«المقاتلون الأجانب... وتبعات العودة

ما بين المحاكمة وسحب الجنسية

مجموعة من الأجانب تم أسرهم في أثناء مرورهم إلى سوريا من الحدود مع تركيا قبل ترحيلهم منها مرة أخرى بداية الشهر الجاري (غيتي)
مجموعة من الأجانب تم أسرهم في أثناء مرورهم إلى سوريا من الحدود مع تركيا قبل ترحيلهم منها مرة أخرى بداية الشهر الجاري (غيتي)
TT

«المقاتلون الأجانب... وتبعات العودة

مجموعة من الأجانب تم أسرهم في أثناء مرورهم إلى سوريا من الحدود مع تركيا قبل ترحيلهم منها مرة أخرى بداية الشهر الجاري (غيتي)
مجموعة من الأجانب تم أسرهم في أثناء مرورهم إلى سوريا من الحدود مع تركيا قبل ترحيلهم منها مرة أخرى بداية الشهر الجاري (غيتي)

لا تزال أوروبا والولايات المتحدة ترزح تحت تبعات التخلص من تنظيم «داعش» في العراق وسوريا وإشكالية كيفية التعامل مع «المقاتلين الأجانب»، على نسق ما حدث مع جاك لتس الملقب بـ«المتطرف جاك» مؤخراً. إذ سُحبت من جاك الجنسية البريطانية، وهو الذي كان يحمل الجنسيتين البريطانية والكندية، نتيجة سفره إلى سوريا للقتال في صفوف تنظيم «داعش» منذ عام 2014، الأمر الذي أدى إلى استياء كندا، حيث أُحيلت المسؤولية إليها، حيث تظهر الإشكالية القانونية إذ لا يُسمح للحكومات بترك مواطنين من دون جنسية.
وهي ليست بالقضية الأولى، حيث قامت السلطات البريطانية بسحب الجنسية ممن انخرط في القتال مع تنظيم «داعش» من مزدوجي الجنسية، على شاكلة شميمة بيغوم الملقبة بـ«عروس داعش» والتي انضمت إلى التنظيم منذ سن الخامسة عشرة، وتم تجريدها من جنسيتها وعدم السماح لها بالعودة إلى بريطانيا. وأكدت من جهتها رئيسة الحزب المسيحي الديمقراطي في ألمانيا أنغريت كرامب، خليفة أنجيلا ميركل في رئاسة حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي في ألمانيا، ضرورة تمرير قرار سحب الجنسية الألمانية ممن قاتل مع تنظيم «داعش» من ذوي الجنسيات المزدوجة. وهو أمر لا بد من مواجهته وتحديد سياسات في التعامل معه بالأخص بعد انخراط ما يزيد على 40 ألف مقاتل أجنبي، حسب إحصائيات الأمم المتحدة، قَدِموا إلى العراق وسوريا للانضمام إلى تنظيمات إرهابية. وإلى جانب المقاتلين الأجانب تأتي تبعات النساء والأطفال المنتمين إلى تلك التنظيمات. مخيم الهول في سوريا كشف عن أعداد هائلة من النساء والأطفال المنتمين إلى تنظيم «داعش» ممن قطنوا إقليم باغوز قبل نزوحهم إلى المخيم، وتجلت معاناتهم من أوضاع صحية سيئة إضافة إلى تأثرهم بالفكر الداعشي المتطرف، وتهديدهم للآخرين بالقتل والانتقام، وتأكيدهم استمرار تنظيم «داعش». مثل هذه السلوكيات من قِبل النساء والأطفال «الدواعش» أدت إلى فصلهم عن بقية قاطني المخيم. كما تعكس مدى التأثير السلبي على المحيط نتيجة التأثر بالفكر المتطرف والسلوكيات العنيفة. وعلى الرغم من ذلك فإنه يظهر توجه من قِبل الحكومات إلى استقبال الأطفال الذين رزحوا تحت وطأة قسوة وسلوكيات آبائهم نتيجة تطرفهم. وقد سمحت ألمانيا لأول مرة في أغسطس (آب) الحالي لأطفال يُشتبه في انتماء آبائهم إلى تنظيم «داعش» بالعودة إلى أراضيها. وصرح وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، بسعي بلاده لإعادة أطفال لآباء منتمين لـ«داعش» من سوريا إلى ألمانيا، وعدم تحميلهم مسؤولية ما فعله آباؤهم.

المحاكمة عبر السلطات
وتظهر ثلاثة توجهات نحو التعامل مع المقاتلين الأجانب: أولها أن تتم محاكمتهم من خلال السلطات المحلية، وهو أمر يصعب تحقيقه مثل ما حدث في العراق، حيث يتم فرض عقوبة الإعدام التي ترفضها السلطات الأوروبية. من جهته، أصدر القضاء العراقي حكم الإعدام بحق ما يصل إلى 11 فرنسياً ممن ينتمون إلى تنظيم «داعش». وذلك على الرغم من رفض السلطات الفرنسية تنفيذ حكم الإعدام بحق مواطنين من الجنسية الفرنسية، حيث إن الرئيس العراقي برهم صالح، أكد للسلطات الفرنسية أن الدواعش الأجانب سيحاكَمون وفق القانون العراقي.

محكمة دولية
التوجه الثاني جاء نتيجة مطالب أوروبية عراقية، ويتمحور حول إنشاء محكمة دولية مختصة بقضايا الإرهاب والمقاتلين الأجانب في العراق بمن فيهم المقاتلون الأجانب القادمون من دول أوروبية. وقد ناقشت وزيرة العدل الفرنسية نيكول بيلوبيه، في مطلع يونيو (حزيران) 2019 مقترحاً مع عدد من الدول الأوروبية من ضمنها ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا يقضي بتشكيل محكمة دولية تُعنى بمحاكمة «الإرهابيين» الأجانب الذين التحقوا بتنظيم «داعش». ويرى القانوني الألماني روبرت شولتس، أنه من الممكن إقامة مثل هذه المحكمة المستقلة على شاكلة نموج المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بشرط أن يتم اتفاق قانوني بين العراق ودول الاتحاد الأوروبي يستبعد عقوبة الإعدام. وقد تم إجراء دراسة احتمال وضع مسؤولية محاكمة المقاتلين الأجانب، الذين انضموا إلى تنظيم «داعش» من ِبل المحكمة الجنائية الدولية، كما أكدت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا، أمام مجلس الأمن الدولي، أن أجهزة المحكمة لديها الصلاحية للنظر في الجرائم التي يُتهم تنظيم «داعش» في ليبيا بارتكابها، حيث إن ذلك يعد من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليشمل مثل هذه الجرائم المفترضة. لكنها أكدت أن المسؤولية تقع في الدرجة الأولى على عاتق الدول في محاكمة رعاياها الذين التحقوا بصفوف التنظيم.

إعادة المقاتلين
فيما يتمثل الخيار الثالث في إعادة المقاتلين الأجانب، إلى أوطانهم، وهو الخيار الذي دعا الرئيس الأميركي دونالد ترمب، إليه ليتم توزيع أعباء وتبعات الخلافة الداعشية التي اندثرت على الدول المختلفة. في فبراير (شباط) 2019 قام ترمب بدعوة الدول الأوروبية إلى استعادة مقاتليها الذين يتجاوز عددهم 800 مقاتل وتم اعتقالهم في سوريا وتقديمهم إلى المحاكمة. فيما توعد الرئيس الأميركي في 21 أغسطس الدول الأوروبية بتسليمها مقاتلي «داعش» الأسرى الذين يحملون جنسياتها قسرياً في حال لم يرغب بعض الدول في استعادتهم مثل ألمانيا وفرنسا. ويأتي ذلك في ظل مساعي الولايات المتحدة لتقليص دورها في مواجهة تنظيم «داعش» في العراق وسوريا، وتزايد احتمال معاودة التنظيم لملمة شتاته والقيام بضربات إرهابية جديدة. وقد صرح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في 20 أغسطس بأن تنظيم «داعش» لا يزال يمثل تهديداً وأنه «أقوى اليوم مما كان عليه قبل ثلاث أو أربع سنوات» وذلك في «بعض المناطق» في العراق وسوريا. هذا العبء لا يقتصر على الأوروبيين فحسب، إذ ظهرت قضايا لمن يحمل الجنسية الأميركية ممن سافر إلى العراق وسوريا وشارك في تنظيم «داعش». مثل ما حدث مع هدى مثنى وكيمبرلي بولمان الأميركيتين الكنديتين، وهما موجودتان في مخيم اللاجئين شمال شرقي سوريا، وعلى الرغم من أنهما أعربتا عن أسفهما العميق والرغبة في العودة إلى الولايات المتحدة فإنه لا يظهر استعداد لاستقبالهما مرة أخرى، وذلك إثر التشكيك في صحة حصول مثنى على الجنسية الأميركية وازدواجية جنسية بولمان. وهو ما يؤكد مدى تخوف الدول المختلفة من مخاطر عودتهم إلى دولهم.

العودة إلى الأوطان
لا تعد تبعات عودة المقاتلين الأجانب بالأمر السهل إن لم تتم معالجتها، بدءاً بوجود أعداد من المتطرفين ممن ليست لديهم قابلية لإعادة التأهيل بعد اعتيادهم على الممارسات المتطرفة، بالأخص مَن تقلد مناصب قيادية في التنظيم أو حمل قناعات دينية متشددة يصعب تغييرها. مثل هؤلاء يمكن تأثيرهم على المجتمع على اعتبار حيازتهم خبرة في ساحات القتال تضخم من قدراتهم وتسبغ عليهم قدرة على التأثير في المجتمعات بالأخص لدى مَن يشكّلون أقليات ولديهم قابلية للتطرف نتيجة شعورهم بالتهميش والانعزال عن بقية المجتمع لاختلافهم عنه. من جهة أخرى فإن الإعراب عن الندم على ما اقترفه المتطرف ورغبته في العودة إلى وطنه قد يكون نتيجة تضييق الحصار على التنظيم في كلٍّ من العراق وسوريا، وتغيير التنظيم لاستراتيجيته ورغبته في التغلغل في المجتمعات التي جاء منها المقاتلون الأجانب سواء عبر إيقاظ «خلايا نائمة» أو التأثير على الآخرين من خلال الرسائل الإعلامية إلكترونياً أو تحويل الأفراد إلى ذئاب منفردة بإمكانهم القيام بهجمات إرهابية.
أشارت الباحثة سيلفين سي، في المركز الدولي للعنف السياسي والإرهاب في سنغافورة، إلى مدى خطورة عودة المقاتلين الأجانب إلى بلدانهم، إذ سيحصلون على هوية خاصة لمقاتلين مسلحين مخضرمين مما يسبغ عليهم كاريزما مميزة تعطيهم قابلية لأن يصبحوا قادة متطرفين بإمكانهم التواصل مع من يعرفونهم من أعضاء التنظيم، الأمر الذي يعطيهم دافعاً لاستمرار انتمائهم لـ«داعش» والتواصل مع الآخرين إلكترونياً من أجل التجنيد أو نشر الحملات الدعائية لهم أو حتى التخطيط لعمليات إرهابية. فيما تطرق الباحث الزميل توماس هيغهامر في مركز أبحاث الدفاع النرويجي إلى عدد من العوامل التي تعزز ما وصفه بـ«الأزمة الجهادية في أوروبا»، وذكر أربعة أساسية منها وهي: زيادة عدد المسلمين الشباب ذوي الدخل الاقتصادي المحدود، الأمر الذي له صلة غير مباشرة بالتطرف أو الانضمام إلى التنظيمات المتطرفة، وزيادة عدد الناشطين ذوي الخبرة، أو بمعنى أوضح المقاتلين الأجانب العائدين من القتال المسلح إلى أوطانهم، إضافة إلى استمرار الأزمات المسلحة في عدد من دول العالم الإسلامي واستمرار أنشطة التنظيمات المتطرفة عبر الإنترنت واستغلالهم وسائل التواصل الاجتماعي. وعلى الرغم من إشكالية عودة المقاتلين الأجانب فإنه بالإمكان أن تتم مناصحة المتطرفين وإعادة تأهيلهم، لا سيما أولئك الذين لم ينخرطوا في قتال فعلي وإنما تم التغرير بهم، وذلك من خلال إعادة دمجهم في المجتمع. حيث إن ذلك أفضل لا محالة من بقاء المقاتلين الأجانب في العراق وسوريا.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».