صعوبات الانفصال القانوني أو الفعلي في جنوب اليمن

دبابة للجيش اليمني في مدينة تعز في مايو الماضي (أ.ف.ب)
دبابة للجيش اليمني في مدينة تعز في مايو الماضي (أ.ف.ب)
TT

صعوبات الانفصال القانوني أو الفعلي في جنوب اليمن

دبابة للجيش اليمني في مدينة تعز في مايو الماضي (أ.ف.ب)
دبابة للجيش اليمني في مدينة تعز في مايو الماضي (أ.ف.ب)

لا وحدة الدول تفرض بالقوة، ولا الانفصال. وإذا كان من الطبيعي أن تحافظ الدولة على تماسكها السياسي وعلى وحدة أراضيها، فإن ما هو ضروري أن تعرف هذه الدولة، أو من يمسكون شؤونها كيف تدار، وأن يتجنبوا دفع بعض الأجزاء إلى حلم الطلاق.
اليمن ليس استثناء إذن. والوحدة التي قامت سنة 1990 بعد سقوط النظام الذي كان قائماً في جنوب اليمن بفعل سقوط حمايته الخارجية، كما حصل مع كثير من الأنظمة الاشتراكية التي كانت موالية لموسكو في ذلك الحين، لم تؤسس لحكم يتسع لطموحات كل مواطنيه، جنوبيين وشماليين. وبعد أربع سنوات كانت الهزة الأولى ضد نظام الوحدة، التي انتهت باستعادة صنعاء السيطرة على مقدرات البلد.
لم تكن تلك السيطرة وردية دائماً. علي عبد الله صالح كان يصف قيادة اليمن بالرقص على رؤوس الأفاعي. تراكم الرقص والفشل، إلى أن انتهى الأمر بفتح أبواب اليمن أمام التدخل الإيراني وهيمنة الحوثيين على قسم كبير من أجزائه، بما فيها العاصمة صنعاء.
اليوم يعود همّ الانفصال يدغدغ أحلام بعض أهل الجنوب. ضعف السلطة المركزية وإمعان الحوثيين في تفكيك وحدة الدولة واستقلال قرارها السيادي يساعدان على ذلك. وفيما تتصدر هذه القضية الأخبار، تناقش صفحة «قضايا» الموضوع من 3 زوايا: دز حمزة الكمالي وكيل وزارة الشباب والرياضة يرى أنه لا خيار أمام اليمن سوى الدولة الاتحادية، والكاتب عبد الناصر المودع يدافع عن وحدة اليمن، ويعتبر أن دعوات الانفصال هي نتيجة ضعف السلطة المركزية وسيطرة الحوثيين على صنعاء، فيما يرى دكتور خال بامدهف رئيس الدائرة السياسية بـ«المجلس الانتقالي» أن إقصاء الجنوبيين عن الشراكة السياسية هو وراء الأزمة الحالية. ويرى أن «المجلس الانتقالي» امتداد طبيعي لما يسميها «المقاومة الجنوبية».

لم تكن وحدة اليمن أمراً حتمياً، فقد كان من الممكن أن يستمر اليمن مقسماً في دولتين إلى ما شاء الله. غير أن الصدف التاريخية أدت إلى قيام الوحدة في 22 مايو (أيار) 1990. ففي ذلك التاريخ، تم الإعلان عن قيام الجمهورية اليمنية، عبر توحيد جمهوريتي اليمن السابقتين في دولة بسيطة، وتم تشكيل سلطة انتقالية مؤقتة مناصفة، تقريباً، من قيادتي الدولتين، تنتهي بعد إجراء انتخابات برلمانية، وتشكيل سلطة جديدة، وفقاً لدستور الجمهورية اليمنية الذي كان موضوعاً على الرف منذ أن انتهت لجنة مشتركة من الدولتين من صياغته في عام 1981.
وفي مايو 1991، تم الاستفتاء على الدستور في جميع مناطق اليمن، وحصل على موافقة 98.3 في المائة، وتنص المادة الأولى منه، التي لم يطلها التغيير في التعديلات اللاحقة، على أن الجمهورية اليمنية هي وحدة لا تتجزأ، ولا يجوز التنازل عن أي جزءٍ منها. ووفقاً لذلك النص، فإن الوحدة اليمنية نهائية وأبدية.
ويقوم النظام الدولي على مبدأ سيادة الدول ووحدة أراضيها. ووفقاً لهذا المبدأ، يمنع القانون الدولي الانفصال من جانب واحد، لأن السماح بانفصال كهذا سيفكك معظم دول العالم، ويخلق فوضى لا نهاية لها. واستناداً إلى هذا المبدأ، رفض مجلس الأمن الدولي الاعتراف بدولة الجنوب التي تم الإعلان عنها خلال حرب 1994. ففي القرار رقم (924) و(931) اللذين أصدرهما المجلس خلال تلك الحرب، تعامل المجلس مع النزاع على أنه نزاع داخلي ضمن الجمهورية اليمنية.
وفي جميع القرارات الصادرة عن مجلس الأمن المتعلقة باليمن، التي تزيد على 10 قرارات، وبعضها تحت الفصل السابع، هناك تشديد على وحدة اليمن وسلامة أراضيه، وهذا يعني أن شعب اليمن واحد ينظم حياته دستور هذه الدولة.
وبما أن الدستور اليمني يُجرم أي عمل أو سلوك يهدد وحدة الدولة، فإن السلطة التنفيذية والتشريعية لا تستطيع أن تتفاوض أو تقبل بأي وضع يؤدي إلى ذلك. وعليه، فإن الانفصال القانوني الوحيد الذي سيعترف به الداخل اليمني والعالم لن يكون إلا بتغيير المادة الأولى من دستور الجمهورية اليمنية، بنص يسمح للمحافظات الجنوبية بإعلان الانفصال أو الاستفتاء لتقرير المصير، أو أي صيغة أخرى. وهذا التغيير يتطلب استفتاءً شعبياً من قبل جميع المواطنين اليمنيين، وحدوث هذا الأمر عملية شبه مستحيلة في ظل وجود أغلبية شمالية (85 في المائة من سكان اليمن) تعارض الانفصال.
وإذا كان الانفصال الشرعي والقانوني غير ممكن، فإن البديل للانفصاليين هو الانفصال الفعلي، الذي تم في أكثر من منطقة من العالم. فهل بالإمكان وفقاً لظروف اليمن الحالية حدوث انفصال فعلي؟ الجواب على هذا السؤال ليس سهلاً. فمن الناحية النظرية، هناك كثير من المؤشرات التي تشير إلى إمكانية حدوث هذا الأمر، فهناك انهيار للسلطة المركزية، وسيطرة قوى غير شرعية على أجزاء مهمة من الدولة، أهمها الحوثيون الذين يسيطرون على أجزاء من الدولة، وعلى العاصمة صنعاء، وهناك قوى انفصالية وجهوية تسيطر على مناطق واسعة من الدولة، وهناك تدخل خارجي كثيف جعل اليمن عملياً تحت وصاية هذه الدول التي يدعم بعضها المشروع الانفصالي.
مع ذلك، فإن الانفصال الفعلي غير ممكن أيضاً، فهذا الانفصال الذي نقصد به الإعلان عن قيام دولة في جنوب اليمن تمارس السلطة الفعلية على هذه المناطق أو أغلبها، دون أن تحصل على اعتراف دولي حقيقي، كما هو الحال في جمهورية شمال قبرص، وجمهورية أبخازيا، وجمهورية أوسيتيا الجنوبية، وجمهورية أرض الصومال، فهذه المناطق أعلنت انفصالها، وتسيطر حكوماتها على كل الأراضي التي ادعت أنها تابعة لها، إلا أن المجتمع الدولي لا يعترف بها، باستثناء عدد قليل من الدول.
ومن غير المرجح أن يوجد وضع مشابه في جنوب اليمن، لأن الظروف المحلية والدولية لا تسمح بقيام وضع كهذا. فنجاح الانفصال الفعلي يتطلب توفر عدد من الشروط، أهمها:
- وجود راعٍ خارجي قادر على حماية هذا الكيان، سياسياً وعسكرياً، وتوفير متطلباته المالية، وتنظيم شؤونه السياسية والإدارية، وتوفير الاحتياجات الأخرى، كجوازات السفر والعملة وغيرها. وفي حالة جنوب اليمن، فليست هناك دولة مرشحة للعب هذا الدور، على الأقل في الظروف الحالية.
ويزيد الأمر صعوبة وقوع اليمن عملياً تحت الوصاية الإقليمية - الدولية. فهناك تدخل عسكري وسياسي قائم، تحت قيادة التحالف العربي الذي يسعى إلى استعادة الشرعية، وعودة الأمن والاستقرار لليمن. وهناك أكثر من 10 قرارات صادرة عن مجلس الأمن تؤكد على وحدة وسيادة اليمن، ومعاقبة كل من يساهم في عدم الاستقرار فيه. وهناك ملف مفتوح داخل مجلس الأمن للوضع السياسي والإنساني في اليمن، الذي تصنفه الأمم المتحدة على أنه أسوأ أزمة إنسانية في العالم، كما أن هناك مبعوثاً أممياً للشؤون السياسية، وآخر للشؤون الإنسانية، يقدمون إحاطة شهرية لمجلس الأمن حول اليمن.
وفي ظل هذا الوضع، يستحيل على أي دولة أن تقوم برعاية كيان غير قانوني في جنوب اليمن، لأنها ستعرض نفسها لمساءلات قانونية وأخلاقية هائلة. إضافة إلى ذلك، تواجه الحكومة الشرعية صراعاً مع الحوثيين، ومن ورائهم إيران، والمشروع الانفصالي يعمل على ضخ مزيد من الفوضى في اليمن، الأمر الذي يقوي الحوثيين.
وما يمكن أن يقال في هذا الشأن أن الاتهامات الموجهة للإمارات برعاية المشروع الانفصالي تتم ضمن التدخل الذي تم بطلب من الحكومة الشرعية لليمن. وفي حال تحولت هذه الرعاية إلى حد الإعلان عن كيان انفصالي، فإن الوضع القانوني والسياسي، وربما العسكري، سيتغير بشكل جذري. وكل ذلك يشير إلى استحالة رعاية الإمارات لدولة انفصالية في الجنوب.
- الانفصال الفعلي يحتاج إلى سلطة محلية قوية، بجسم سياسي متماسك وتأييد شعبي واسع، وموارد ذاتية، وإن في الحدود الدنيا، وهذه الأمور غير متوفرة في الجنوب. فالجنوب يفتقر إلى الهوية السياسية الجامعة، ويعاني من حس جهوي انعزالي. ويرجع السبب في ذلك إلى حداثة الدولة المركزية في الجنوب، التي لم يتجاوز عمرها 23 سنة (1967 - 1990). وما يسمى «المجلس الانتقالي» الجنوبي هو كيان غير منسجم، تهيمن عليه قوى قبلية تنتمي إلى محافظتي لحج والضالع، اللتين تقعان في مساحة صغيرة غرب الجنوب.
ومن المتوقع أن تظهر النزاعات البينية داخل هذا المجلس، ومع قوى جنوبية أخرى، في حال سيطر على أي مناطق جنوبية، وأعلن قيام دولة. ووضع بهذه الهشاشة يفتح الباب أمام قوات الحكومة اليمنية والقوى السياسية الشمالية لأن تسند القوى الجنوبية المعارضة للمجلس الانتقالي، وتسحقه في حال ضعف الدعم الخارجي له، خصوصاً أن هذا العمل سيتم بغطاء شرعي.
إضافة إلى ذلك، لا يملك الجنوب موارد كافية لإنشاء جهاز إداري وقوات عسكرية، وتقديم خدمات للسكان، فإنتاج الجنوب من النفط لا يزيد على 40 ألف برميل، ويقع معظمه في محافظة حضرموت التي لديها طموحات استقلالية خاصة بها.
- يتطلب الانفصال الفعلي وجود انفصال ثقافي - اجتماعي حقيقي عن الطرف الآخر. وبالنظر إلى الحالة اليمنية، فليس هناك اختلاف ثقافي - اجتماعي، كاللغة أو الدين أو البنية الاجتماعية، يميز الجنوبيين عن الشماليين، والعكس هو الصحيح، فاليمنيون من الشعوب النادرة في العالم التي تمتاز بتجانس ثقافي عالٍ، وهي حقيقة يحاول الانفصاليون الادعاء بنقيضها.
- جنوب اليمن مساحته تقارب ثلثي مساحة الدولة اليمنية، وهو بهذه الصفة ليس منطقة معزولة هامشية في الدولة، يمكن تجاهلها من قبل بقية الدولة، والسماح لها بالانفصال الفعلي، كحال «جمهورية أرض الصومال». يضاف إلى ذلك حالة التداخل الاجتماعي الواسعة بين الشماليين والجنوبيين، وكذلك التداخل الاقتصادي والسياسي والجغرافي الكبير بين المنطقتين. فالجنوب يرتبط مع الشمال بحدود برية لا تفصل بينها حواجز طبيعية بما يزيد على 700 كم، وهذه العوامل تجعل من السهل على الشمال اختراق الجنوب، عسكرياً وسياسياً، خصوصاً أن النزعة الوحدوية عالية لدى الغالبية العظمى من الشماليين وجزء معتبر من الجنوبيين.
يدرك كل من يعرف طبيعة الوضع في اليمن بتعقيداته أن هذه الدولة يصعب تقسيمها، وما الدعوات الانفصالية إلا نتيجة ضعف السلطة المركزية بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء. وفي حال هزيمتهم، وبناء سلطة مركزية جديدة، سيكون من السهل احتواء الحركة الانفصالية في الجنوب، سياسياً وعسكرياً، فالدولة الواحدة في اليمن هي الصيغة الوحيدة القابلة للحياة والاستمرار، وما دون ذلك هو مشاريع فوضى دائمة.

* كاتب يمني



تركيا على الخط السريع للتصادم بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة

TT

تركيا على الخط السريع للتصادم بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة

متظاهر سوري يرشق نقطة عسكرية تركية عبر الشريط الشائك عند معبر ابن سمعان شمال حلب (أ.ف.ب)
متظاهر سوري يرشق نقطة عسكرية تركية عبر الشريط الشائك عند معبر ابن سمعان شمال حلب (أ.ف.ب)

يصعبُ وضع خط زمني واضح للتطورات المتلاحقة التي قادت إلى حوادث العنف الأخيرة ضد اللاجئين السوريين في تركيا، وما ترتب عنها من مظاهرات ضد الوجود التركي ضمن مناطق سيطرة المعارضة السورية في مناطق الشمال السوري.

في تلك الحوادث يتبدل موقع السوريين بين كونهم ضحايا لموجات العنصرية في تركيا، وضحايا التهميش في مناطق سيطرة المعارضة. ولولا الزمن الفاصل بين تلك الحوادث وأسبقية وقوع إحداها قبل الأخرى وإن بأيام معدودة أو ساعات أحياناً، لأمكن اعتبار أي منها سبباً لما بعدها أو نتيجة لما قبلها. لكن الواقع المعاش ليس بهذا الوضوح.

خطورة تسريب البيانات

في الأيام القليلة الماضية، تراجعت حدة الصدامات المباشرة على خلفية أحداث قيصري، لكن بعض المؤشرات المقلقة بقيت تظهر بين الحين والآخر، سواء على شكل مزيد من «الأحداث الفردية» كاعتداء في مطعم هنا أو حديقة عامة هناك، إلى أن جاء تسريب بيانات أكثر من 3 ملايين سوري مقيم في تركيا عبر حساب على منصة «تلغرام» باسم «انتفاضة تركيا» ليدق ناقوس خطر من نوع جديد. فقد تضمنت البيانات، معلومات حساسة، مثل الأرقام الوطنية للأشخاص السوريين دون سواهم من المقيمين الأجانب، واسم الأب والأم، ومكان وتاريخ الولادة، وعنوان السكن ورقم الهاتف. وهذه قواعد بيانات شخصية يفترض أنها محفوظة لدى دوائر الهجرة بالدرجة الأولى بالاضافة إلى الجهات المختصة الأخرى، ويأتي تسريبها ليضع مزيداً من الضغوط على السوريين؛ لأنه يعرّض سلامتهم للخطر. فليس سراً أن هجمات في قيصري قبل 3 أيام فقط على هذا التسريب، ترافقت مع تداول المهاجمين معلومات محددة عن أماكن السوريين وأرزاقهم؛ ما يشكل تنبيهاً خطيراً لما قد يحدث مع انكشاف هذه البيانات وإمكانية استخدامها للملاحقة والترهيب.

اللافت، كان تعامل السلطات التركية مع المسألة وكأنها مجرد خطأ تقني؛ إذ أعلنت دائرة الهجرة أن المعلومات الواردة في البيانات «قديمة نسبياً»، ثم قامت بحذف القناة عن «تلغرام»، في حين سارعت وزارة الداخلية بإعلان أن المسؤول عن التسريب هو طفل يبلغ من العمر 14 عاماً. وأضاف بيان الداخلية أنه «سيتم القبض على جميع الذين يحاولون خلق الفوضى، ومن يستخدمون الأطفال في استفزازاتهم».

أب وأطفاله يعبرون أمام محال مغلقة لسوريين في ولاية بورصة التركية (أ.ب)

ليلة الرعب في قيصري

قبل حادثة تسريب البيانات كانت الشرارة التي أطلقت موجة العنف الأقوى ضد اللاجئين السوريين في تركيا، وما لحقها من رد فعل سوري على الرموز والمؤسسات التركية في الشمال السوري وأدت إلى اشتباكات مباشرة أودت بحياة 11 سورياً على يد القوات التركية في مناطق الشمال السوري.

فقد انتشر مقطع فيديو في وسائل التواصل الاجتماعي لشاب يتحرش جنسياً بطفلة في مدينة قيصري التركية مع إشاعة أنباء مغلوطة بأن الرجل سوري والطفلة تركية. خلال ساعات، كانت مجموعات تركية شبه منظمة بدأت في تنفيذ هجمات استهدفت بالحرق والتكسير سيارات ومحال تجارية ومساكن للسوريين في قيصري، وكل من يشتبه بأنهم سوريون في الشوارع. وعلى رغم تأكيد ولاية قيصري بأن الرجل سوري، وقد جرى اعتقاله، وأن الطفلة سورية وتم نقلها إلى أحد مراكز الحماية التابعة لوزارة الأسرة، فإن الهجمات ضد السوريين لم تتوقف، بل توسعت إلى أكثر من مدينة تركية واستمرت بضعة أيام تعرّض خلالها حتى السياح في مدينة كإسطنبول لهجمات ومضايقات.

هذا الجو دفع مئات الآلاف من اللاجئين إلى ملازمة منازلهم، وإسدال الستائر والاعتماد على خدمات التوصيل والحرص على الهدوء والتحدث بالتركية في المواصلات العامة عند ضرورة الانتقال أو الامتناع عن التحدث مطلقاً في الشوارع أو الأماكن العامة. الحدائق والشوارع في المدن ذات الكثافة السورية خلت تماماً من العائلات وأُغلقت المحال التجارية ولم يعاد فتحها حتى وقت الكتابة. أما الذين يملكون سيارات خاصة واضطروا إلى الخروج في هذه الفترة، فقد ركنوا سياراتهم خوفاً، واعتمدوا على المواصلات لكون سيارات الأجانب في تركيا تحمل رمزاً خاصاً يبدأ بحرف M أو MP وبالتالي يمكن تمييزها بسهولة في الشوارع.

ولعل أكثر المتضررين كانوا أصحاب المحال التجارية وعمال المياومة في مصانع الألبسة أو القطاع الزراعي الذين لم يخرجوا للعمل منذ نحو أسبوع تقريباً، وهم الحلقة الأضعف بشكل عام، ولا سيما في أوقات كهذه. فلحظة اللقاء النادرة بين الأحزاب السياسية المتخاصمة، هي لدى تحميل اللجوء السوري مسؤولية الأزمات في البلاد، وخصوصاً الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها تركيا منذ أكثر من سنتين، بما في ذلك التضخم الذي بات يتجاوز 70 في المائة.

تحريض عفوي - منظّم

أشارت صحيفة «يني شفق» التركية إلى أن المشاركين بأعمال العنف ضد السوريين كانوا يتواصلون عبر 4 مجموعات في «واتساب» كانت تُستخدم سابقاً للتهرب من عمليات الشرطة الروتينية، وتضم كل منها نحو 500 شخص.

اللافت، أن هذه المجموعات انقلبت فجأة للتحريض ضد السوريين، ومشاركة مواقعهم، وتخطيط وتنظيم الهجمات عليهم وعلى أرزاقهم. وكالة «الأناضول» الرسمية التركية، نقلت في اليوم التالي لأحداث قيصري عن وزير الداخلية التركي علي يرلي قايا، خبر توقيف 1065 شخصاً في أنحاء البلاد، وحبس 28 منهم، وصدور أمر فرض الرقابة القضائية بحق 187 شخصاً. الوزير أوضح أن قوات الأمن التركية أوقفت 855 شخصاً في ولاية قيصري وحدها، تبين أن 468 منهم لديهم سوابق جنائية.

ويقول المحامي السوري والناشط المدني محمد الصطوف إن هذه الخلفيات للموقوفين تعطي صورة عن الشبكات المسؤولة عن الهجمات المنظمة وطريقة عملها، لكنها لا تفسر المشاركة العفوية لمئات الأتراك العاديين، في الاعتداء على المنازل والأشخاص.

تفسير الحكومة بحسب الصطوف، وهو يحمل الجنسية التركية أيضاً، ينكر وجود مشكلة في تركيا، تتعلق بكراهية الأجانب عموماً وبينهم السوريون. فطول أمد اللجوء السوري، والاحتكاكات اليومية والثقافية، ساهمت مع مرور الوقت في تسهيل لوم الأتراك العاديين للسوريين وتحميلهم مسؤولية تردي الظروف المعيشية خلال السنوات الأخيرة.

وتكشف أحداث قيصري، عن درجة الاحتقان ضد الأجانب، وإمكانية انفجاره في أي لحظة وأي مكان، لأسباب قد تكون مصطنعة، ولأهداف تسعى أطراف ثالثة لاستغلالها وتوجيهها. وفي الوقت الذي لا يمكن فيه الاكتفاء بتضخيم النزعة القومية التركية، ورهاب الغرباء، وخطاب الكراهية المنتشر اليوم في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لتفسير ما يحدث، فإن الخطاب المضاد الساعي للتهدئة قد يكون مبالغاً في تبسيطه أيضاً.

فالقول إن الاحتجاجات هي اعتداء على «الأخوة التي تربط بين الشعبين التركي والسوري»، كما قالت هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات (İHH) التركية في بيان لها يبدو أقرب لإغماض العيون عن الوقائع والاستماع للأمنيات. كما أن التراشق السياسي اليومي بين صانعي القرار والمعارضة في تركيا، والإعلان الأخير عن تقارب بين أنقرة ودمشق ثم عن لقاء مرتقب بين الرئيسين التركي رجب الطيب أردوغان والسوري بشار الأسد، بغرض إعادة السوريين إلى بلادهم بمعزل عن أمنهم، يضع اللاجئين، في موقع ضعيف ومكشوف، ولا يمنحهم أي احساس بالاستقرار والأمان.

متاجر سورية تعرضت للاقتحام والتكسير في أيار الماضي (الشرق الأوسط)

من يدفع أثمان اللجوء؟

بحسب بيانات دائرة الهجرة التركية، هناك 3 ملايين و114 ألفاً و99 سورياً يحملون بطاقات الحماية المؤقتة مقابل مليون و125 ألفاً و623 شخصاً يحملون تصاريح إقامة تترواح بين إقامات «سياحية» وأذونات عمل، وهذا لا شك رقم كبير للغاية في أي مجتمع مُضيف.

«لكن اللجوء السوري الطويل في تركيا ليس سبباً لتعثر الاقتصاد التركي في قطاعات كثيرة كالعقارات والصناعة وتداولات البورصة، ولا يتحمل مسؤولية التضخم المالي»، يقول الباحث الاقتصادي والأستاذ في جامعة لوزان جوزيف ضاهر لـ«الشرق الأوسط». ويضيف ضاهر: «على العكس من ذلك، ساهم اللجوء السوري في رفد سوق العمل التركية باليد العاملة الرخيصة، في قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات؛ ما أدى إلى مزيد من تراكم رأس المال والأرباح لرجال الأعمال الأتراك». وبالتالي «لم يكن اللجوء سبباً في زيادة نسب البطالة الكلية ولا في تجويع الأتراك، كما تدعي عديد من الجهات الفاعلة السياسية التركية ذات التوجهات القومية والعنصرية». ويوضح ضاهر أن اللجوء السوري في تركيا، «ساهم في بدايته، بحدوث نمو في الاقتصاد التركي، مع هجرة كثير من الصناعيين ذوي الملاءة المالية الصغيرة والمتوسطة، من حلب وريفها ليفتتحوا ورشاتهم ومصانعهم جنوب تركيا».

وهؤلاء استثمروا أموالهم في الاقتصاد التركي واستعانوا بيد عاملة سورية وتركية على السواء ضمن شروط الاستثمار الاجنبي المعمول بها حتى الآن والتي تفرض توظيف 5 أتراك مقابل كل عامل أو موظف أجنبي أياً كانت جنسيته. لكن هنا أيضاً وبسبب التضييق الحكومي والمجتمعي وغياب أي آليات ناظمة واضحة اضطر كبار الصناعيين والمستثمرين السوريين، لا سيما في قطاعات صناعة النسيج والقطن والألبسة، بالإضافة إلى الصناعات الغذائية، إلى نقل مصانعهم وأعمالهم إلى مصر.

وفي 2014 بدأ تدفق أموال من نوع آخر إلى تركيا، وهي أموال المانحين الدوليين لدعم اللاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة لهم. ولعل السبب الفعلي كان وقف قوافل الهجرة غير الشرعية براً وبحراً إلى أوروبا فيما عرف حينها بـ«أكبر أزمة لجوء» في التاريخ الحديث، لكن تركيا لم توفر جهداً في «استخدام قضية اللاجئين السوريين للضغط على الاتحاد الأوروبي، لتقديم تنازلات سياسية لتركيا، وأيضاً للحصول على مزيد من التمويل» بحسبما يقول ضاهر، مضيفاً: «كان لتركيا حصة وازنة في المساعدات الدولية بوصفها إحدى كبريات الدول المضيفة للسوريين».

وبحسب الأرقام المتوفرة على موقع المفوضية الأوروبية لشؤون اللاجئين، وصل إجمالي مساعدات الاتحاد الأوروبي المخصصة لتركيا منذ عام 2011 ما يقارب 10 مليارات يورو. بينها 6 مليارات يورو بين عامي 2016 و2019، و535 مليون يورو في تمويل الجسر الإنساني عام 2020، و3 مليارات يورو كتمويل إضافي للفترة بين 2021 و2023.

لكن الحرب الروسية ضد أوكرانيا، بحسب ضاهر، «غيّرت أولويات المانح الأوروبي، وأدت إلى ما بات يعرف بـ(تعب الممول)؛ ما تسبب بتراجع كبير في عدد المنظمات المدنية العاملة مع السوريين في تركيا والمعتمدة في تمويلها على المساعدات الأوروبية».

وعلى رغم تراجع الاهتمام الغربي بدعم اللاجئين السوريين في دول الجوار وبينهم تركيا، فإن ذلك «لا يفسر فعلياً الأجواء المشحونة بالعنصرية الموجهة ضدهم في المجتمع التركي. إذ بالأصل، نسبة كبيرة من السوريين في تركيا لا يقيمون في المخيمات، ولا يتلقون دعماً مالياً مباشراً، بل يعتمدون على أنفسهم في العمل، وبالتالي في توليد دخل يتم ضخه في الاقتصاد التركي»، كما يذهب ضاهر.

عودة طوعية وترحيل ممنهج

في السنوات القليلة الماضية تبنت أحزاب المعارضة التركية وحتى الحكومة التركية بمختلف تياراتها الشعبوية، خطاباً ولغة وسياسة أكثر تشدداً ضد اللاجئين السوريين، تبخر معها الكثير من آثار التضامن السابقة. وخلال السنة الأخيرة وحدها، أُعيد إلى مناطق سيطرة المعارضة السورية شمال غربي سوريا، نحو نصف مليون لاجئ، ضمن سياسة ترحيل ممنهج تسمى «العودة الطوعية»، ولكنها تجمع بين الترغيب والإجبار، والملاحقة والتضييق، والحملات المباغتة لاعتقال وتوقيف المخالفين لقواعد الحماية المؤقتة.

سوريون ينتظرون العبور إلى سوريا من تركيا عند معبر بالقرب من مدينة أنطاكيا فبراير 2023 (أ.ب)

وإن كان كل ذلك مفهوماً في معرض التراشق السياسي، إلا أنه يعجز عن تفسير بيان صادر عن 41 منظمة غير حكومية تركية في مدينة غازي عينتاب التركية، في 17 يونيو (حزيران) الماضي، يُحذّرُ من «تحولات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية تهدد هوية المدينة ومستقبلها، وسط حياة لم تعد تُطاق تحت وطأة تدفق اللاجئين السوريين».

في هذا السياق، يقول الصطوف لـ«الشرق الأوسط»: «إن البيان شكّل صدمة للمشتغلين في العمل الإنساني. ولكن، حتى المنظمات المدنية، يمكن لها تحت ظروف شحن سياسية خانقة كما هو الوضع اليوم، أن تخضع لضغط الشارع ومزاجه، بما لا يستقيم مع أهدافها في العمل المدني. الأمر ذاته، تمكن ملاحظته معكوساً، في صمت المنظمات السورية غير الحكومية العاملة في تركيا، من تصاعد موجة العداء للاجئين السوريين، التي تخشى من سحب ترخيصها أو إيقافها عن العمل أو ملاحقة أعضائها».

احتجاجات الشمال وعقدة المعابر

وسط الأجواء المشحونة والقلق الذي يعيشه السوريون في تركيا، جاء الحديث عن محاولة تقارب جديدة بين أنقرة ودمشق، بمبادرة عراقية ورعاية روسية ليؤجج مزيداً من المخاوف والتكهنات، لا سيما في الشمال السوري الخاضع لسيطرة تركية.

فاندلعت مظاهرات حاشدة في ريف حلب الشمالي منددة بالوجود التركي، نتيجة عدم التزامه بدوره كضامن للمعارضة في اتفاق آستانة، ومتهمة إياه بالتخلي عن مناطق المعارضة في الشمال الغربي لصالح النظام.

جنود أتراك عند نقطة عسكرية داخل الحدود مع سوريا في شمال حلب (أ.ف.ب)

الجانب التركي رد بإغلاق المعابر الحدودية، وقطع الإنترنت والاتصالات عن مناطق المعارضة. المظاهرات الغاضبة، تحولت بسرعة محاولاتٍ لاقتحام بعض المعابر مع تركيا، وأحداث عنف وتكسير لشاحنات تحمل لوحات تركية في ريف حلب الشرقي، وتمزيق للأعلام التركية. تصاعد لم يتوقف إلا بعد هجوم على قاعدة عسكرية تركية في مدينة عفرين شمال غربي حلب، ردّ جنودها بإطلاق نار مباشر تسبب بمقتل 4 من المهاجمين وإصابة العشرات.

كذلك، تخشى أوساط المعارضة في شمال غربي سوريا أن يكون أي تقارب على حساب هذه المناطق التي يقطن فيها نحو 6 ملايين سوري أكثر من نصفهم من النازحين والمهجّرين قسرياً من مناطق النظام. فبالنسبة إليهم، يبقى الوضع القائم على مساوئه وعلاته، أفضل من العودة إلى سيطرة النظام العسكرية والأمنية وإمساكه بالمعابر التي تعدّ شريان الحياة هناك.

وكانت محاولة التقارب السابقة بين النظام السوري وتركيا، تسببت بموجة احتجاجات في مناطق المعارضة، قبل أن تتوقف المحاولة في 2021؛ نتيجة إصرار النظام على انسحاب تام للقوات التركية من الأراضي السورية.

وفيما فُسّر كخطوة جديدة ضمن مسار التطبيع السريع، عودة الحديث عن إمكانية افتتاح معبر أبو الزندين الذي يربط مناطق الحكومة المؤقتة (المدعومة تركياً) بمناطق النظام، أمام الحركة التجارية، علماً أن أبو الزندين هو المعبر الوحيد الذي لا يزال مغلقاً منذ مارس (آذار) 2020 نتيجة انهيار محاولة التقارب حينها بين أنقرة ودمشق.

وسرعان ما تحولت قضية المعبر أزمةَ ثقة بين مناطق المعارضة والوجود التركي فيها، تدخلت فيها أطراف متعددة لغايات متناقضة، وتطورت إلى اشتباكات مسلحة، للمرة الأولى بين الطرفين.

وتشكّل المعابر، الشرعية وغير الشرعية، بين مناطق النظام والمعارضة، عقدة مركبة، تتداخل فيها عوامل محلية تتعلق بنزاعات بين فصائل المعارضة المسلحة المنضوية تحت راية الجيش الوطني المدعوم تركياً، للسيطرة على إيرادات المعابر المالية، وما يسببه ذلك من فوضى أمنية وعدم استقرار عسكري.

كذلك، هناك عامل يتعلق برغبة روسيّة في استعادة الحركة على الطريق الدولية حلب - اللاذقية M4، وفتح المعابر بين مناطق المعارضة ومناطق النظام، كخطوة أولى لأي تطبيع محتمل. وبحسب صحيفة «الوطن» السورية شبه الرسمية، سيعود ذلك بالانتعاش الاقتصادي لمناطق النظام، وإعادة فتح طريق ترانزيت بين غازي عنتاب التركية مروراً بأعزاز في ريف حلب، إلى معبر نصيب عند الحدود الأردنية. ويتيح ذلك إمكانية تدفق البضائع التركية إلى الخليج العربي براً عبر سوريا، بعد انقطاع استمر 13 عاماً.

جهاد يازجي، باحث مختص بالاقتصاد السوري، قلل في حديثه لـ«الشرق الأوسط» من التوقعات الاقتصادية المتفائلة لفتح المعبر أمام الحركة التجارية وقال: «انتقال البضائع لم يتوقف بين الطرفين، حتى مع إغلاق المعابر الرسمية، والتبادل التجاري لم ينقطع، إما عبر المعابر غير الشرعية أو عبر طرق طويلة تمر بمناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)»، موضحاً أن «أهمية افتتاح المعبر، ليست اقتصادية في هذه المرحلة، وإنما سياسية لأن المتضرر الفعلي هي شبكات التهريب التي تنشط في المنطقة، والحواجز الأمنية والعسكرية». وبالتالي، إذا صدقت الوعود التركية حول إنشاء إدارة مدنية بالكامل لإدارة المعبر، فالمستفيد بالدرجة الأولى بحسب يازجي هم «منتجو البضائع المحليون؛ لأن ذلك يسرع من حركة نقل البضائع، ويخفف من تكلفتها».

لكن الاحتجاجات المناهضة لمسار التطبيع بين أنقرة ودمشق التي شهدتها مدينتا الباب وأعزاز بريف حلب كشفت الأطراف المشاركة.

متظاهر سوري أمام شاحنة تركية محترقة عند الحدود السورية - التركية (أ.ف.ب)

فالتشكيلات المدنية شاركت في المظاهرات لأسباب سياسية وتضامنية مع اللاجئين في تركيا، في حين أن أكثر من عارض افتتاح المعبر بشكل مباشر هي الشبكات المرتبطة بفصائل الجيش الوطني خشية خسارة مزدوجة؛ نقل إدارة المعبر لجهة مدنية، وانخفاض مردود عمليات التهريب نتيجة افتتاحه. وبالفعل، هاجمت مجموعة من القوى العسكرية المنظمة، المحسوبة على فصائل الجيش الوطني، المعبر، وعطّلت العمل به، بحسبما قال مصدر عسكري مطلع لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح المصدر أن «تلك الفصائل سواء كانت من عشائر دير الزور في المنطقة الشرقية، أو من ريف حلب، فهي متجذرة في المنطقة، ولها هرمية واضحة وعصبة تنظيمية، وقادرة على الدفاع عن مصالحها». وبالتالي، فإن «مهاجمة المعبر تدخل ضمن محاولة الضغط على الجانب التركي وفرض حصتها أو مصالحها».

وعلى أثر ذلك، تدخلت الشرطة العسكرية التابعة للجيش الوطني (المدعوم من تركيا)، واعتقلت بعض المشاركين في الهجوم على المعبر وتعهدت بملاحقة «من تسوّل له نفسه فعل ذلك مجدداً»، وسط أنباء بإعادة المعبر إلى رعاية مباشرة من أنقرة؛ لضمان خط التقارب مع دمشق برعاية روسية.

مسلحون من فصائل المعارضة السورية في منطقة الباب التي شهدت احتجاجات ضد الوجود التركي (أ.ف.ب)

طريق سريع إلى باب موصد

خلال أقل من عشرة أيام، اندلعت موجات متعاقبة من الفوضى والعنف في مجتمعات محلية تقطن مناطق مختلفة على طرفي الحدود السورية - التركية، وانقلبت معها حياة مئات الآلاف وتعرّضت للخطر. الاكتفاء بتوصيف الأتراك بالعنصرية، كالاكتفاء بتوصيف السوريين بالضحايا، لن يقود إلى أي إمكانية لتجاوز المحنة الراهنة، وذلك كالإغراق بإنكار الوقائع والتغني بالأخوة بين الشعوب.

تراجع الاقتصاد التركي، وإن كان اللاجئون السوريون لا يتحملون مسؤوليته، إلا أنهم ضحاياه الاجتماعيين، بوصفهم الحلقة الأضعف. كما أن تصاعد العنصرية ضدهم، ليس سمّة خاصة بشعب ما؛ إذ يكفي النظر في ما يتلقاه اللاجئون في بقية دول الجوار، لمعرفة أن الحال من بعضه.

كذلك، فإن الفساد المستشري شمال غربي سوريا، وفشل تشكيلات المعارضة في إنتاج بدائل حوكمة تداولية، ليس ذنباً تركياً خالصاً وإن كان الأتراك يتحملون مسؤولية كبيرة في تغليب المحسوبية والاستزلام في علاقاتهم مع السوريين. فشل المعارضة في إقامة نموذج للحكم العادل في مناطقها، يقطع مع إرث النظام السوري في العنف والفساد، أمر ليس ثانوياً، ويجب أن يتحمل السوريون مسؤوليتهم عما آلت إليه أحوالهم.

وإن كانت الحملة العنيفة الأخيرة ضد اللاجئين تم احتواؤها اليوم، فلا يمكن التنبؤ بموعد ومكان موجتها المقبلة، في غياب أي حل عملي على الأرض، يقي مجتمع اللاجئين والمجتمعات المضيفة، خطر الصدام مجدداً.

* صحافي وباحث سوري