مصائر تتشكل وراء الأبواب الموصدة

«أنا أروى يا مريم» لأريج جمال

مصائر تتشكل وراء الأبواب الموصدة
TT

مصائر تتشكل وراء الأبواب الموصدة

مصائر تتشكل وراء الأبواب الموصدة

لم تكن الطفلة «مريم» تعلم وهي في أوج استسلامها لحكايات جزيرة القرود التي ترويها لها أمها، أنها ستصير يوماً طرفاً في حكايات أكثر درامية من حكايات الجزيرة المُتخيَّلة.
مريم هي أولى البطلات ظهوراً في رواية «أنا أروى يا مريم» للكاتبة المصرية أريج جمال، التي صدرت أخيراً في بيروت عن دار «الساقي»، وهي الرواية الفائزة بمنحة «آفاق» ضمن برنامج آفاق لكتابة الرواية، الدورة الثالثة، بإشراف الروائي اللبناني جبور الدويهي.
في المسافة بين حكاية مريم وأروى، تتشكل مصائر بطلات الرواية الأخريات، وراء الأبواب الموصدة، وراء الأيام العادية، بدءاً من أمها «صدّيقة» التي صلّت لله أن يهبها البنت «أعطني بنتا وأنا أسميها مريم»، لتبدأ بها الحكاية، وهي لم تزل في غياهب الرحم، تسمع دعوات أمها، وفي المقابل رغبة الأب الملتاعة بعد أن أعلنها صريحة ومدوية «أنا عاوز صبي» وهي عبارة تُلخص إرثاً مُجتمعياً كاملاً.
وما بين حلم الأم، وترقب الأب للصبي الذي لن يأتي، كانت مريم تتغذى على تعاطفها مع صدّيقة، أول من شكّلت علاقتها بالعالم فيما بعد «كلما كبر بطن ماما، كان يُصبح وجودي في العالم تحصيل حال، بلا أي سحر، مجرد كيان مُضاف إلى عدد لا نهائي من الكيانات، يولد ويعيش ويموت كما وُلد وعاش ومات السابقون، دون أن يلتقط الكون أنفاسه، أو يرغب في إحصاء خسائره وتمييزها عن انتصاراته. لم أتعجل خروجي، لم يكن ما هو أهنأ من حياتي، حياتي هناك، كنت أعرف كل شيء، هكذا ظننت، الحكايات والحكم والمشاعر، معرفة لا تؤذي لأنه ليس بالإمكان تطبيقها، كان ينقصني عِلمٌ وحيد لم أتصور وجوده، ولا قدرته المُتجبرة على التأثير، كان ينقصني العِلم بالنهايات».
اعتمدت الكاتبة في روايتها، التي تقع في 206 صفحات، لغة الرسائل بالشاعرية، المدموغة بالدمع ووميض الذكريات، وروائح الأمكنة التي كانت، أراجيح الطفولة، وأسواق التيه، وبرود المطارات.
تبدأ بطلتا الرواية البوح من حيث البدايات، فتبدأ مريم قصتها حتى قبل أن تستقر في رحِم أمها، سجينة أحلامها، وتستقر بها الحكاية إلى حيث أروى، فمريم التي استقبلت الحياة بفاجعة تُفقدها الأم والأب معاً، في مدينة الرياض، لتجد نفسها في مواجهة مبكرة مع اليُتم، مع صدمات الطفولة، ومع تشبثها بالحكي، أكبر ميراث ورثته عن أمها «ماما أيضاً كان عندها حكايات، عاشت عالقة فيها، بلا أي صباحات، وحين تقرر روايتها، لا يعنيها أن يسمع أحد، كأنها تحكي للحياة نفسها، قالت لي إن الحكي هو المُنقذ الوحيد من الغمّ، لكنني عرفت أنه ليس المُنقذ من الموت، ظلّت ماما تحكي حتى ماتت».
تواصل مريم الحكاية التي تفيض بها لأروى، وتتوقف عند عودتها إلى مصر حيث بدأت «الحياة الثانية» لها دون الأب والأم، حياتها التي كانت جدتها «أم كلثوم» أنصع ما فيها، حتى تلتقي أروى، في لحظة فارقة غيّرت الكثير من ملامح عالمها، عبر لقاء عابر يجمعهما في محطة مترو بالقاهرة، في ليلة شتوية قبيل حظر التجوال في أيام الثورة، كانت أروى تعزف على آلة النفخ «الأوبوا» في المترو كأنها في أوبرا برلين.
تصير آلة «الأوبوا» القديمة النائحة علامة لا تُفارق خيال مريم، كلما تذكرت أروى وهي تعزف عليها في مشهدية ساحرة، حتى تلتقيها من جديد في صُدفة أخرى، لتتشاركا حكاية جديدة لا تنفصل عن تاريخهما أبداً، أروى الفتاة النحيلة اللافتة الجمال التي تركت مصر إلى ميونيخ بندوب ثقيلة في القلب ومشاهد عذاب حارقة لم تُفارق خيالها عن أمها «سارة»، تشارك مريم التي تصغرها في العمر، بالبوح عن حكاية تراجيديا «أمها في الحب والفقد»، وهي تراجيديا انتهت بـأروى إلى حياة ثانية بعيداً عن مصر إلى ميونيخ، ثم عودة مغموسة بالاشتياق إلى مصر من جديد،، حيث مريم، وأنغام مُغايرة لرفيقة أيامها وترحالها مع آلة «الأوبوا» التي أصبحت بمثابة كلمة السرّ لحياتهما وصداقتهما في فضاء الرواية والحياة معاً.



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لأحد أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذه العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف عن سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى إن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفاعلية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني ويستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقية تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسمح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

من جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين بأن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق بوصفها مكاناً لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».