خفوت صوت الناقد الأدبي

الأدب أصبح تياراً من تيارات الثقافة في القرن الحادي والعشرين

خفوت صوت الناقد الأدبي
TT

خفوت صوت الناقد الأدبي

خفوت صوت الناقد الأدبي

أنهيتُ قبل أيام قراءة كتاب يمتلك أهميته الخاصة - وإن كان متقادماً بعض الشيء - في النقد الأدبي عنوانه (المرآة والمصباح: النظرية الرومانتيكية والتقليد النقدي) لمؤلفه البروفسور (ماير إج. أبرامز). وهو أحد إصدارات جامعة أكسفورد البريطانية لعام 1971؛ لكن طبعة الكتاب الأولى ظهرت في عام 1953. وقد دفعني لقراءته التقريظ الرائع الذي كتبه الراحل الدكتور (عبد الوهاب المسيري) بحقّ الكتاب ومؤلفه في سيرته الذاتية الممتعة، ويبدو أنّ هذا الكتاب كان أحد المصادر المرجعية الأساسية لدى كلّ دارسي الأدب في الجامعات الأميركية في خمسينيات القرن الماضي وما بعده كذلك. إنه كتاب مدهش هذا الذي كتبه البروفسور (أبرامز)؛ إذ تناول فيه الموضوعات المطروقة بطريقة مستجدة تذكّرنا ببعض أساطين النقّاد والمنظّرين الأدبيين على شاكلة كتاب «معنى المعنى» لمؤلّفيه الكبيرين (أوغدن وريتشاردز)، وكتاب «تشريح النقد» لمؤلفه (نورثروب فراي)، والكتاب الموسوعي الضخم بأجزائه الستة «تأريخ النقد الحديث» للبروفسور (رينيه ويليك)، وكتاب «سبعة أنماط من الغموض» لمؤلفه (ويليام إمبسون).
لستُ هنا في معرض تقديم خارطة تضاريسية للنقد الأدبي في القرن الحادي والعشرين، وأزعم أننا غادرنا العصر الذي يمكن أن نشهد فيه نظراء لكلّ من (إف.آر. ليفز) أو (رينيه ويليك) أو (فرانك كيرمود) أو (رايموند ويليامز). لماذا آل الحال إلى هذه الكيفية؟ ذلك واحد من الأسئلة الإشكالية التي لطالما تفكّرتُ فيها ملياً وحاولت قدر استطاعتي أن أقف على بعض مسبباتها التي سأوردها هنا:
- الميل المتعاظم لتحطيم المرجعيات: من المعروف أنّ إحدى المثابات الواضحة التي تسِمُ عصرنا هي الميل المتعاظم لتحطيم المرجعيات المهيمنة وإقامة نمط من الأخلاقيات الفردية التي تنفر بطبيعتها من الانشداد لأي مرجعية خارجة عنها واعتبارها نموذجاً معيارياً يتوجب التعامل معه على أساس أنه هو ما يمنح المشروعية الواجبة لأي نسق فكري يجتهد الفرد في تطويره. النقد الأدبي بهذا المنظور هو مرجعية يتمّ على أساسها مباركة العمل الأدبي وإدخاله في حظيرة (المُعْتَمَد الأدبي Literary Canon) ؛ وبالتالي لا بد من توقّع حدوث تهشيم مستديم سيطال هذه الرؤية التي ترى في الناقد الأدبي (الحارس الكهنوتي) الذي آلت إليه وحده مهمّة الحفاظ على نقاوة المنجز الأدبي من التلوّث.
- النقد الأدبي غدا فرعاً من دراسة السياسات الثقافية: يمكن للمدقّق المتفحّص في ثقافة القرن الحادي والعشرين أن يرى نزوعاً لا يفتأ يتعاظم نحو توظيف نظرية الأنساق الشاملة بكيفية مناظرة لما يحصل في كلّ المباحث المعرفية الأخرى (العلمية والإنسانية) وبطريقة ما عاد معها أي مبحث معرفي تقليدي جزيرة قائمة بذاتها بل هو جزء في منظومة دينامية معقدة؛ وعلى أساس هذه الفكرة صار النقد الأدبي مبحثاً فرعياً في نطاق الدراسات الثقافية التي ترى الأدب تياراً من تيارات الثقافة وليس كينونة قائمة بذاتها.
- الجغرافيات المحلية وتأثير العولمة: يرتبط مفهوم الناقد الأدبي الكلاسيكي بالجغرافية المحلية وببواكير نشأة الدولة القومية، ويمكن للقارئ أن يجري مسحاً سريعاً للأسماء النقدية الأدبية الكبيرة التي شاعت في القرن العشرين وسيكتشف أنّ كلاً من تلك الأسماء ارتبطت بجغرافية قومية محدّدة جعلت من تلك الأسماء عناصر تُعلي شأن المكانة القومية وتُمَيّزُها بالمقارنة مع الآداب القومية الأخرى. ليس صعباً أن نتخيّل ما الذي فعله طغيان المدّ العولمي في تهشيم صورة (الناقد الأدبي) الكلاسيكية القريبة من الكهنوت الأدبي؛ فقد انحلّت التخوم الأدبية القومية لصالح مركّب تخليقي عولمي يسعى لتوظيف كلّ التجارب الإنسانية بصرف النظر عن جغرافيتها المحلية، ويُضافُ لهذا الأمر شيوع النقد الثقافي ما بعد الكولونيالي الذي صار فضاء مفتوحاً على كلّ الآداب العالمية. هل نتوقّع بعد هذا أن يظهر لنا ناقد على طراز (إف. آر. ليفز) يصرّح بأن ليس ثمة من شعراء إنجليز سوى ثلاثة: تي. إس. إليوت، وجيرارد مانلي هوبكنز، وو. ب. ييتس؟ هذا المثال الأدبي النقدي المُغالى في رؤيته الفكتورية الضيقة لم يعُد له وجود في عالمنا اليوم بكلّ تأكيد.
- عجرفة الناقد الأدبي: قد يبدو هذا السبب منطوياً على شيء من القسوة المفرطة ؛ لكنه حقيقي ومنظور ويمكننا تلمّس حيثياته وبخاصة في بيئتنا العربية. ظلّ الناقد الأدبي الكلاسيكي موهوماً بمساكنة الأعالي الثقافية المهيمنة على المشهد الثقافي بكامله، وظلّ معتكفاً في صومعته الأكاديمية التي وفّرت له نوعاً من مظلّة حمائية لوقتٍ ما؛ لكنّ الانعطافات الثقافية الثورية التي جاءت في أعقاب مواريث ما بعد الحداثة كانت أقوى من متاريس «كامبردج» أو «أكسفورد» أو سائر المعاقل الأدبية الكلاسيكية الموهومة بالحصانة المنيعة إزاء المتغيرات العاصفة وبخاصة تأثيرات الثورة الرقمية وهي تعيد تشكيل أنساق الخطاب الذي يتوجّه به الناقد إلى عموم القرّاء.
- انحلال الثقافة الأدبية والثقافة العلمية، ونشأة «الثقافة الثالثة»: يبدو أن هذا العنصر هو العنصر الأهمّ الذي دقّ الإسفين القاتل في قلب مفهوم الناقد الأدبي الكلاسيكي؛ وعليه سأعالجه بقدر أكبر من الاستفاضة بالمقارنة مع العناصر السابقة.
إنّ المتابع الحصيف لتأريخ الثقافة والأفكار لن تفوته ملاحظة الانعطافة الثورية التي في مفهوم (الثقافة) بعد أن جلب اللورد (سي. بي. سنو) في محاضرته الكمبردجية ذائعة الصيت عام 1959 النظر إلى الهوة العميقة التي تفصل بين الثقافة العلمية والثقافة الأدبية (وهو ما تشير إليه مفردة «الثقافتان» التي صارت منذ ذلك الحين علامة مميزة ممهورة بتوقيع اللورد سنو)، ثمّ تطوّر الأمر حتى بلغنا عتبة (الثقافة الثالثة) التي صارت هي الأخرى علامة ممهورة بتوقيع الكاتب والمحرّر الأدبي (جون بروكمان).
ليس المقصود بالثقافة الثالثة - كما قد يتبادر إلى ذهن المرء أوّل الأمر - أن تكون تركيباً تخليقياً يجمع الثقافة العلمية مع الأدبية ليخرج منها بخلطة ذات عناصر متوازنة من تينك الثقافتين؛ بل يجادل بروكمان في أطروحته الفكرية بأنّ نموذج المثقف الشكسبيري الذي عُدّ النموذج الأعلى للمثقف الموسوعي حتى خواتيم العصر الفكتوري لم يَعُد صالحاً ليكون النموذج المبتغى في عصر ما بعد الثورة التقنية الثالثة التي نشهد آثارها في حياتنا الحاضرة، ولم تعُد الثقافة تمتلك دلالاتها المرجعية بمقدار التمرّس في الدراسات الإغريقية واللاتينية والآداب الكلاسيكية، وكذلك لم تعد الثقافة دلالة على الانعطافات الثقافية المبتكرة حتى لو تلبّست بمسوح الثورية المتطرفة التي شهدنا آثارها في حركات الحداثة وما بعد الحداثة إلى جانب الحركات الفرعية التي تفرّعت منها أو اعتاشت على نسغها مثل: البنيوية واللسانيات والسيميوطيقا وتحليل الخطاب... إلخ من مفردات السلسلة الطويلة؛ بل صار العلم وعناصره المؤثرة في تشكيل الحياة البشرية وغير البشرية هو العنصر الحاسم في الثقافة الإنسانية بعد أن غادر العلم مملكة الأفكار والرؤى الفردية والآيديولوجيات وصار قوة مرئية على الأرض بفعل مُصنّعاته التي لامست أدقّ تفاصيل الحياة البشرية.
سأضع خاتمة هذا المقال في نطاق هذه المقايسة الإطارية الصارمة: لم يعُد النقد الأدبي اشتغالاً مكتفياً بنطاقه الكلاسيكي المعهود، بل صار عنصراً في نسق مركّب ثقافي شامل عنوانه «الدراسات الثقافية» بعد أن غادر الأدب ذاته مواقعه الحصينة في قارة الأدب التي قرأنا عنها واستطبناها من قبلُ؛ لكنّ تغييراً عاصفاً وشاملاً سينالُ الأدب - فضلاً عن الثقافة ذاتها - في السنوات القليلة المقبلة نحو ثقافة جديدة عنوانها «الثقافة الثالثة» - هذه الثقافة التي ستعيد تشكيل الوجود البشري على كلّ الأصعدة وبخاصة في نطاقين حيويين: التعليم والسياسات الثقافية.
- كاتبة وروائية ومترجمة عراقية مقيمة في الأردن.



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.