ماذا يمكن أن يتبقى من «ألف ليلة وليلة» إذا حذفنا السفر من متنها؟

من دون الارتحال يسقط العجائبي وتموت الحكمة

ماذا يمكن أن يتبقى من «ألف ليلة وليلة» إذا حذفنا السفر من متنها؟
TT

ماذا يمكن أن يتبقى من «ألف ليلة وليلة» إذا حذفنا السفر من متنها؟

ماذا يمكن أن يتبقى من «ألف ليلة وليلة» إذا حذفنا السفر من متنها؟

منذ ما لم أعد أتذكر من السنين، كنت أرى في قريتي شيوخاً، تقتصر حركتهم اليومية على بضع خطوات محفوظة، يمشيها المبصر ويمشيها الأعمى بأمان وروية.
كانوا يخرجون من دورهم، يجلسون أمام المسجد. ومع كل نداء للصلاة يدخلون لأداء الفرض، ثم يعودون إلى جلستهم، صامتين معظم الوقت، يتنقلون مع الظل حتى آذان الصلاة التالية، ثم يعودون إلى دورهم بعد الِعشاء؛ آخر صلوات اليوم.
لا يتغير هذا الروتين، إلى أن يسحب الموت أحدهم فيمشون في جنازته دون أسى، ويعودون إلى جلستهم التي سرعان ما يترقى إليها شخص جديد اكتشف أنه صار مُسناً، لأنه لم يعد يقدر على مواصلة العمل الزراعي الأكثر مشقة من أعمال السجناء.
ربما يسافر أحدهم في مناسبات محدودة إلى المدينة القريبة، عادة «المركز الإداري» لتسجيل قطعة أرض جديدة، أو مصاحباً لمريض إلى عيادة طبيب. ولأنهم أميون، فإنهم لم يسافروا في كتاب، باستثناء القرآن الكريم الذي يستمعون إلى تلاوته ويحفظ كل منهم فاتحته وبعض آياته للصلاة.
للمرأة، في هذه البيئة الضيقة، الرتابة ذاتها، باستثناء بعض الحيوية التي تضفيها المشعوذات وضاربات الرمل اللائي يزرن القرية بين حين وحين، ويُعدُّ الاتصال بهن حكراً على النساء.
كنت أفكر؛ بعطف في أولئك الرجال وتلك النساء، وبخوف على مصيري: ما معنى الثمانين عاماً التي يعيشها إنسان في مكان واحد، تمضي فيه وقائع أيامه بتطابق مطلق بين اليوم والذي يليه؟
من لا يُغير مكانه لن يعرف في حياته، مهما طالت، إلا القليل الذي يمكن أن يدهشه، ولن تكون حياته تلك مصدر دهشة لأحد إلا إذا قام بانقلاب جنوني، كأن يرتكب جريمة شنعاء أو يكون ضحية لجريمة.
ومن الصعب على من لا يسافر أن يُغيِّر الصورة المرسومة له سلفاً. لذلك كان لا بد لكل نبي من هجرة.
الطبيب المعالج يأتي من البعيد، بعد أن يعجز أطباء المملكة؛ فالبعيد موطن الحكمة. وهو موطن الغرائبي كذلك. لا يمكن أن نصدق أن بساطاً يطير أو عفريتاً يأتي في هيئة طائر يحمل البطل على جناحه أو بين مخالبه إلا أن يكون في مكان بعيد لا يبلغه مستمع أو قارئ الحكاية.
لنفكر: ماذا يمكن أن يتبقى من ألف ليلة وليلة إذا حذفنا السفر من متنها؟
تبدأ القصة الإطار بملك يطلع على خيانة زوجته، ولو قتلها أو طلَّقها لانتهت الليالي قبل أن تبدأ. لكن شاه زمان المفجوع في زوجته يترك مملكته ويسافر إلى أخيه، فيكتشف أن شقيقه ضحية المأساة ذاتها. يترك الأخوان مُلكيهما ويسيحان في الآفاق، فتتأكد عداوتهما للمرأة عندما صادفا امرأة تجبرهما على الاضطجاع معها، لتكمل بهما رقم مائة من رجال خانت معهم الجني الغيور بمجرد أن غفا، لمجرد أنه تركها لحظات خارج الصندوق ثقيل الأقفال الذي يحبسها فيه.
أن يكون العفريت بقدراته الأسطورية ضحية للخيانة؛ فهذا يقلل من فجيعتهما في الزوجتين، ويصلح لأن يكون موعظة «لو كُتبت بالإبر على آماق البشر لكانت عبرة لمن يعتبر». وبدا أن الأخ الكبير اقتنع بالموعظة، لأنه خرج من متن الليالي. ولن نعرف عنه شيئاً حتى الصفحات الأخيرة فنكتشف أنه ـ دون اتفاق مع أخيه ـ مارس السلوك الوحشي نفسه: الاستمتاع بامرأة كل ليلة وقتلها في الصباح!
توقف شهريار عن القتل لأنه كان محظوظاً بامرأة ذكية سافرت به في حكاياتها ليلة بعد ليلة لتريه المزيد من العبر وتسيح به في آفاق لم يرها.
استبدلت شهرزاد عذرية الأماكن بعذرية البنات، لترضي شهوته للافتضاض. وبعد سنوات ثلاث من الترحال في الحكايات، كانت قد استأنسته تماماً وأنجبت منه، وقرر الزواج منها، ودعا أخاه لحضور حفل عرسه؛ فإذا بنا نكتشف أن فاجعة الدم تواصلت في المملكة الأخرى!
لم يجد شاه زمان شهرزاداً أخرى تردعه عن القتل، وعاش السنوات الثلاث يمارس الوحشية التي مارسها شهريار في البداية. لكنه استقبل خبر زواج أخيه بسرور، وقرر الاقتران بدنيا زاد الصامتة التي لم تفارق مكمنها تحت سرير أختها طيلة السنوات الثلاث.
أنقذت شهرزاد بسفرها في الحكايات رجلين لا رجلاً واحداً من شهوة الدم. وتنازل شاه زمان عن مُلكه، مُفضلاً عليه البقاء لدى شقيقه، وتنتهي الليالي بصحبة الأخين والأختين، لم يفرق بينهم سوى هادم اللذات.
لو كان خروج شاه زمان المبكر من الليالي نهائياً، وظلت حياته مجهولة بالنسبة لنا لاعتبرنا انقطاع خطه سهواً من المؤلفين المجهولين، لكن عودته تعني أن حياة الإقامة غير جديرة بأن تُحكى، رغم الدراما العالية التي ينطوي عليها جز رقبة فتاة كل يوم.
يمكننا باطمئنان أن نعتبر ألف ليلة كتاباً في السفر. من دون الرحلة يسقط العجائبي؛ العمود الفقري لليالي. لهذا انحاز السرد في الليالي إلى الارتحال من قمة جبل إلى قاع بحر ومن حواري دمشق إلى جزائر الهند.
وتيمناً بالليالي، يظل السفر هو روح السرد في كل زمان، يمده بالدهشة، ويمهد للانطلاقات الكبرى في الحكاية من «دون كيخوتة» إلى «موبي ديك» إلى «مدن لا مرئية» لهذا يحب الروائيون السفر، باستثناءات نادرة بينها نجيب محفوظ، وأبطاله مثله لا يسافرون، وإذا سافروا فإننا نعرف بسفرهم أو بعودتهم كخبر في جملة.
«جلال ذو الجلالة» الفتوة الوحيد من سلالة عاشور الناجي الذي فتنته رغبة الخلود لم يسافر بحثاً عن عشبة تعفيه من الموت، لكنه استعاض عن ذلك بتغييب الشهود كي تحدث المعجزة، اعتكف حسب وصفة الدجال في غرفة مظلمة لمدة عام.
هذا الاعتكاف هو السفر الذي يناسب مخيلة كاتب مقيم. وكان في هذا الاختفاء الغامض ما يكفي من الفتنة لسكان الحارة؛ لأنهم عدوه سفراً. في اعتقادهم لا يمكن لأحد أن يبقى ساكناً طوال العام في ظلام غرفته؛ لا بد أنه قام بأسفار لا يعرفون طبيعتها خلال هذه الغيبة، ولا بد أنه عاد منها ليخلُد، وهو ما جعله مهاباً أكثر من أي فتوة آخر.
بسبب إجهاد الذاكرة، تصورت لسنوات طويلة أن حلم الكتابة كان حلمي الوحيد. نسيت أنني حلمت مبكراً جداً بالسفر، حتى التقيت في ميلانو بصديق طفولة يقيم بتلك المدينة الشمالية الإيطالية، دون أن أجرؤ على القول «يعيش هناك» فالإقامة غير العيش تماماً. لم يسافر إلا للضرورة. ولم ينسَ ذلك. كان يريد الستر الذي يجلبه العمل في الخارج، ولم يكن باحثاً عن المتعة، ولا عن مضاعفة العمر الذي يبتغيه الناس من السفر.
أبهجني لقاء صديق الصبا، وأدهشني صفاء ذاكرته، عندما سألني بغتة: «هل تتذكر حلمك بالعيش في الريف الإنجليزي؟».
ومضى السؤال كبرق أضاء منطقة معتمة في الذاكرة؛ وتذكرت فرحتي عندما تلقيت في البريد مجلة من القسم العربي للإذاعة البريطانية، فرحة لم تتكرر بتلقي شيء مطبوع بعد ذلك أبداً، لا عندما رأيت توقيعي للمرة الأولى في جريدة، ولا عندما تلقيت النسخة الأولى من أول كتبي.
قرأت في تلك المجلة أشياءً عن بريطانيا، لكن الذي سلب خيالي كان العشب الأخضر الزاهي الممتد بين بيوت أنيقة متناثرة بأسطح هرمية من القرميد ومداخن قصيرة. كانت الألوان مبهجة، وبدت لي حياة الريف الإنجليزي ناعمة ومصقولة كورق تلك المجلة. ومن حسن حظي أنني لم أرَ الريف الإنجليزي حتى الآن، ولا يبدو أنني سأسعى يوماً لزيارته حتى لا أجرح صورة الجنة التي حلمت بها!
طفلٌ في قرية مصرية يحلم بمكان بعيد، لم يحلم بمدينة، بل بريفٍ آخر بعيدٍ جداً؟
هل كانت المدينة شيئاً يتجاوز أحلامي؟ هل كان العالم بالنسبة لي مجرد ريف متعدد الأشكال؟ لا أذكر، حتى، هل المجلة هي التي خلقت حلمي، أم أنه كان موجوداً وأنه هو الذي دفعني إلى مراسلة الإذاعة بطلب المجلة لتعزيزه وتأكيده.
معرفة منطلقات حلمي ليست مهمة بذاتها، كما أن حلمي بالعيش في الريف الإنجليزي قد لا يراود الكثير من البشر، وما كنت لأرويه إلا لافتراضي أن الشوق إلى لقاء المختلف والمدهش الذي انطوى عليه حلمي يتطابق مع أحلام ملايين البشر.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.