التطرف والإرهاب. وكانت عملية إعادة التسمية من جانب عناصر تنظيم «القاعدة» في سوريا ضرورية بصفة جزئية غير أنها كانت خطوة مهمة ذات طبيعة استراتيجية كذلك. ومن وجهة النظر البراغماتية البحتة، خدمت عمليات إعادة التسمية تلك في إنشاء مسافة واضحة المعالم ما بين تنظيم «القاعدة» (الأم) وبين مجموعة من الجماعات المقلدة والمنافسة على الجانب الآخر من الطيف المتشدد.
ولم تختلف الزاوية الاستراتيجية لعملية إعادة التسمية كثيراً عن استعانة شركة من الشركات بأدوات العلاقات العامة والتسويق التجاري لإعادة طرح الصورة أو ارتداء ثوب جديد؛ إذ يحاول تنظيم «القاعدة» في الآونة الراهنة طرح نفسه بديلاً أكثر «اعتدالاً» عن تنظيم «داعش». وسوّق الأخير علامته التجارية على صعيد الجهاد العالمي استناداً إلى فكرة مسمى الخلافة المزعومة والتزام التنظيم خط أعمال العنف المفرطة، في حين سعى تنظيم «القاعدة» إلى تصوير نفسه تنظيماً أكثر تكيفاً مع التغيرات وأكثر حنكة في التخطيط الاستراتيجي، ويملك الفرص السانحة الكبيرة ذات الجاذبية المؤثرة المساهمة في إنجاح مساعيه في المستقبل.
ورغم أن عمليات إعادة التسمية تعتبر من قبيل المخاتلة والمخادعة التي تستعين بها جماعات التطرف والإرهاب في نظر الكثيرين من علماء وخبراء مكافحة الإرهاب، فإنها قد تنجح في إعادة طرح صورة تنظيم «القاعدة» في الداخل السوري. وعلى هذا النحو، وفي حين أن مجرد ظهور وصعود تنظيم «داعش» الإرهابي اعتبر تهديداً وجودياً لتنظيم «القاعدة» عند مرحلة من المراحل، إلا أنه قد أتاح الفرصة لـ«القاعدة» لمعاودة الظهور على مسرح الأحداث. كان قرار تنظيم «القاعدة» المدروس يدور حول النأي بالنفس تماماً عن التنظيمات المتفرعة عن مداره لإفساح المجال أمام تصوير نفسه الحائز القوة الشرعية، والمقدرة، والاستقلال ضمن مجريات الحرب الأهلية السورية المستمرة. ومن الأهداف الأخرى المتصورة لتنظيم «القاعدة» كان إثبات أن مقاتلي التنظيم كرّسوا حياتهم وجهدهم لمعاونة السوريين على الانتصار في حربهم ونضالهم. وأخيراً، من شأن ذلك أن يمنح قيادة «القاعدة» الرئيسي قدراً يسيراً من الإنكار المعقول الذي يمهد الطريق لحلفائه السابقين للتأهل للحصول على المساعدات العسكرية من عدد من البلدان الخارجية المعنية.
الآن، وبعد سقوط خلافة تنظيم «داعش» المزعومة في العراق وسوريا، ربما يعاود تنظيم «القاعدة» الظهور على اعتباره الجماعة الوحيدة ذات الإمكانات العسكرية القادرة على الوقوف في وجه بشار الأسد وتحدي قبضته الحديدية على السلطة في البلاد، على الرغم من أن ذلك يبدو من الآمال بعيدة المنال على اعتبار مجريات الأحداث وتطوراتها منذ منتصف عام 2018 وحتى الآن. ومن شأن تنظيم «القاعدة» إثبات أنه يمثل التهديد طويل الأجل على الأمن والاستقرار في الداخل السوري، ويرجع ذلك في مقامه الأول إلى قاعدة التأييد الشعبي وجاذبيته التي لا يزال يحظى بها على الصعيد المحلي. وعلى النقيض من تنظيم «داعش»، يُنظر إلى تنظيم «القاعدة» من واقع أنه الكيان المتأهب للعمل مع السكان المحليين من حيث امتلاكه الموارد اللازمة لتوفير بعض، وليس كل، مظاهر الحكم هناك. وعلى المدى البعيد، يمكن لتنظيم «القاعدة» التحول إلى ما يشبه تنظيم «حزب الله» اللبناني الشيعي – الكيان العنيف غير الحكومي في الداخل اللبناني – الذي تمكن من تعزيز شرعية تواجده سياسياً مع المحافظة في الوقت نفسه على قدرات شن أعمال العنف والإرهاب واسعة النطاق كلما اقتضت الظروف.


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.