حكايات {سكان} الدور السادس في «الأهرام»

غرفتا توفيق الحكيم ونجيب محفوظ من أبرز محطات «متحف الخالدين»

عمالقة الفن والفكر في عيد الميلاد الخمسين الذي أقامته «الأهرام» لنجيب محفوظ
عمالقة الفن والفكر في عيد الميلاد الخمسين الذي أقامته «الأهرام» لنجيب محفوظ
TT

حكايات {سكان} الدور السادس في «الأهرام»

عمالقة الفن والفكر في عيد الميلاد الخمسين الذي أقامته «الأهرام» لنجيب محفوظ
عمالقة الفن والفكر في عيد الميلاد الخمسين الذي أقامته «الأهرام» لنجيب محفوظ

لم تمحُ السنوات الطويلة رائحتهم وأثرهم بهذا الطابق التاريخي، الذي يطلق عليه البعض «متحف الخالدين» لاستضافته لمدة سنوات طويلة رموز الثقافة والأدب والفكر والسياسة والفن في مصر في العصر الذهبي لجريدة «الأهرام» المصرية، فما أن تطأ قدمك الدور السادس بـ«الأهرام» حتى تستشعر الإبداع والهيبة والرقي في أروقة المكان، وتتخيل توفيق الحكيم صاحب الإنتاج المسرحي الغزير الذي يجعله في مقدمة كتاب المسرح العربي، وفي صدارة رواده، وهو يبدع عملاً أدبياً جديداً في مكتبه الأنيق رقم «606»، أكبر وأشهر غرفة بالطابق السادس، أو تخوض معه في الطابق نفسه معركته الشهيرة باسم «بيان توفيق الحكيم» الرافض لحالة اللاسلم واللاحرب في بداية سبعينات القرن الماضي، وهو ما أدى إلى ثورة السادات على الحكيم، وعلى مجموعة أخرى من المفكرين والصحافيين، أو تعيش بهجة ضيوف هذا الطابق بعد إعلان فوز كاتب الروائع الأدبية ومجسّد أدق تفاصيل الحارة المصرية الأديب العالمي نجيب محفوظ بجائزة «نوبل»، كما قد تكون شاهداً على الكتابات العميقة للكاتب الكبير لويس عوض، التي جمع فيها بين فخره بالحضارة الفرعونية وماركسيته الثرية وانفتاحه على التجربة الناصرية.
أما «بنت الشاطئ» الكاتبة المصرية عائشة عبد الرحمن، فيمكنك أن تعيش معها عن قرب ما خاضته من معارك من أجل تأكيد هويتها العربية والإسلامية، وتأكيد حق المرأة في التعليم والعمل، عبر ما أضافته إلى المكتبة العربية من رصيد ضخم من الأعمال الأدبية والنقدية والدراسات الجامعية، وربما تشارك الحسين فوزي رحلاته في أوروبا فتبهرك فنونها وثقافتها كما عاشها وكتب عنها.
أثناء سيرك في طرقات الدور السادس، تستطيع أن تستعيد تلك الضحكة العالية والصافية الصادرة من غرفة رقم «604» للروائي الكبير ثروت أباظة صاحب «شيء من الخوف»، و«ثم تشرق الشمس»، و«أحلام في الظهيرة»، وغيرها من الأعمال الأدبية التي تحولت إلى أفلام سينمائية وروائع درامية في الإذاعة والتلفزيون، إلى جانب فلسفة لطفي الخولي، وفكر يوسف جوهر، وفن صلاح طاهر، وغير ذلك من أعمال وإبداعات وأحاديث ومناقشات لباقة من أهم الرواد والرموز في كل المجالات كان الطابق السادس بـ«الأهرام» محتضناً لها وشاهداً عليها ومانحاً لـ«الأهرام» كمؤسسة صحافية مزيداً من الثقل الفكري والسياسي المتفرد بسببها، إلى جانب ما اشتهرت به كمنصة لقراءة أفكار جمال عبد الناصر وخططه لمصر والمنطقة العربية والنضال الأفريقي ضد الاستعمار.
الكاتب المصري محمد سلماوي، يسرد بعض حكايات الطابق السادس النادرة ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «بدأت قصة الطابق السادس عندما قرر محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير ورئيس مجلس إدارة (الأهرام) الأسبق، جمع العمالقة والقامات الثقافية الكبيرة في مكان واحد؛ انطلاقاً من رؤيته بأن مسؤولية (الأهرام) تجاه المجتمع تتعدى مهمة الجريدة اليومية التي تحيط الناس بالأحداث، وبما يجري في الداخل والخارج، إلى مؤسسة تساهم بشكل محوري في تشكيل عقل ووجدان الأمة العربية».
وكان من أهم ما يميز الدور السادس، أو «متحف الخالدين»، كما كان يطلق عليه شباب الصحافيين، حينذاك، بجانب ضمه مكاتب لأكبر الأسماء في الساحة الفكرية والثقافية في حقبة الستينات، التنوُّع الواسع وغير المسبوق من حيث الاتجاهات والرؤى والأجيال التي ينتمي إليها هؤلاء العظماء بمؤلفاتهم المميزة، روايةً ومسرحاً وقصةً ونقداً ومقالاً.
يستطرد سلماوي قائلاً: «كنتُ أرى الكتّاب السياسيين بجوار أهل الفكر والثقافة من الروائيين البارزين، مثل نجيب محفوظ، والمبدعين من كُتّاب المسرحية، مثل توفيق الحكيم، ورواد القصة القصيرة مثل الكاتب يوسف إدريس، والمفكرين السياسيين والفلاسفة أصحاب المواقف الجريئة والمستنيرة مثل لويس عوض، والدكتور زكي نجيب محمود وغيرهم، فكأن هذا الطابق قد تحول إلى منارة ثقافية مشعة في قلب مصر».
ويسرد سلماوي المزيد من الذكريات والحقائق المهمة عن الطابق السادس قائلاً: «كان مكتب توفيق الحكيم، ويحمل رقم (606) أكبر مكاتب الدور السادس، وكان أشبه بالبرلمان الفكري الذي يمثل كل الألوان والأطياف السياسية والثقافية والاجتماعية، حيث كان يشهد لقاءات أكثر ما يزيدها ثراءً هو الاختلاف بين أطرافها في الرأي»، ويتابع: «ربما كان من الطبيعي أن تكون أول علاقة لي مع ساكني هذا الدور هي تلك التي نشأت بيني وبين الحكيم، فقد كنتُ كاتباً مسرحياً مبتدئاً يود أن يستفيد من نصائح (أبو المسرح العربي) الذي كنتُ أعمل معه في المبنى نفسه، ولا يفصلني عنه إلا بضع عشرات من درجات السلم، وكان ذلك ما دفعني إليه، حتى توطدت علاقتي به بمرور الوقت رغم اختلاف السن وفارق المكانة الأدبية بيننا».
ومن الأمور التي لا ينساها سلماوي عن الدور السادس، التي تنمّ عن التقدير البالغ الذي كان يكنّه الجميع له، ولسكانه هو أن هيكل الذي كان يشغل منصبي رئاسة التحرير ومجلس الإدارة عندما كان يريد الجلوس مع الكتاب والمفكرين كان يأتي إليهم في قلعتهم بالطابق السادس، ولا يستدعي أحداً منهم إلى مكتبه.
ويضيف: «كان أول معرفة لي بالأديب الكبير نجيب محفوظ الذي ارتبطت به ارتباطاً وثيقاً دام أكثر من 30 عاماً في مكتب توفيق الحكيم بالدور السادس، فهناك، كنا نشارك في الأحاديث التي كانت تجري بين الحضور، وقد توطدت العلاقة بعد ذلك بواقعة تعكس إلى أي مدى كان هناك اهتمام ورعاية من جانب العمالقة بالشباب، وذلك حين فوجئت بنجيب محفوظ يقرأ مسودة إحدى مجموعاتي القصصية الأولى، ويصححها لي من دون أطلب منه ذلك وبالقلم الرصاص، حتى أستطيع محوها بـ(الأستيكة)، إذا لم أقتنع بها، على حد تعبير محفوظ!».
ويتابع: «ولا يمكن أن يغيب عن ذاكرتي يوم أن اتصل بي فريق صحافي من مجلة (باري ماتش) الفرنسية الذي كان قد جاء إلى القاهرة، ليجري مع الأديب العالمي موضوعاً مصوراً حول تفاصيل حياته اليومية، وكان الاتصال للتدخل لإقناعه بالجلوس على مكتبه، بدلاً من الأريكة ذات اللون الداكن بغرفته، ولم يعرفوا السر وراء هذا الرفض من جانبه، وهو أن هذا المكتب الذي التقوا فيه بمحفوظ هو المكتب رقم (606)، أي المكتب الخاص بتوفيق الحكيم الذي خُصص له بعد حصوله على (نوبل)، عام 1988، فقد كان الحكيم تُوفّي في العام السابق، وظل مغلقاً إلى أن قررت إدارة (الأهرام) أن يكون المكتب لأديب (نوبل)، حتى يليق بمكانته وبزواره القادمين من مختلف دول العالم، إلا أن محفوظ لم يجلس على المكتب مرة واحدة، وبقي يجلس على الأريكة الموجودة داخله كضيف، تقديراً للحكيم، وعندما حاولتُ إقناعه لتصويره وهو يجلس إليه، فقال كيف يصورونني على مكتب ليس مكتبي؟! وتشاء الأقدار أن يكون مكتب نجيب محفوظ في الدور السادس هو مكتبي حين عدتُ إلى (الأهرام) عام 2016، بعد أن كانت الإدارة في عهد (الإخوان) قد أنهت علاقتي بـ(الأهرام)، وآنذاك أخبرني رئيس التحرير، محمد عبد الهادي علام، أن مكتبي سيكون في الدور السادس، وقام بالصعود معي ومعه أحد مساعديه ليريني مكتبي، فوجدتهما يدخلانني الغرفة رقم (605)، فصحت: (هذا مكتب نجيب محفوظ)، فقال لي المساعد إن مكتب محفوظ (606)، إلا أنني أوضحت له أن ذلك كان بعد (نوبل)، أما مكتبه الأصلي منذ أن انضم إلى كُتّاب (الأهرام) فكان هنا في هذه الغرفة رقم (605). وكانت سعادتي لا تُوصف بالانتماء للدور السادس حيث الذكريات والدروس المحفورة في الذاكرة».
وللدور السادس مكانة عظيمة عند الكاتب الصحافي الكبير صلاح منتصر، ويقول عنه لـ«الشرق الأوسط»: «أعتبره مدرسة؛ فقد التقيتُ فيه بكبار مفكري مصر أمثال زكي نجيب محمود، وتوفيق الحكيم، وعائشة عبد الرحمن، وصلاح طاهر وغيرهم، وهم يمثلون مدرسة حقيقية في الحياة والثقافة والفكر، وإذا كان كثيرون يعتقدون أن الصحافي يتعلم ويتطور عبر قائمة من التوجيهات والتعليمات من جانب من هو أكثر منه علماً وخبرة وعمراً فإن ذلك اعتقاد خاطئ؛ لأنه في واقع الأمر يتعلم من خلال مجالسة أساتذته والاستماع إليهم ومراقبتهم والاستلهام منهم والتزود من معرفتهم وفكرهم، وذلك كان أحد أهم تأثيرات الطابق السادس في (الأهرام)، فبجانب أنه جمع القامات الثقافية الكبيرة في هذه الجريدة العريقة، لتقوم بدورها المستنير في مصر والمنطقة العربية كلها، ولتتحول من جريدة يومية إلى جامعة شاملة تضم كل (التخصصات) والاتجاهات، فإن هذا الطابق قد لعب أيضاً دوراً أساسياً في تشكيل وإثراء فكر ووجدان أبناء (الأهرام) أنفسهم، فتكونت أجيال صحافية جديدة تتمتع بالثقافة العميقة والأفق الواسع، فقادت الحركة الفكرية والصحافية محلياً وعربياً».
وللكاتب الصحافي أنور عبد اللطيف مدير تحرير «الأهرام» رؤية تجاه الدور السادس، ويقول: «بالنسبة لي ليس هو الطابق الذي تصعد إليه بعد أن تضغط زر الأسانسير رقم (6). لكنه كلّ ما له علاقة بكبار كُتّاب (الأهرام) المسؤولين عن تشكيل وعي القارئ، وقد فتح صفحاته على مدى التاريخ لكبار الأدباء والمفكرين، فعاش في (الأهرام) سكان السادس الذين لم يسكنوه مكانياً لكن لا يمكن أن تتحدث عن قمم (الأهرام)، دون أن تذكرهم مثل العمالقة كمال الملاخ وصلاح جاهين وأحمد بهجت، وغيرهم كثيرون».
ويروي عبد اللطيف عن ميلاد فكرة الدور السادس قائلاً: «حكاها لي هيكل، حيث قال لي إنه عندما تسلم (الأهرام) كانت هناك مدارس صحافية تتفوق على (الأهرام) في جرأة التناول في مثل (أخبار اليوم)، التي كانت تتفوق في مجال الخبر، و(دار الهلال) التي كانت تهتم بالصور، أما (روزاليوسف) فكانت مدرسة للكتابة الساخرة بالقلم والريشة.
ومن هنا أيضاً جاءت فكرة الدور السادس بشكل مدروس ومقصود، فاستقطب عدداً كبيراً من الكُتّاب والأدباء والمفكرين والنقاد لتوطين المثقفين في (الأهرام)». ويلفت: «وقد تأكَّد تحقيق هذا الاتجاه في الدور السادس في مبناه الحديث الذي افتُتِح عام 1968، وزاره الرئيس عبد الناصر في فبراير (شباط) عام 1969. وعندما جاء السادات في الاحتفال بمائة سنة اجتمع مع سُكّان (السادس)».
ويتذكر عبد اللطيف مزيداً من المواقف التي عاصرها مع الطابق السادس بتأثيره الطاغي على صحافيي «الأهرام»، مثلما كان له دوره في تثقيف القراء: «من سكان السادس الأصليين الدكتور يوسف إدريس، الذي بدأت علاقتي به عندما كلفت من قِبل الأستاذ صلاح جلال رئيس تحرير (مجلة الشباب وعلوم المستقبل) آنذاك بعمل حوار معه، وفي طريقي للدور السادس وجدت زميلي المصوّر محمد وسيم، فطلبتُ منه له أن يأتي معي لتصوير الروائي القدير، وفوجئ الدكتور يوسف إدريس بي وبالكاميرا في وجهه، فقال بدهشة: (ما اسمك؟ ولماذا تريدني؟) ولم يكن يعرفني، فقلت: (أستأذن حضرتك لإجراء حديث معك لمجلة الشباب طلبه الأستاذ صلاح جلال)، وكانت المفاجأة أنه وافق، وأجريتُ الحديث معه بالفعل! وتحدث يوسف إدريس يومها عن الشباب المأزوم بين سياسات الانفتاح الاستهلاكي التي تتبعها الحكومة، وسوء التفاهم في احترامه للكبار. وسألته عن تأثير الأحداث في صناعة جيل متمرد من الأدباء ينتمي إليه يوسف إدريس. وفوجئ يوسف إدريس بالسؤال (المركّب) الذي ألقيته في وجهه، متهماً إياه بأنه من زمن آخر، وهو الذي كان يعتبر كتابته تحريضاً للشباب في كل زمان، لكنه رغم ذلك ردّ دون غضب، وقال: (لا يوجد شيء اسمه جيل، لكن هناك نهر وتيار أدبي مستمر وممتد، كل واحد يسبح في نهر الزمن الأوسع، ونهر التطور والتغيير الاجتماعي، وصعب جداً أن تقول هذا الأديب جيل الخمسينات وهذا جيل الستينات، وهذا يعبّر عن الجيل، فهذا التقسيم لا يصلح لوصف حقيقة أدبية وعلمية وفنية، لكنه يصلح فقط لوصف حقائق الجغرافيا)». ويتابع أنور: «وهكذا تعلمتُ أن أتمتع بسعة الصدر مع شباب المحررين، ولا أتعالى على أحد منهم، فلكل صحافي احترامه ورأيه وحقه في التحاور».
ومنذ اللحظة الأولى التي يفتح المصعد أبوابه في الدور السادس يستقبلك الفن والإبداع، حيث تجد واحدة من الروائع الفنية، «القواقع»، للمبدع صلاح طاهر، الذي كان يسكن أيضاً هذا الدور الزاخر بجانب كبير ومهم من الأعمال الفنية التي تُعد جزءاً من ثروة مؤسسة «الأهرام» (تملك ثاني أكبر ثروة من المقتنيات بعد متحف الفن الحديث في مصر)، ثم في ممر المكاتب أعمال أخرى، منها «بورتريه» بالبرونز أبدعه ناجي كامل للمفكر لطفي الخولي.
يقول الفنان والناقد الكبير محمد الناصر في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «كانت الغرفة (606) لتوفيق الحكيم تحظى بعدد مهم من هذه الأعمال، ومنها لوحتان رسمهما الفنان صلاح طاهر للحكيم، من بينهما لوحة شهيرة تستقبلك بمجرد أن تخطو داخل المكتب، كما قدم له الفنان القدير جمال السجيني (بورتريه نحت) كان يحتفظ به في مكتبه، وقد شرفتُ أنا أيضاً برسم لوحتين له في الثمانينات من القرن الماضي»، ويتابع: «كان مكتب الأديب نجيب محفوظ أيضاً يضم كثيراً من الأعمال التشكيلية، لكن كان يفضل (البورتريه) الذي رسمته له آنذاك ويضعه في مكان بارز خلف مكتبه، وهو ما يدلّ على تشجيعه لشباب الفنانين وتقديره للفن».
ويضيف الناصر متذكراً: «ومن المفكرين الذين تتدفق الذكريات معهم الكاتب الكبير الراحل ثروت أباظة بضحكته الجميلة التي لا تزال ترنّ في أذني، لا سيما حين كنت أزوره قبل تعييني بـ(الأهرام)، حيث كان أمن المؤسسة يسأله عما إذا كان يوافق على صعودي لمكتبه في السادس، وهو إجراء روتيني، فكان يبلغهم أنه لا يتذكرني أو يتذكر السبب وراء الزيارة، لكن (لا مانع، دعوه يصعد)، وما إن يراني في كل مرة حتى يضجّ بالضحك لما سببه له لي من إحراج، لأنه يتذكر وجهي جيداً ويعرفني، لكنه ينسى اسمي دوماً، ثم ننخرط في حوار طويل لا يبخل علي فيه بثقافته وحكاياته الغنية، هو الأستاذ القدير وأنا فنان شاب يتلمس طريق الفن في بداياته، ومرت السنوات ورسمت (بورتريهاً) له لا تزال أسرته تحتفظ به ضمن مقتنياتها الخاصة».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)