ضغوط النخبة السياسية تؤجج «ثورة غضب» بين جنرالات تركيا

TT

ضغوط النخبة السياسية تؤجج «ثورة غضب» بين جنرالات تركيا

تعيش الصفوف العليا في الجيش التركي، لا سيما طبقة الجنرالات، ما يشبه «ثورة غضب صامتة»، انعكست جلياً في استقالة 5 جنرالات، احتجاجاً على قرارات مجلس الشورى العسكري الأخيرة، الذي عقد برئاسة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، مطلع أغسطس (آب) الماضي.
التغييرات التي أقرت في مجلس الشورى العسكري، الخميس الماضي، بعد مصادقة إردوغان عليها، كونه رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة، شملت تعيينات جديدة في قيادة قوات الجيش، منها 75 قائداً بالقوات البرية، و25 بالبحرية، و27 بالجوية، حسبما جاء في مرسوم نشر في الجريدة الرسمية. ومن أبرز القرارات الجديدة، تعيين اللواء عمر أرطغرل أربكان قائداً للقوات الخاصة، وقائد قيادة التعليم والتدريب في القوات البرية الفريق الأول شرف أونجاي، قائداً للجيش الثالث. كما شملت القرارات تعيين رئيس أركان القوات البرية ياووز تورك جنجي قائداً للتدريب والتعليم في القوات البرية، وقائد الفيلق الرابع علي سيفري قائداً للجيش في بحر إيجة، والفريق سنان يايلا في منصب قائد الجيش الثاني. لكن المعارضة اعتبرت أن هذه التعيينات جاءت كحلقة جديدة في إطار محاولات إردوغان تفريغ الجيش من معارضي سياساته، وإعادة تشكيله بعناصر موالية لحزب «العدالة والتنمية» الحاكم، وذلك من خلال استبدال وجوه جديدة تدين له بالولاء بالقادة القدامى، موضحة أن التعيينات الأخيرة تشكل «امتداداً لسياسة تفريغ الجيش»، التي انطلقت عقب محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في 15 من يوليو (تموز) 2016، والتي نسبتها السلطات إلى حركة «الخدمة» التابعة للداعية فتح الله غولن، الحليف الوثيق السابق للرئيس إردوغان وحزبه، التي تصفها المعارضة بأنها كانت «عملية مدبرة» الهدف منها تصفية الجيش ومؤسسات الدولة من معارضي إردوغان.
ونشرت وسائل إعلام تركية تقارير دبلوماسية غربية، تشير إلى أن «المناخ العام في القوات المسلحة التركية تغير بعد محاولة الانقلاب، إذ لم يعد الضباط يشعرون بالأمان لدى مناقشة أي موضوعات علناً، واختفت الثقة النسبية داخل الجيش. أما الجنرالات، على وجه الخصوص، فيعتقدون أنهم أصبحوا فريسة سهلة للطبقة السياسية». وحسب هذه التقارير، يحتمل أن السخط على هذه الحالة كان سبباً في استقالة خمسة جنرالات الأسبوع الماضي.
من جانبه، عبر الأميرال المتقاعد توركر أرتورك، في تصريحات مماثلة، عن انتقادات للسياسة التركية، خصوصاً تجاه سوريا، مرجعاً استقالة الجنرالات إلى «خيبة الأمل» لدى القوات المسلحة من «النهج السوري» للسلطات التركية.
ويعتقد كثير من المراقبين أن الحالة السائدة لدى قطاع عريض من جنرالات الجيش حالياً هي أن النخبة الحاكمة تفرض إرادتها على الجيش، وترغمه على خوض مخاطر غير مرغوب فيها، كما أنهم لا يفهمون بشكل واضح ما تريده تركيا، وما يمكنها تحقيقه بالفعل في سوريا. كما انتقدت أوساط عسكرية قرارات مجلس الشورى العسكري الأخيرة، وقالت حسب صحيفة «جمهوريت» إن الترقيات والتعيينات الأخيرة في صفوف الجيش لم تراع معياري الكفاءة أو الأقدمية.
في سياق ذلك، تصاعدت الانتقادات الغربية لتركيا بسبب تعيين أشخاص ذوي كفاءات محدودة في مناصب أمنية عليا وحساسة، لا سيما أولئك الذين يشرفون على شؤون الأمن القومي، ومكافحة الإرهاب، باعتماد معيار رئيس هو الولاء للقيادة العليا. وقد أقر وزير الدفاع خلوصي أكار، بطرد أكثر من 17 ألفاً من قيادات وضباط الجيش التركي بذريعة ارتباطهم بحركة غولن، التي صنفتها السلطات «منظمة إرهابية».
وفي مارس (آذار) الماضي، كشف وزير الداخلية التركي سليمان صويلو، عن توقيف 511 ألف شخص، اعتقل منهم 30 ألفاً و821 شخصاً في إطار العمليات، التي استهدفت حركة غولن و«حزب العمال الكردستاني» منذ المحاولة الانقلابية. وفي يناير (كانون الثاني) الماضي أيضاً، أعلن صويلو أن عدد المعتقلين عام 2018 بلغ 750 ألفاً و239 شخصاً، بينهم أكثر من 52 ألفاً بشبهة الانتماء إلى غولن، منهم قادة وضباط وجنود بالقوات المسلحة.
على صعيد غير متصل، زار عمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو، مدينة ديار بكر (جنوب شرق)، أمس، دعماً لعمدة المدينة السابق، الذي تمت إقالته بسبب ما يزعم من علاقته بالإرهاب، وحل محله حاكم عينه الرئيس رجب طيب إردوغان. وقال إمام أوغلو، في تصريحات نقلتها وسائل إعلام محلية، من بينها صحيفتا «جمهورييت» و«سوزجو»، إنه «يتعين أن نقف ضد الظلم، وعدم الشرعية بغض النظر عمن يتضرر».
كان عمدة المدينة عدنان سلجوق ميزراكلي، من «حزب الشعوب الديمقراطي»، ورئيس بلدية ماردين أحمد تورك، ورئيسة بلدية فان، بديعة أوزجوكتشي أرتان، قد تمت إقالتهم من مناصبهم يوم الاثنين الماضي، بسبب ما يزعم من صلاتهم بـ«حزب العمال الكردستاني» المحظور. وحل محل الثلاثة، الذين حلوا في الصدارة خلال انتخابات 31 مارس الماضي، حكامٌ إقليميون عينهم إردوغان، رئيس حزب «العدالة والتنمية».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟