سمير صبري: سعاد حسني ماتت مقتولة... ولا أعترف بـ«السينما النّظيفة»

قال إنّ ذكرياته مع النّجوم بانتظار دار نشر تهتم بها

الفنان المصري سمير صبري
الفنان المصري سمير صبري
TT

سمير صبري: سعاد حسني ماتت مقتولة... ولا أعترف بـ«السينما النّظيفة»

الفنان المصري سمير صبري
الفنان المصري سمير صبري

يحفل تاريخ الفنان المصري سمير صبري بأعمال بلغ عددها أكثر من 200 عمل سينمائي وتلفزيوني وإذاعي، بجانب إسهاماته الإعلامية مذيعاً ناجحاً حاور خلال مسيرته كثيراً من النجوم والشخصيات المؤثرة منذ ستينات القرن الماضي. ولتلك المسيرة الفنية الطويلة التي تزيد على 50 عاماً، استضاف قصر السينما في القاهرة، مساء أول من أمس، الفنان سمير صبري، لتكريمه وللاحتفاء بمسيرته الفنية المميزة، كما استعرض سمير خلال ندوة تكريمه فصولاً من ذكرياته وشهاداته على العصور الفنية المتعاقبة.
استهل سمير صبري حديثه بالتأكيد على أنّ مهنة الإعلامي في الوقت الحالي، تُمتهن أحياناً من قبل غير المثقفين، الذين لا يجيدون فن استقبال الضيوف، واستدل على ذلك بقصته مع الإعلامي المصري جلال معوض، عندما أخبره سمير بأنّه يريد إجراء حوار مع جاره وصديقه «ليمو» - يقصد المطرب الراحل عبد الحليم حافظ - حينها قاله له «معوض»: «اسمه الأستاذ عبد الحليم».
ورفض سمير صبري فكرة استبدال فنان بآخر ليكون امتداداً له، قائلاً: «أذكر أنّ المنتجة ماري كويني حاولت أن تصنع بديلاً لعبد الحليم، وأتت بمطرب ناشئ اسمه كمال حسني، ودعمته بكبار الملحنين والفنانين، لكن فشل هذا الفنان وبقي عبد الحليم نجماً كما هو».
ونصح صبري الفنانين الحاليين بعدم التدخل في السيناريو، أو عمل المخرجين، مستشهداً بفيلم «محمد حسين»، الذي فشل في دور السينما، وقال: «أخبرته بضرورة التخلص من شخصية (اللمبي) المسيطرة عليه، وعدم التدخل في السيناريو، لكنّ الأخير لم يستمع لتلك النّصائح»، مؤكداً أنّ السينما المصرية في العامين الأخيرين تشهد تطوراً كبيراً على مستوى الصورة وتنفيذ المعارك، على غرار فيلمي «حرب كرموز» لأمير كرارة، و«الممر» لأحمد عز.
وعاب سمير على صناع السينما الحاليين عدم الاهتمام بالواقع المصري الجاري، ولجوءهم لاقتباس الأعمال الأجنبية، بل وسرقة بعضها، في حين كان العاملون بصناعة الفن سابقاً يستمدون أعمالهم من أدباء العصر، فكان المنتجون، أمثال رمسيس نجيب، وعباس حلمي وماري كويني، وآسيا، في حالة الاقتباس يشيرون إلى ذلك في التتر، فوجدنا أعمالاً مهمة كـ«أمير الانتقام» المأخوذ عن «الكونت ديمونت كريستو»، و«آه من حواء» المقتبس من «ترويض النمرة» لشكسبير، أمّا في حالة التعبير عن الواقع المصري، فكان اللجوء لأدب نجيب محفوظ، ويوسف السباعي، وإحسان عبد القدوس الوسيلة المثلى، وكان شراء روايات مثل «الخيط الرفيع»، و«أين عقلي» يتكلف 3 آلاف جنيه مصري، وكان ذلك مبلغاً كبيراً جداً.
ورغم تأكيده أنّ السينما تشهد تطوراً على مستوى الصورة، فإنّه يرى أنّ الموضوعات التي يتم تناولها لا تشبه مجتمعنا العربي، مستشهداً بفيلم «الفيل الأزرق» الذي يرى أنّ محتواه مليء بالخرافات لا يعبر عنا، حسب تعبيره. وعن الطرب، قال إنّ مصر تمتلك كثيراً من الأصوات الجيدة، مثل شيرين، لكنّها لا تملك الذكاء الفني والعلم، اللذين يبعدانها عن التصريحات المثيرة للجدل.
وبسؤاله عن الجرأة التي يتمتع بها كثير من أفلامه، نوّه بأنّ الفنانات في العقود الماضية كن يمتلكن من الجمال ما يجعلهن جديرات بالظهور بـ«المايوه»، أمّا الآن فأغلب الفنانات لا يتمتعن بهذا الجمال، لافتاً إلى أنّه يرفض بشدة مصطلح «السينما النظيفة» الذي انتشر في تسعينات القرن الماضي.
وعن أهم الفنانات اللاتي عمل معهن واعتزلن الفن قبل سنوات، قال: «الأقرب لقلبي كانت الفنانة الراحلة شادية، لأنّها اعتزلت في صمت، عقب مرورها بحالة نفسية سيئة بعد وفاة شقيقها طاهر، الذي كان في مكانة ابنها عام 1984»، مضيفاً: «الأصعب أنّه فور الوفاة، أخبرها الأطباء بأنّها مريضة بالسرطان، وفي أميركا أجرت عملية لاستئصال الثدي، والغريب أنّه اتضح أنّها لم تكن مريضة بالأساس!».
قبل 17 عاماً، قدم سمير صبري برنامجاً مهماً بعنوان «لغز رحيل السندريلا»، واستعرض خلاله ملابسات رحيل الفنانة سعاد حسني، تجوّل خلاله بين مصر ولندن وباريس، وعن تلك الرحلة ونتائجها، يقول: «ما توصلت إليه من نتائج تُفيد بأن السندريلا لم تمت منتحرة، والدّليل على ذلك تقريرا الطب الشرعي في مصر وإنجلترا، اللذان أفادا بأنّ جثمانها لم يكن به ثمة كسور، ومن غير المنطقي أن تقع سيدة من الطّابق السادس ولا تصاب بكسور».
وثاني أدلة سمير على مقتل سعاد، حالتها النفسية الجيدة بعد إنقاصها وزنها، وحديثها مع المؤلف والمنتج المسرحي سمير خفاجي، لتخبره بأنّها بحاجة لعمل مسرحية، كذلك شهادة سائق التاكسي الذي أخذها من المصحّة للشقة، الذي أفاد بأنّها كانت تغنّي طوال الطّريق، وأشار صبري إلى أنّه يرجّح أنّ مقتلها جاء بعد حادث سرقة جرت في شقّتها، خصوصاً أنّها كانت تملك في ذلك الوقت 45 ألف جنيه، مقابل شراء البعض نسخ آخر أفلامها «الراعي والنساء».
وعن أبرز ما يحتاجه الفنانون في العصر الحالي، قال سمير صبري: «يتوجب على الفنانين أن يشعروا بأهمية ما يقدمونه، ويتيقنوا بأنّهم واجهة لبلادهم، فعالمنا العربي بحاجة للقوة الناعمة، التي لن تأتي من خلال الألفاظ البذيئة التي نراها على الشّاشات، ولا البلطجة التي أصبحت موضة».
وينوي صبري نشر مذكراته الفنية في كتاب، ولفت إلى أنّه يكتب بشكل دوري بعض ذكرياته، لكنّه لم يصل إلى مرحلة تدوينها، لأنّه يحتاج إلى دار نشر تهتم بما عاصره طوال هذا العمر الفني والإعلامي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)