موسوليني وهتلر... عداء وتناقض... وعشق

كتاب يروي قصة العلاقة الغريبة بينهما

موسوليني وهتلر... عداء وتناقض... وعشق
TT

موسوليني وهتلر... عداء وتناقض... وعشق

موسوليني وهتلر... عداء وتناقض... وعشق

أسئلة كثيرة طرحها كريستيان غوشيل في كتابه الذي نشرته دار «المدى»: «موسوليني وهتلر... قصة تشكيل الحلف الفاشي»، الذي يتناول العلاقة التي نشأت بين هذين الديكتاتوريين في واحد من أكثر الانعطافات التاريخية خلال القرن الماضي. ما الذي جمع هتلر وموسوليني معاً؟ هل كان مجرد متطلبات إنشاء تحالف عسكري قوي؟ أم هو التقارب الآيديولوجي الفريد من نوعه الذي نشأ بين الحركتين «الفاشية والنازية» اللتين قاما بتأسيسهما في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وعزمهما المشترك على مراجعة بنود «معاهدة فرساي»؟ أم نيتهما غزو أراضي بلدان أوروبا؟ أم كان علاقة صداقة تستند إلى التشابه في ظروف نشأتهما؟
تفسيرات هذه العلاقة طغت طويلاً في الثقافة الشعبية الأميركية، ولعل فيلم «الديكتاتور العظيم» لتشارلي شابلن (أنتج عام 1940) خير مثال على ذلك، فالفيلم يسخر من موسوليني وهتلر ويصورهما على أنهما شخصان تافهان وغيوران ومتغطرسان. وإلى جانب هذا الفيلم، كانت هناك أمثلة أخرى صورت هذه العلاقة، نذكر هنا أغنيتي مطرب الريف الأميركي كارسون روبسون: «رسالة موسوليني إلى هتلر» و:«رد هتلر على رسالة موسوليني»، اللتين صدرتا في الولايات المتحدة في عام 1942 عندما بدا أن دول المحور على وشك الانتصار في الحرب. وتظهر كلمات الأغاني موسوليني على أنه شخص وصولي وأبله، ومع أن هذه الصورة تصب في مصلحة هتلر، لكنها ما زالت سائدة إلى الآن في الثقافة والذاكرة الشعبية.
في هذا الكتاب يعمد المؤلف غوشيل إلى تفحص تلك العلاقة التي شكلت العامل الحاسم منذ ذلك الحين وما تلاه في تدمير النظام العالمي الذي أرسته «مبادئ ويلسون»؛ (الرئيس الأميركي)، وتسببت في اندلاع الحرب العالمية الثانية. ويتناول المؤلف بعض المشكلات الأساسية التي تواجه من يحاول دراسة وتفسير العلاقة الشخصية بين القيادات السياسية والتمعن في الدور الذي يلعبه الديكتاتور في توجيه الدبلوماسية.
إن قصة العلاقة بين موسوليني وهتلر هي في جزء منها قصة صداقة - وإن كانت ظاهرية وملفقة - كان يشوبها التوتر وعدم المساواة، علاقة تميزت بمزيج من الإعجاب والحسد من كلا الجانبين. إنها أيضاً قصة تكشف عن تأرجحها بين الأسطورة والواقع. وهذه القصة لها نتائج مؤثرة في التاريخ الأوروبي في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين.
والدراسة حول علاقة «موسوليني - هتلر»، وضعها الكتاب في السياق الأوسع للعلاقات الإيطالية - الألمانية والثقافة الدبلوماسية، وحدد لها هدفان رئيسيان:
أولاً: تأكيده على أن تاريخ التحالف بين إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية كان أكثر تعقيداً بكثير مما تمت الإشارة إليه في المؤلفات التاريخية الحديثة والتي كانت تجادل بأن الحلف كان مدفوعاً إلى حدٍ ما بفكر آيديولوجي مشترك وتعاون ناجح. وشكلت حالات الطوارئ والتوترات الاستراتيجية والقوالب النمطية القومية هذه العلاقة طوال وجودها.، لقد ميز العلاقة الشخصية بين موسوليني وهتلر والعلاقة بين إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية، مزيج غريب من التبادلية والعداء والتناقض والعشق.
ثانياً: كما يشير المؤلف، فإنه «لا يمكننا البدء في فهم ما هي الفاشية ما لم ندرس العلاقة السياسية بين اثنين من كبار رجال الدولة الفاشيست في سياقها الأوسع. فالبحث في تاريخ العلاقة بين موسوليني وهتلر يساعد على الكشف عن كتلة التناقضات الداخلية التي كانت قائمة داخل الفاشية».
الكتاب ليس سيرة ذاتية لهذين الديكتاتورين أو دراسة «الجوانب المتشابهة في حياتهما»، بل هو استكشاف للعلاقة التي جمعتهما والشكل الذي ظهرت به وأهميتها السياسية العامة، من خلال تركيز المؤلف على شكل علاقتهما، وإعادة النظر في القوة - المتخيلة والمتكونة والحقيقية - التي كان يمتلكها كل من موسوليني وهتلر وقاما من خلالها بتشكيل وإدارة السياسة الخارجية. ومع ذلك يقول المؤلف: «أنا لا أوافق على التفسير التقليدي بأن رغباتهما هيمنت على السياسة. فنادراً ما كان هتلر يضطر إلى توجيه أوامر مباشرة إلى أركان وأجهزة النظام السياسي النازي؛ حيث كان مسؤولو الحزب والدولة (يعملون بأوامر الفوهرر). كان موقف موسوليني بوصفه ديكتاتوراً أضعف بكثير من موقف هتلر، حيث كان عليه أن يضع اعتباراً للنظام الملكي الذي كان يهيمن عليه لفترة طويلة الملك فيكتور إيمانويل الثالث، وكذلك الفاتيكان والبابا (المعصوم)، رغم أن المؤسستين دعمتا النظام الفاشيستي على نطاق واسع، خلال فترة طويلة من وجوده».
للوهلة الأولى، يبدو أن الزعيمين بينهما كثير من أوجه التشابه. فكلاهما من أصول متواضعة، وقدم من مناطق نائية نسبياً. وكلاهما كان يتمتع بالكاريزما، وكلاهما صعد إلى السلطة باستخدام مزيج من العنف السياسي وما كان يبدو وسائل قانونية للسيطرة على السلطة في بلديهما في مناخ أشبه بحرب أهلية. وكان كل منهما يركز باستمرار على صفاته الرجولية ونزعته العسكرية. وكلاهما وعد بتوحيد الجماهير من خلفه وتحويل بلده إلى قوة عالمية. وأيضاً حاول كلاهما، بدرجات متفاوتة، الحفاظ على التوازن بين القمع وخلق إجماع جماهيري. كلاهما كان قاسياً وعازماً على إقامة ما يرى أنه نظام عالمي جديد من خلال الحرب والغزو. كلاهما تبنى سياسات داخلية وخارجية موجهة نحو الحرب، مع نتائج مختلفة جوهرياً، بالنظر إلى الأداء الاقتصادي المتباين لأمتيهما وثقافاتهما السياسية المتميزة... ومع ذلك، فإن علاقتهما لم تكن محفوفة بالتوترات فقط، بل ببعض التناقضات الآيديولوجية والتنافس الشخصي، ولكنها أيضاً شكلت من خلال سياقات قومية مختلفة جداً كانا يعملان من خلالها. كان هتلر يمتلك آيديولوجية رصينة وأكثر وضوحاً، ترتكز على معاداة السامية، والتوسع حسب نظرية «المجال الحيوي» نحو ضم أراضي أوروبا الشرقية، مقارنة مع ما كان لدى موسوليني. ومن الواضح أن معاداة السامية كانت تشكل لدى هتلر والنازيين موضوعاً مركزياً، وقادت إلى ارتكاب مجازر الهولوكوست، بينما في إيطاليا، أصبحت العنصرية المحلية التي بنيت على حالات الفصل العنصري التي مورست في المستعمرات الإيطالية أكثر وضوحاً فقط مع ترسخ العلاقات الفاشية - النازية في منتصف وأواخر الثلاثينات.



«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو
TT

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

في روايتها «عشبة ومطر» دار «العين» للنشر بالقاهرة - تختار الكاتبة الإماراتية وداد خليفة الثقافة العربية سؤالاً مركزياً حائراً بين واقع مشوّش ومستقبل مجهول، حيث تبدو اللغة والتاريخ وكأنهما ينازعان أنفاسهما الأخيرة للصمود داخل قِلاعها العربية نفسها.

وتعتمد الروائية على تقنية الأصوات المتعددة لتعميق صراعات أبطالها مع عالمهم الخارجي، حيث تتشارك كل من بطلة الرواية «عشبة» وابنها «مطر» في نزعة تراثية جمالية يتفاعلان من خلالها مع دوائرهما التي يبدو أنها تتنصّل من تلك النزعة في مقابل الانسحاق في مدّ «الثقافة العالمية» المُعلبّة، ولغة التواصل «الرقمية»، فتبدو بطلة الرواية التي تنتمي إلى دولة الإمارات وكأنها تُنازِع منذ أول مشاهد الرواية من أجل التواصل مع محيطها الأسري بأجياله المتعاقبة، حيث تُقاوم النزعة «السائدة» في ذلك المجتمع العربي الذي بات أفراده يتحدثون الإنجليزية داخل بيوتهم، ولا سيما أجيال الأحفاد وسط «لوثة من التعالي»، «فهؤلاء الأبناء لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم التي يلفظونها بشكل ركيك»، في حين تبدو محاولات «عشبة» استدراك تلك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإماراتي أقرب لمحاربة طواحين الهواء، فتأتيها الردود من محيطها العائلي مُثبِطة؛ على شاكلة: «لا تكبّري المواضيع!».

صناديق مفتوحة

يتسلل هذا الصوت النقدي عبر شِعاب الرواية، فتبدو «عشبة» مهمومة بتوثيق العلاقة مع الماضي بذاكرته الجمعية التي تتقاطع مع سيرتها الشخصية منذ تخرجها في معهد المعلمات بإمارة الشارقة وحتى تقاعدها، لتعيد تذكّر تفاعل جيلها مع كبريات التغيّرات السياسية سواء المحلية، وعلى رأسها المخاض الطويل لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وحتى سياقات الحروب والنكبات العربية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لمجازر «صبرا وشاتيلا» الدامية في لبنان 1982 والنزف الفلسطيني المُستمر، في محطات تجترها البطلة بعودتها إلى قصاصات الأخبار التي ظلّت تجمعها وتحتفظ بها من مجلات وصحف عربية لتؤرشفها وتُراكمها عبر السنوات داخل صناديق، ليصبح فعل تقليبها في هذا الأرشيف بمثابة مواجهة شاقّة مع الماضي، بينما تبدو الصناديق والقصاصات الورقية مُعادلاً للحفظ الإلكتروني والملفات الرقمية التي قد تتفوق في آلياتها وبياناتها، وإن كانت تفتقر إلى حميمية الذكرى، وملمس المُتعلقات الشخصية التي تنكأ لديها جراح الفقد مع كل صندوق تقوم بفتحه: «أعدت غطاء الصندوق الذي يحتاج مني إلى جرأة أكبر لنبشه، ففي الصندوق ثوب فلسطيني طرَّزته أمٌ ثكلى من بئر السبع... أم صديقتي سميرة أخت الشهيد، ودفتر قصائد نازقة دوّنته صديقتي مها من غزة... صورٌ لزميلاتي بالعمل من جنين ونابلس ورام الله... رسائل من صديقتي ابتسام المقدسية... ومن حيفا مفارش مطرزة من صديقة العائلة أم رمزي».

بالتوازي مع تنقّل السرد من حكايات صندوق إلى آخر، يتصاعد الصراع الدرامي لبطل الرواية «مطر» الخبير في تقييم التُحف، الذي يقوده شغفه بمجال «الأنتيك» والآثار القديمة لتتبع مساراتها في مزادات أوروبية تقترب به من عالم عصابات مافيا القطع الأثرية، كما تقوده إلى الاقتراب من حكايات أصحاب القطع الأثرية التي تُباع بالملايين في صالات الأثرياء، كحكاية «مرآة دمشقية» ظلّ صاحبها يتتبعها حتى وصلت لقاعة مزادات «كريستيز» حاملاً معه ذكرى حكاية جدته وأسرته وتشريدهم، وتصنيعهم تلك المرآة بأُبهتها الزخرفية والفنية في غضون ظروف تاريخية استثنائية خلال فترة سيطرة الحكم العثماني في دمشق.

نهب ممنهج

تبدو الرواية التي تقع في 350 صفحة، وكأنها تمنح حضوراً سردياً للقطع الأثرية المفقودة، والمنهوبة، بصفتها شواهد تاريخية تتعقب «تُجار الممتلكات الثقافية»، ودور المزادات، وأمناء المتاحف، وسط متاهات تزوير الوثائق الخاصة بالقِطع وشهادات المنشأ، وتهريب القطع من بلادها، ولا سيما بعد الربيع العربي والحروب الأهلية التي أعقبته، لتفتح ساحات السرقة الممنهجة للآثار في المواقع الأثرية العربية، كما في تونس ومصر وسوريا والعراق، في حين تبدو قصص القطع المفقودة أُحجيات تتبعها الرواية وتحيكها بخيوط نوستالجية تمدّها الكاتبة على امتداد السرد.

تعتني لغة الرواية بالوصف الدقيق للتفاصيل الجمالية التي تبدو في صراع متواتر مع تيار محو أعنف، كقطع السجاد الأصيل وأنواله التقليدية، والزخارف الغرناطية العتيقة على الأسطح، في مقابل ثقافة «الماركات» الاستهلاكية التي تُميّع الذوق العام، والحروف اللاتينية التي تُناظر الحروف العربية وتُغيّبها في لغة الحياة اليومية.

وقد حازت رواية «عشبة ومطر» أخيراً جائزة «العويس للإبداع»، ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كنتُ قصيراً، أقفز كي تلمس أطراف أصابعي مطرقة الباب، وبعد أن كبرت قليلاً، وأصبحت أمسكها بيدي، استوقفني شكلها الذي صُنع على هيئة يد بشرية، ثم أدركت أن هناك مطرقتين فوق بعضهما، تعجبت، وسألت أمي عن السبب فقالت: (كانت لدروازتنا مطرقة واحدة، لكن والدك أبهرته فنون بغداد، فجلب منها مطرقتين، مثبتاً المطرقة الأكبر في الأعلى للرجال والمطرقة الأصغر أسفل منها للنساء، ليختصر بذلك السؤال عن هُوية الطارق، فكنا نُميّز الطارق رجلاً أم امرأة من صوت المطرقة)... بِتُ أنصت للطَرق، كنت أعرف طرقات أمي الثلاث، وتعرف أمي طرقاتي المتسارعة، كان هناك طَرقٌ مُبشر، وطرقٌ يخلع القلب، طرق هامس مُدلل، وطرق يُشبه كركرة الأطفال».